1436/4/6
حديث (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ ...) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلاَلُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَتْ: فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أَقْلَعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ وَيَقُولُ : أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَــــةً بـــــِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِــــــيــــلُ؟ وَهَــــــــلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَـــاهَ مَجَنَّةٍ؟ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ ». (1) غريب الحديث: صاعها ومدِّها: الصاع مكيال لأهل المدينة معلوم ، فيه أربعة أمدادٍ ، بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم ، والمدُّ مقدّر بأن يمدَّ الرجل يديه فتملأ كفيَّه طعامًا ولذلك سمِّي مُدًّا فالمدّ رطل وثُلُث ، والصاع خمسة أرطال وثلث، وهذا قول الحجازيين وهو الصحيح. وقيل المد يساوي رطلان. ويقال: صَاع وصُواع وجمعه أَصْوُع وصِيْعَان، وقيل آصُع والصَّواب ما تقدَّم (2) . الجُحْفَة: بالضم ثم السكون والفاء، قرية كبيرة جامعة ذات منبر على طريق المدينة من مكة، على أربع مراحل وهي تساوي 82 ميلاً. وهي ميقات أهل مصر والشام إن لم يمروا على المدينة وإن مروا بالمدينة فيمقاتهم ذو الحُليفة. كان اسمها مَهيعَة وقيل على وزن عَظِيْمـة، وإنما سمِّيت الجُحْفَة لأن السيل اجتحفها وحمل أهلها في بعض الأعوام(3) . من فوائد الحديث: 1/ فيه الالتجاء إلى الله سبحانه بالدعاء للتداوي به عن الاسقام ودفع الوباء، وأثره الطيب في سُرعة البرء من الأمراض، والشفاء منها، ودفعها، وإظهارِ الخضوع والتذلل لله سبحانه (4). 2/ جوازُ سؤال العبد ربَّه تعالى صحةَ جسمهِ وكشفَ الضرِّ إن نزل به، كما يسألُه الرزقَ والنصر، وليس في دعاء المؤمن ورغبته ذلك إلى الله تعالى لومٌ أو قدحٌ في دينه، وتوكله، رضاه فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر الدعاءَ والتضرعُ لله بالخير ودفع الشر، (بعدد يفوق الحصر) والدعاءُ من جنس الأعمال الصَّالحة فمن منعه أو تركه اتِّكالاً على ما قدِّر لزم منه ترك العمل جملةً، وردُّ البلاءِ بالدعاءِ كردِّ السهم بالتّرس، وليس من شرط الإيمان أن لا يتترس العبدُ (5) . 3/ وَعْكُ أبي بكر وبلال - رضي الله عنهما - وإنشادهما يظهر ما شاءه الحكيم سبحانه من ابتلاء نبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة وفراق الوطن وابتلاء أصحابه بما يكرهون من الأمراض التي تؤلمهم، فتكلم كل منهم بحسب يقينه وعلمه بعواقب الأمور وظهر فضل أبي بكر وعلمه بسرعة فناء الدنيا ويقينه بزوالها، وكراهية بلال لصناديد الكفر من قريش، وإشفاق النبي صلى الله عليه وسلم وانتصاره لأصحابه بالدعاء (6) . 4/ قال ابن بطال – رحمه الله -: « في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يحبب الله سبحانه إلى أصحابه المدينة كحبِّهم مكة أو أشد .. » دليل على أن أسباب المحبة والكراهية بيد مصرِّف القلوب سبحانه، ومحبَّةُ الشيء هِبَة يهبها الله لمن شاء . قال: وفي هذا حجَّةٌ واضحةٌ على من كذَّب بالقدر، إذِ الذي يملكُ النفوسَ فيحببُّ إليها ما أحبَّ، ويكرِّه إليها ما كره هو الله سبحانه، فأجاب الله سبحانه دعوة نبيِّه صلى الله عليه وسلم فأحبُّوها حبًّا أدامه في نفوسهم حتى ماتوا عليه (7) . 5/ وفيه جواز الدعاء على العدو الكافر، بما يُهلكه من الأمراض والأسقام والهلاك، ويُشغله عن المسلمين، والدعاء للمسلمين بالصِّحة والسلامة، وطيب البلاد رحمة لهم، والدعاء على اليهود نقمة عليهم، فقد كانت الجُحْفَة يومئذ دار شرك ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على أهلها بالحمَّى ليشغلهم بها فلم يبق أحد من أهل الجحفة في ذلك الوقت إلا أخذته الحمّى، فلم تزل الجحفة من يومئذ أكثر بلاد الله حمَّى ويتَّقى شرب الماء من عينها الذي يقال له: عين صم، وقلَّ من شرب منه إلا صُمَّ وهو متغير الطعم(8) . 6/ وفيه آية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وعلامة من علامات نبوته وبركة دعوته، وهو دفع الوباء عن المدينة فلا يصيبها طاعون أبدًا، وحلول البركة في نفس الكيل بحيث يكفي المدّ في المدينة ما لا يكفي في غيرها، ويحتمل أن ترجع البركة إلى التصرف بها في التجارة وأرباحها، أو كثرة ما يكال من غلاّتها وثمارها أو في المكيل بها لاتساع عيشهم عند الفتوح حين كثر الحمل إلى المدينة، وزاد مدّهم وصار هاشميًا مثل مدِّ الرسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين أو مرة ونصفًا (9) . 7/ قال القاضي عياض – رحمه الله -: قدوم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وهي وبيئة لا يخالف نهيه عليه السلام عن القدوم إذا سمع الوباء بأرض(10)، لأن ذلك في الوبــاء العام، والطواعن النَّازلة، وما كان بالمدينة من حال البلاد الوَخِمَة بحرارة هوائها، وقد يألفها ساكنوها، ويختلف حال النازل والوارد عليها، فتعتريهم الأمراض لاختلاف الهواء عليهم، وقد يستقلون منه كسائر الأمراض. ووباء الطاعون إنما هو موت ذريع. وقد يقال إن هذا القدوم قبل نهيه عليه الصلاة السلام عن ذلك لأن هذا الحديث في أول الهجرة(11). 8/ وفيه جواز عيادة المرأة الرجل المريض إذا كانت ذات محرم منه أو كانت مستترة متجالّة يُؤمَنُ من مثلها الفتنة بها، وزيارة عائشة قبل فرض الحجاب قطعًا (12). 9/ وفيه عيادة السَّادة الجلَّة لعبيدهم لأن بلالاً عبد أعتقه أبو بكر - رضي الله عنه – (13). 10/الترغيب في سكنى المدينة والصبر على شدائدها، وفضلها على سائر البقاع وحلول البركة فيها إلى يوم القيامة (14) 11/ وفيه تمثل الفضلاء والصالحين بالشعـر، وارتجازه وإنشاده، قال ابن حزم – رحمه الله -: من نوى به ترويح القلب وسلواه حتى يتقوى على الطاعة فهو مطيع، ومن نوى به التقوي على المعصية فهو عاصٍ، وإن لم ينو شيئًا فهو لغو معفوٌ عنه. وقال غيره: إذا سلم من تضييع فرض ولم يترك حفظه فهو محمود وربما أُجِر (15) (1) متفق عليه رواه البخاري – واللفظ له –(320ح 3926) و (147ح 1889) وزيادة – قول بلال -: «اللهم العَنْ شَيبَةَ بن رَبِيْعةَ، وعُتْبَةَ بن رَبِيعَة، وأُميَّةَ بنَ خَلَفٍ كما أخرجونا من أرضنا إلى أرضِ الوبَاء»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللهم حبِّب إلينا المدينة ..». ورواه مسلم (906ح 1376) . (2) مشارق الأنوار (2/66)، وينظر: معجم مقاييس اللغة (ص557)، لسان العرب (8/214)، مختار الصحاح (ص156)، الغريب للخطابي (1/248)، النهاية (3/60)، إرشاد الساري (4/434). (3) معجم البلدان (2/111)، معجم ما استعجم (1/367)، المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية (1/354)، شرح الزرقاني (4/278). (4) فتح الباري (10/164). (5) شرح ابن بطال (4/559)، إكمال المعلم (4/496)، المفهم (4/2291)، شرح الكرماني (9/75)، المنهاج (9/152)، الفتح (10/164)، عمدة القاري (10/251). (6) شرح ابن بطال (4/558)، عمدة القاري (10/251). (7) شرح ابن بطال (4/558)، وينظر: عمدة القاري (10/251). (8) شرح ابن بطال (4/559)، المعلم (2/81)، إكمال المعلم (4/496)، المفهم (4/2291)، المنهاج (9/152)، شرح الكرماني (9/74)، إرشاد الساري (4/435)، وعمدة القاري (10/251)، شرح الزرقاني (4/287). (9) ينظر: شرح ابن بطال (4/559)، إكمال المعلم (4/497)، المفهم (4/2294)، المنهاج (9/153)، شرح الكرماني (9/74)، عمدة القاري (10/251)، إرشاد الساري (4/435)، شرح الزرقاني (4/287). (10) متفق عليه (489 ح 5728) بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها ».و مسلم (1071ح 2218) . (11) إكمال المعلم (4/496)، شرح الكرماني (9/74)، الفتح (4/125)، عمدة القاري (10/251)، شرح الزرقاني (4/285). (12) شرح ابن بطال (9/378). (13) شرح ابن بطال (9/378)، التمهيد (22/194). (14) ينظر: المحلى (7/279)، المنهاج (9/154)، شرح الزرقاني (4/288). (15) التمهيد (22/194)، عمدة القاري (10/252).
-
تصلك هذه الرسالة لكونك مشتركاً في القائمة البريدية لموقع شبكة السنة النبوية وعلومها.
-
لإلغاء الإشتراك من القائمة البريدية يرجى الدخول إلى الصفحة الرئيسة لموقع شبكة السنة النبوية وعلومها:انقر هنا...
-
تصلك هذه الرسالة من بريد مخصص للإرسال فقط، إذا كان هناك أي استفسار أو تعليق انقر هنا...
-
لدعوة أصدقائك لزيارة موقعنا انقر هنا...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق