1436/1/27
حديث (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلَاهُ) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلَاهُ قَالَتْ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: « يَا عَائِشَةُ أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ » .(1) غريب الحديث: تَفَطَّرَت: الفاء والطاء والراء أصلٌ صحيح يدلُّ على فَتْح شيءٍ وإبرازه (2) ومعنى تفطرت رجلاه ؛ أي تشققت وتورَّمت من طول القيام (3) شَكُورًا: المراد بها في الحديث الثناء على المعروف (4) والشكر بالقلب التسليم، وباللسان الاعتراف والتحدث، وشكر العمل هو الدوام على طاعة الله سبحانه . ورجل شكور: أي كثير الشكر، وقوله: « أفلا أكون عبدًا شكورا »؛ أي مثنيًا على الله تعالى بنعمته عليَّ، متلقيًّا لها بالازدياد من طاعته. قال القاضي عياض - رحمه الله -: سمي المجازاة بفعل الجميل شكرًا، لأنها بمعنى الثناء عليه وإطرائه على ذلك، والشكر بالفعل أظهر منه بالمقال (5) . من فوائد الحديث: 1/ مشروعيةُ أخذ الإنسان على نفسه بالاجتهاد في العبادة والإكثار منها، والمداومة عليها أسوةً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ومحل الجواز عدم إفضائه إلى الملل، لأن حال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الأحوال، كان لا يمل من عبادة ربِّه وإن أضرّ ذلك ببدنه وأما غيره فإن خَشِيَ الملل فلا ينبغي له أن يكره نفسه على الشدة بل يأخذ بالرخصة ويكلِّف نفسه ما سمحت به وأطاقته لقوله صلى الله عليه وسلم : «خُذُوا من الأَعمَالِ مَا تُطيْقُون، فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتَّى تملُّوا» والملل سبب لترك العمل ، والأولى في العبادة القصد والملازمة لا المبالغة المفضية إلى الترك (6) 2/ وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من عظيم الخشية لله تعالى والمبالغة في طاعته والاجتهاد في عبادته وطلب مرضاته وطول القيام بين يدي ربه حتى ترمَّ قدماه وهو أتقى هذه الأمة وأخشاها لله تعالى. قال ابن بطال – رحمه الله -: وإنما ألزم الأنبياء والصالحون أنفسهم شدَّة الخوف وإن كانوا قد أمنوا عذاب الله سبحانه؛ لعلمهم بجليل فضل الله عليهم وجزيل نعمته لهم وأنه ابتدأهم بها قبل استحقاقها، فبذلوا مجهودهم في شكره تعالى وبالغوا فيه، ليؤدوا بعض حقَّه؛ ولهذا المعنى قال طلق بن حبيب – رحمه الله -: حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، ونعمه أكثر من أن تحصى، ولكنهم أصبحوا قانتين وأمسوا تائبين، وهذا كله مفهوم من قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ )(7) (8) . 3/ مشروعية قيام الليل بصلاة التهجّد والمحافظة عليها شكرًا لله سبحانه على نعمـه وآلائه ومنها مغفرة الذنوب، والشكر يكون بالعمل كما يكون باللسان، وحقيقة الشكر الاعتراف بالنعمة، والقيام بالخدمة والثناء على المنعـم ومحبته والعمل بطاعته، فمـن كثُر ذلك منه سميِّ شَكُورًا قال تعالى ( يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُور)(9) (10) . 4/ قال المهلَّب - رحمه الله - : من فقه الحديث أنَّ الرجل الصَّالح يلزمه من التَّقوى والخشية ما يلزم المذنب التائب، لا يؤمِّنُ التقيَّ صلاحُه، ولا تؤنسُ المذنبَ توبتهُ، ولا تقنِّطه معصيتهُ، بل الكل خائفٌ راجٍ، وكذلك أراد الله تعالى أن يكون عبادُه عاملين بالخوفِ والرجاء اللذَيْنِ ساسَ بها خلقه بعلمه وحكمته (11) . 5/ من كرم الله سبحانه وجوده على عباده إسباغُ النعم وبذلها لهم ورضاه بحمده عليها وشكره على فضله وإن كان ذلك كله من إحسانه وفضله عليهم، وهو سبحانه غير محتاج إلى شكرهم وعبادتهم، لكنه يحب ذلك من عباده، حيث كان صلاح العبد وفلاحه وكماله به. قال تعالى: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ ) (12)(13) ، وقال (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )(14) قال ابن القيم – رحمه الله -: وأثنى المولى سبحانه على خليله إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بشكر نعمه فقال: (شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (15) فأخبر عنه أنه أمة يؤتم به في الخير ا. هـ. 6/ قيَامُ الليل سُنَّةٌ مأثورة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله وواظب عليه وهذا معروف محفوظ متواتر عنه(16) . قال تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً )(17) . 7/ قال القاضي عياض - رحمه الله - : شكر العبد لله؛ اعترافه بنعمه، وثناؤه عليه، وتمام مواظبته على طاعته، قال تعالى) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ( (18) أما شكر الله تعالى أفعال عباده؛ فمجازاتُهم على طاعتهم، وتضعيفُ ثوابها، وثناؤه بما أنعم به عليهم، فهو المعطي، والمثني سبحانه كما في قوله تعالى: (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ )(19)، والشكور: اسم من أسمائه سبحانه وتعالى يتضمن هذا المعنى والله أعلم (20) 8/ سؤال عائشة - رضي الله عنها -: للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ أتصنع هذا وقد غُفِر لك..؟ بصيغة التعجب والإشفاق، سَبَبُهُ ظنُّها أن اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في العبادة ، وتحمله وصبره على مشاقها كان خوفًا من الذنوب وطلبًا للمغفرة والرحمة، فمن تحقَّق له غفران الذَّنب لا يحتاج إلى ذلك، فأفادها النبي صلى الله عليه وسلم أن لهذه العبادة سببًا آخر أتم وأكمل وهو الشكر على حصول النعمة ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « أَفَلاَ أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا » استفهام يتضمن الإشفاق كأن المعنى: ألا أشكره وقد أنعم عليَّ وخصَّني بخير الدارين؟. ولفظ « الشكُور » من أبنية المبالغة يستدعي نعمةً خطيرة، وتخصيصُ العبد بالذكر مشعرٌ بغاية الإكرام والقرب من الله تعالى، والعبوديةُ تقتضي مزيد الشكر، لأنه إذا لاحظ كونه عبدًا أنعم عليه مالكه بمثل هذه النعمة، ظهر وجوب الشكر له غاية الظهور (21) 9/ قال ابن كثير - رحمه الله -: غفران الذَّنب ما تقدم منه وما تأخر تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في جميع أحواله على الطاعة والبرِّ والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو سيد البشر على الإطلاق في الدنيا والآخرة وأشدهم تعظيمًا لأمر الله ونهيه.ا. هـ(22). ومن كان هذا شأنه فحريٌّ به أن يبلغ أعلى مراتب الشكر وأسمى درجات الحمد. 10/ قال ابن القيم -رحمه الله- : الشكر هو الغايـة التي خلق الله الخلـق لها، قال تعالى: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (23) (24) . 11/ منزلة الشكر من أعلى المنازل، وهي فوق منزلة الرضى وزيادة فالرضى مندرج في الشكر وهو نصف الإيمان والإيمان شكر وصبر، وقد أمر الله به ونهى عن ضدِّه، وأثنى على أهله، ووصف به خواص خلقه، وجعله غاية خلقه وأمره، ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سببًا للمزيد من فضله وحارسًا وحافظًا لنعمته، وأخبر أن أهله هم المنتفعون بآياته، واشتق لهم اسمًا من أسمائه فإنه سبحانه هو الشكور وهو يوصل الشاكر إلى مشكوره، بل يعيد الشاكر مشكورًا وهو غاية الربوبية، وأهله هم القليل من عباده (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (25) (1) صحيح ، رواه مسلم – واللفظ له – (1169ح 2820) و (413ح 4837) بزيادة :"فَلَمّا كَثُر لحْمُهُ صلى جَالِسًا، فإذا أرادَ أَنْ يَرْكَعَ، قام فَقَرأَ ثمَّ رَكَعَ ". (2) معجم مقاييس اللغة (ص820) ، لسان العرب (5/55). (3) مشارق الأنوار (2/192)، النهاية (3/457). (4) معجم مقاييس اللغة (ص512). (5) مشارق الأنوار (2/314)، وينظر: لسان العرب (4/425)، مختار الصحاح، (ص145)، إكمال المعلم (8/355)، غريب الحديث للخطابي (1/346)، النهاية (2/493). (6) ينظر: شرح ابن بطال (3/121- 123)، الفتح (1/97) (3/19)، عمدة القاري (7/180)، إرشاد الساري (3/181)، تحفة الأحوذي (2/382)، نيل الأوطار (/93). (7) ينظر: شرح ابن بطال (/121 ، 122)، التمهيد (6/223)، الفتح (3/20)، عمدة القاري (7/180). (8) سورة فاطر، الآية: 28. (9) ينظر: طريق الهجرتين (ص509)، فتح الباري (3/20)، عمدة القاري (7/180) نيل الأوطار (3/93)، وقال القرطبي في التفسير (14/277): ظاهر القرآن والسنة أن الشكر بعمل الأبدان دون الاقتصار على عمل اللسان ا. هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: مذهب أهل السنة أن الشكر يكون بالاعتقاد والقول والعمل. مجموع الفتاوى (11/136) . (10) سورة سبأ، من الآية: 13. (11) شرح ابن بطال (1/73). (12) جامع العلوم والحكم (ص298)، وينظر: عدة الصابرين (ص96) وفيه قول ابن القيم – رحمه الله -. (13) سورة الزمر، الآية: 66. (14) سورة الزمر، الآية: 7. (15) سورة النحل، الآية: 121. (16) التمهيد (8/124). (17) سورة الإسراء، الآية: 79. (18) سورة إبراهيم، من الآية: 7. (19) سورة فاطر، الآية: 30. (20) إكمال المعلم (8/355)، قال القاضي: معنى الشكور ؛ معطي الجزيل على العمل، وقيل المثني على عباده المطيعين، وقيل الذي يزكو عنده العمل القليل ويضاعف ثوابه، وقيل الراضي بيسير الطاعة من عباده .والمنهاج (17/160، 161). (21) ينظر: الفتح (3/19)، إرشاد الساري (3/180)، فيض القدير (5/239)، تحفة الأحوذي (2/382). (22) تفسير ابن كثير (4/185). (23) عدة الصابرين (ص97). (24) سورة النحل، الآية: 78. (25) مدارج السالكين (2/242).
-
تصلك هذه الرسالة لكونك مشتركاً في القائمة البريدية لموقع شبكة السنة النبوية وعلومها.
-
لإلغاء الإشتراك من القائمة البريدية يرجى الدخول إلى الصفحة الرئيسة لموقع شبكة السنة النبوية وعلومها:انقر هنا...
-
تصلك هذه الرسالة من بريد مخصص للإرسال فقط، إذا كان هناك أي استفسار أو تعليق انقر هنا...
-
لدعوة أصدقائك لزيارة موقعنا انقر هنا...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق