1436/11/19
حديث (أَلاَ أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ ) وحديث (إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ ) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَوَّى- ثِيَابَهُ قَالَ مُحَمَّدٌ [بن أبي حرملة الراوي] وَلاَ أَقُولُ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ - فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ؟! فَقَالَ : ( أَلاَ أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ !) (1) غريب الحديث: تَهْتَشَّ: من هَشَّ ، الهاء والشين أصل صحيحٌ يدلُّ على رخاوةٍ وليْنٍ، ومنه رجلٌ هشٌ: طلقُ المحيّا. (2) قال القاضي عياض – رحمه الله -: المعنى استبشر، وهشَّ للمعروف، نشط وخفَّ ورجل هشٌّ: ضحّاك، والاسم منه الهشاشة والبشاشة؛ المبّرة والملاطفة وإظهار المسرة، والنشاط لذلك (3) . * عن سَعِيْدَ بْنَ الْعَاصِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعُثْمَانَ حَدَّثَاهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ، لاَبِسٌ مِرْطَ عَائِشَةَ فَأَذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ كَذَلِكَ فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، قَالَ عُثْمَانُ: ثُمَّ اسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَجَلَسَ، وَقَـالَ لِعَائِشَـــةَ: « اجْمَعِي عَلَيْكِ ثِيَابَكِ » . فَقَضَيْتُ إِلَيْهِ حَاجَتِي ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي لَمْ أَرَكَ فَزِعْتَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] كَمَا فَزِعْتَ لِعُثْمَانَ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ وَإِنِّي خَشِيتُ إِنْ أَذِنْتُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ أَنْ لاَ يَبْلُغَ إِلَيَّ فِي حَاجَتِهِ ». (4) غريب الحديث: حَيِيٌّ: الحاء والياء والحرف المعتل أصلان: أحدهما الحياة خلاف الموت، والآخر، الاستحياء الذي هو ضدُّ الوقاحة. وهو المراد في الحديث. ومنهُ قولهم: استَحْيَيْتُ مِنْه اسْتِحْيَاءً، ويصح إدغام إحدى الياءين في الأخرى «استحيت»(5) قال القاضي عياض – رحمه الله -: الحياء في الغرائز والطِّباع من خصال الإيمان(6) لأن المستحيي ينقطع بحيائه عن المعاصي. و قال ابن الأثير – رحمه الله -: جعل الحياء من الإيمان، لأن الإيمان؛ ينقسم إلى ائتمار بما أمر الله به، وانتهاء عمّا نهى الله عنه، فإذا حصل الانتهاء بالحياء كان بعض الإيمان (7) من فوائد الحديثين: 1/ فيهما منقبة عظيمة اختصَّ بها عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وذلك لمقامه مقام الحياء، بتعظيم الحقِّ تبارك وتعالى، مع التبجيل والتوقير ورؤية نفسه بعين النقص والتقصير، فعلت رتبته، وشرفت منزلته فاستحيت منه خلاصة الله من خلقه، نبيُّه وملائكته ..! (8) . 2/ الحياء صِفَةٌ جميلة من صفات الملائكة (9) ، وأخلاق سيد المرسلين، فقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ حياءً من العذْرَاءِ في خِدْرِهَا (10) ، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم نوعي الحياء، فكان في الغريزي كما في الحديث السابق، وكان في الحياء المكتسب في الذروة العُليَا (11) . 3/ من صفات الله العُليا أنه «حَيِيُّ »، وهو سبحانه يحب أسماءه وصفاته، ويحب أهل الحياء المتعبدين له بها، ويحب من يسأله ويدعوه بها، ومن حكمته سبحانه إظهار هذه الصفة فمن شاء من خلقه، ليستدل به على كمال أسمائه وصفاته، ويكون ذلك أدعى إلى محبته، وحمده وتمجيده، والثناء عليه بما هو أهله، فتحصل الغاية التي خلق لها الخلق (12) . 4/ الحث على التحلّي بخلق الحيَاء، وهو مشتق من الحياة، والغيث يسمَّى حيَا ، لأن به حياة الأرض، والنبات والدّواب، ومن لا حياء فيه فهو ميت في الدنيا شقي في الآخرة، وبين الذنوب وقلة الحياء وعدم الغيرة تلازم من الطرفين، كلاهما يستدعي صاحبة ويطلبه حثيثـًا وحقيقة الحياء: خلق متولِّدٌ من حبّ الله وتعظيمه ورؤية آلائه، ومراقبته واستشعار التقصير والتفريط في عبادته، فيتولّد الحياء الباعث على المواظبة على الطاعة وترك القبائح. 5/ قال ابن القيّم – رحمه الله -: ومن (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (13) منزلة الحياء . قال تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجلٍ من الأنصار يِعِظُ أَخَاه في الحياءِ فَقالَ صلى الله عليه وسلم : ( دَعْهُ فإِنَّ الحَياءَ مِنَ الإِيْمانِ )(14) (15) قال ابن العربيّ – رحمه الله -: صار الحياء وهو جبلّةٌ من الإيمان المكتسب، لما يفيد من الكفِّ عمّا لا يحسنُ، فعبّر عنهُ بفائدته . ا. هـ (16) . 6/ اختلف أهل العلم – رحمهم الله - في مقدار عورة الرجل (17) ، وذهب الجمهور مالك والشافعي وأحمد – في أشهر الروايتين - ، وأبو حنيفة والطحاوي وشيخ الإسلام ابن تيمية والأوزاعي و أبو ثور. إلى أن عورة الرجل من السرَّة إلى الركبة. قال النووي: وهو قول أكثر العُلماء . أدلتهم: قال ابن الجوزي (18) : أصلح الأحاديث التي احتج بها الجمهور ما يأتي: 1) حديث محمد بن جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على مَعْمَر بفناء المسجد محتبيًا كاشفًا عن طرف فخذه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :( خَمِّر فَخِذَكَ يَا مَعْمَر فَإِنَّ الفَخِذَ عَوْرَةٌ ). (19) 2) حديث جَرْهَد الأسلمي، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم مرَّ به وهو كاشفٌ عن فخذه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (غَطِّ فَخِذَك، فإنها من العورة ) (20) . 3) حديثُ ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما - عن النبَّيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ( الفَخِذُ عَوْرَةٌ ). (21) 4) حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مُرُوا أبْناءكُمْ بِالصَّلاةِ لِسَبْعٍ سِنيْنَ واضْرِبُوهُم عَلَيْها لِعَشِر سِنيْنَ وَفَرِّقُوا بَيَنَهُمْ في المضَاجعِ وإذا نَكحَ أَحَدُكُم عَبْدهُ أوْ أجِيْرَهُ فلاَ يَنْظُرنَّ إلى شيءٍ مِنْ عَوْرَتِهِ فَإِنَّما أَسْفَل مِن سُّرَّتِهِ إِلى رُكبَتَيْهِ مِنْ عَوْرَتِهِ ) (22) 5) حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تُبْرِزْ فَخِذَك ولاَ تَنْظُر إلى فَخِذ حيٍّ ولاَ مَيِّتٍ ) (23) . فهذه الأحاديث تتضمن إعطاء حكم كلِّي وإظهار شرع عامٌّ، فكان العمل بها أولى (24) . وذهب مالك وأحمد في رواية، وابن حزم، وأهل الظاهر إلى أن عورة الرجل هي القبلان. أدلتهم: 1) قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (25) ، (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) (26) وجه الدلالة: اختصاص الأمر بحفظ الفروج ومواراة السوأة باللباس وليس فيه ذكر ما سواها من الفخذ وغيرها . الجواب عنه: ذكر مواراة السوأة ليس فيه تحديد لمقدارها، الآية الثانية: معطوف عليها أمر النساء بمثل ما أمر به المؤمنون ولم يقل أحد إن عورة المرأة هما القبلان فقط! 2) حديث عائشة المذكور في المتن وأنه صلى الله عليه وسلم كان كاشفًا فخذه أو ساقه. قال القاضي عياض والنووي – رحمهما الله -: لا دلالة فيه على أن الفخذ ليس بعورة، لأنه مشكوك في المكشوف منه، هل هما الفخذان أم الساقان.. ؟ وهي قضية عينٍ فلا عمومَ لها ولا حجة فيها. قال ابن حجر – رحمه الله -: وفي رواية أحمد جزم بأنهما الفخذان بلا تردد (27) . والحقيقة أن احتمال كشفهما واردٌ بقوة، من سياق الأحاديث الماضية في المتن، فإنَّ فزع النبي صلى الله عليه وسلم وتسوية ثيابه وتغيير هيئته لم يكن يتأتىَّ لو كان المكشوف ما يعتاد الرجل كشفه من ساقيه . 3) حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر فصلَّينا عندها صلاة الغداة بغلس فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم وركب أبو طلحة وأنا رديف أبي طلحة، فأجرى نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمسُّ فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم ... )(28) متفق عليه. قال النووي – رحمه الله -: وهذا محمول على أنه انحسر بنفسه لا أن النبي صلى الله عليه وسلم تعمّد كشفه(29) . فحدث ضرورة لأجل الجري في الزقاق عند حرب أهل خيبر. - وقال ابن حجر – رحمه الله -: لو كانت الفخذ عورة لما أُقِـرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على انكشافها ولأمر بسترها حالاً ولو حصل ذلك بغير قصد منه إلى كشفها، لعصمته صلى الله عليه وسلم ، ولو فرض أن ذلك وقع لبيان التشريع لغير المختار لكان ممكنًا، ولكن فيه نظر من جهة أنه كان يتعين حينئذٍ البيان عقبه، بجواز كشفه في مثل هذه الحال وقوله: « فأجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر .. » دليل ظاهر على استمرار انكشافه منه (30). وتردد البخاري – رحمه الله - في ترجيح أحد الحكمين وعبّر عن الخلاصة لهذه المسألة بعبارة جزلة موجزة هي: قوله – في الترجمة -: يُروى عن ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( الفخذ عورة) وقال أنس: حسر النبي صلى الله عليه وسلم عن فخذه. وحديث أنس أسنَدُ، وحديث جرهدَ أحوطُ حتى يُخرج من اختلافهم (31) قال ابن تيميَّة – رحمه الله -: - ما روي في وجوب ستر الفخذ من وجوه يشدُّ بعضها بعضًا، ولأن ستر العورة إنما وجب لما في كشفها من الفحش والقبح، وهذا يشترك فيه الفخذ. - ولأن ما حول السوأتين من حريمهما، وستره تمام سترهما، والمجاورة لها تأثير في مثل ذلك فوجب أن يُعطى حكمهما. - وما نقل من كشف فخذه فهو – والله أعلم – إما أن يكون منسوخًا، أو حصل بغير قصدٍ، أو كان المكشوف أوائل الفخذ من جهة الركبة وفوق ذلك بقليل فإن الركبة والسرة ليستا من العورة. ا.هـ (32) . وهذا الراجح – والله أعلم – فالأمر بستر الفخذ للرجل محمول على الاستحباب الشديد على أن الأصل ستره والاستحياء من كشفه ولكن لا يأخذ حكم العورة الكبرى فيجوز كشفه لحاجة، كالجري في الحرب، وتأبير النخل، وصيد السمك ونحوه. قال ابن القيم – رحمه الله -: وطريق الجمع بين هذه الأحاديث أن العورة عورتان، مخفّفة ومغلّظة، فالمغلظة السوأتان، والمخففة الفخذان. ولا تنافي بين الأمر بغض البصر عن الفخذين لكونهما عورة، وبين كشفهما لكونهما عورة مخففة - والله تعالى أعلم – (33)
-
تصلك هذه الرسالة لكونك مشتركاً في القائمة البريدية لموقع شبكة السنة النبوية وعلومها.
-
لإلغاء الإشتراك من القائمة البريدية يرجى الدخول إلى الصفحة الرئيسة لموقع شبكة السنة النبوية وعلومها:انقر هنا...
-
تصلك هذه الرسالة من بريد مخصص للإرسال فقط، إذا كان هناك أي استفسار أو تعليق انقر هنا...
-
لدعوة أصدقائك لزيارة موقعنا انقر هنا...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق