1435/1/6
مفهوم التربية في السنة
فالسنة النبوية وضعت للتربية تعريفًا أدق وأشمل، فهي ترى أن التربية هي عملية رعاية، وكلمة رعاية توحي بدلائل وتضمينات تربوية أكثر من غيرها، فمن دلائلها وتضميناتها كونها عملية اهتمام وحرص ورقابة وتعهد وحدب وتهذيب وسمو ورفع وترقية وتزكية وعناية متكاملة لمن توجه إليه رعاية الراعي المسؤول.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الأعظم الذي على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل راعٍ على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته" (1).
والرعاية في اللغة تعني الحفظ وتولي الأمر، نقول: رعى الأمير رعيته، أي: ولي أمرها وساسها وتدبر شؤونها، والرعية: كل من شمله حفظ الراعي ونظره (2).
وهكذا تكون الرعاية المسؤولة في العملية التربوية: روحها وعمادها، وبدونها لا تستقيم ولا تحقق أغراضها وأهدافها.
وهذه النظرة الشمولية للتربية التي ركزت عليها السنة النبوية بكونها عملية رعاية كاملة قوامها المسؤولية التامة، إنما ترسخ دعائم إعداد الإنسان المتكامل الشخصية روحيًا وعقليًا وخلقيًا ووجدانيًا واجتماعيًا وبدنيًا، والذي يجعل دائمًا نصب عينيه أن لربه عليه حقًا، ولنفسه عليه حقًا، ولأهله عليه حقًا، والذي يحب لغيره ما يحب لنفسه، والذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، والذي يسلم الآخرون من لسانه ويده، والذي يفعل الخير بروح إيجابية متعاونة.
والرعاية مسؤولية خطيرة يحاسب عليها من وليت له، ويتحمل تبعة عدم النصح والإخلاص في القيام بها، بل وجعلت السنة النبوية دخوله للجنة رهين إخلاصه فيها.
روى البخاري من حديث معقل بن يسار، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة" (3).
هذا ولو تأملنا الأغراض أو الأهداف التي ترمي إليها التعريفات السابقة للتربية فإننا لا نجد أي تناقض أو تعارض بين هذه التعريفات وما تضمنته السنة النبوية الشريفة من أسس ودعائم بناء الشخصية السوية المتزنة للمسلم المتكامل، بل حوت في مضامينها التربوية كل التعريفات الآنفة الذكر، وأكثر منها بوضوح كامل.
ـ فقد حرصت السنة النبوية على الاهتمام " بتربية الروح".
روى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره" (4).
ولا يستطيع أن يتبع سبيل الجنة المحفوف بالمكاره والشدائد، وتجنب سبيل النار المحفوف بالشهوات واللذائذ إلا من كانت تربيته الروحية تربية قوية، راسخة الدعائم، ثابتة الأركان، وكانت أخلاقه وتصرفاته ومواقفه واتجاهاته انعكاسًا صادقًا لإيمانه القوي بالله عز وجل.
وفي هذا الحديث نجد دعوة إلى ترقية الروح وتهذيب النفس وكبح جماحها وشهواتها ومجاهدتها، لأن في تقوى الله عز وجل، واستشعار رقابته الدائمة سعادة الدنيا والآخرة.
وروى مسلم في صحيحه من حديث صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له" (5).
وبمثل هذه التربية التي رسمت لنا معالمها ورسخت دعائمها السنة النبوية الشريفة نصل إلى تربية "المؤمن" المتكامل الشخصية، ذي النظرة الإيجابية للحياة، الذي قويت همته، واشتدت عزيمته، فلا يلحقه غرور، ولا يحطمه فشل، إن وجد يسرًا شكر الله تعالى وواصل طريقه، وإن وجد عسرًا استعان بالله تعالى، وصبر على المكاره، واستمرت محاولته في تخطي الصعاب والعراقيل التي تعترضه حتى يوفقه الله تعالى إلى بلوغ آماله.
ـ وكذلك حرصت السنة النبوية على "تنمية العقل"، وأحلته مكانة رفيعة لا نظير لها.
وأول خطاب نزل في القرآن الكريم كان موجهًا إلى العقل الإنساني تكريمًا له وتعظيمًا لشأنه، وجعله وسيلة الإيمان الصحيح القائم على الوعي والتدبر والتبصر.
قال تعالى: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ))[سورة العلق: 1-5].
وفي حث القرآن الكريم على تعلم القراءة والكتابة كمدخل أساسي وحيد للمعرفة والعلم والحكمة، وبدء نزول الوحي بكلمة " اقرأ " وإقرانها في التعلم " بالقلم" دعوة للعقل البشري إلى الأخذ بأسباب العلوم والمعارف كطريق إلى الإيمان بخالق الكون والإقرار بوجوده، وكسبيل إلى النظر في الكون وفهمه وتسخيره لمصلحته.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تنمية العقل وصقله بالتجربة والخبرة والممارسة، روى الترمذي من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ولا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة" (6).
أي: لا حكيم كاملاً إلا من جرب الأمور وعلم المصالح والمفاسد، فإنه لا يفعل فعلاً إلا عن حكمة، إذ الحكمة إحكام الشيء وإصلاحه عن الخلل.
ووجهنا رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم إلى أن ترقية العقل وتزكيته لا تكون إلا بالتربية والتعليم.
روى البخاري من حديث مالك بن الحويرث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارجعوا إلى أهليكم فكونوا فيهم وعلموهم وصلوا...." (7).
وروى الحاكم وابن عبد البر من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا العلم وعلموه الناس...." (8).
وإذا كان الشيء النفيس المرغوب فيه كما يقول الإمام الغزالي ينقسم إلى "ما يطلب لغيره"، وإلى "ما يطلب لذاته"، وإلى "ما يطلب لغيره ولذاته جميعًا".
فما يطلب لذاته أشرف وأفضل مما يطلب لغيره، والمطلوب لغيره: الدراهم والدنانير فإنهما حجران لا منفعة لهما، ولولا أن الله سبحانه وتعالى يسر قضاء الحاجات بهما لكانا والحصباء بمثابة واحدة، والذي يطلب لذاته: فالسعادة في الآخرة ولذة النظر لوجه الله تعالى، والذي يطلب لذاته ولغيره فكسلامة البدن، فإن سلامة الرِجل مثلاً مطلوبة من حيث إنها سلامة للبدن عن الألم، ومطلوبة للمشي بها والتوصل إلى المآرب والحاجات.
وبهذا الاعتبار إذا نظرت إلى العلم رأيته لذيذًا في نفسه فيكون مطلوبًا لذاته، ووجدته وسيلة إلى دار الآخرة وسعادتها وذريعة إلى القرب من الله تعالى ولا يتوصل إليه إلا به، وأعظم الأشياء رتبةً في حق الآدمي السعادة الأبدية، وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليها، ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل، ولا يتوصل إلى العمل إلا بالعلم بكيفية العمل، فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم، فهو إذن أفضل الأعمال، وكيف لا وقد تعرف فضيلة الشيء أيضًا بشرف ثمرته! وقد عرفت أن ثمرة العلم القرب من رب العالمين، والالتحاق بأفق الملائكة ومقارنة الملأ الأعلى، هذا في الآخرة، وأما في الدنيا فالعز والوقار ونفوذ الحكم على الملوك ولزوم الاحترام في الطباع، حتى إن أغبياء الترك وأجلاف العرب يصادفون طباعهم مجبولة على التوقير لشيوخهم لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة، بل البهيمة بطبعها توقر الإنسان لشعورها بتميير الإنسان بكمال مجاوز لدرجتها (9).
ـ كذلك اهتمت السنة النبوية بـ(تربية الخُلق) والسمو به، وجعلت الأخلاق الفاضلة أسمى أهداف التربية المتكاملة.
فقد مدح الله عز وجل نبيه الخاتم عليه الصلاة والسلام قائلاً: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) [القلم:4].
وبعث الله عز وجل نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولاً خاتمًا ليتمم مكارم الأخلاق، لأن الأخلاق الفاضلة هي الأساس المتين للحياة الكريمة.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" (10). وفي رواية: " مكارم الأخلاق".
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن عظيم منزلة الخُلق الحسن عند الله تعالى، فقال لمن سأله عن أحب عباد الله إلى الله قال: " أحسنهم خلقًا " (11).
ولما كانوا أحب عباد الله إلى الله كانوا أحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال عليه الصلاة والسلام: " إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا " (12).
فأحسن الناس أخلاقًا، أحبهم إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا من الحث على التحلي بحسن الخلق ما يحمل عليه بكل رغبة لما يترتب عليه من محبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم التي هي سبب لنيل الأجر العظيم، والبعد عن نار الجحيم.
كذلك حرصت السنة النبوية على تكوين المسلم القادر على الاعتماد على نفسه، وتربيته" تربية استقلالية" تؤهله لشق طريقه في الحياة بثقة كاملة في ربه، واعتداد قوي في نفسه، وحرص دائب على ما يصلح أمره وأحواله، وتحقيق طموحاته وآماله.
قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ))[سورة الرعد: 11]. وهذه هي الروح الإيجابية الحقة التي تغرسها التربية المحمدية في الفرد بحيث يكون مؤمنًا قويًا قادرًا على التكيف، وذا إرادة فعالة ونفس طموحة.
روى مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان" (13).
واستكمالاً لتكوين المسلم الكامل القادر المعتمد على نفسه، النافع لغيره حرصت السنة النبوية على توجيهه إلى إتقان حرفة أو مهنة معينة ليكسب بها رزقه المشروع في الحياة بما يمكنه من الاستقلال الشخصي الحقيقي عن غيره، ويحفظه من الذل والهوان ومسألة الناس، ويجعله قادرًا على تحمل أعباء الإنفاق على أهله وذويه.
وضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأسمى في هذا الشأن، فقد رعى الغنم لأهل مكة، واشتغل بالتجارة، وكان دومًا في خدمة أهله.
روى البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجني الكباث، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه" قالوا: أكنت ترعى الغنم؟ قال: " وهل من نبي إلا وقد رعاها" (14).
وفي هذا الحديث نلمس اهتمام السنة النبوية بضرورة إلمام وإتقان المسلم لمعرفة حرفة أو مهنة ما، وعدم استصغار شأنها أو احتقارها مهما كان مستواها ما دامت تمكنه من كسب الرزق الحلال، واتقاء ذل السؤال، فالقادر على الإنفاق على نفسه وأهله- مهما قل رزقه - خير من العاطل الاتكالي الذي يسأل الناس أعطوه أو منعوه.
روى مسلم من حديث عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وهو على المنبر، وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: " اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا: المنفقة، والسفلى: السائلة" (15).
واليد العليا المنفقة: هي اليد العاملة المنتجة، واليد السفلى السائلة: هي اليد العاطلة المتواكلة.
وهكذا يتبين لنا من خلال ما تقدم أن السنة النبوية المطهرة ترى أن عملية التربية عملية " رعاية مسؤولة"، فالراعي سواء أكان أبًا أم مربيًا مسؤول عن رعيته من الناشئين وتولي شؤونهم، وسياسة أمورهم، وتوجيههم وإرشادهم حتى يمكنهم من بلوغ أهداف التنشئة الصالحة السوية المتكاملة التي يسعد بها الفرد، ويكون عضوًا صالحًا خيرًا في مجتمعه، عاملاً على صون تماسكه، وقادرًا على المساهمة في تطويره، وتحقيق غاياته في الرقي والتقدم.
وسيتبين لنا بوضوح أكثر أثناء بحث مختلف المواضيع في الفصول القادمة أن السنة النبوية ذات تراث تربوي زاخر ومعطاء بالأسس والدعائم التربوية التي إذا ما راعيناها في تنشئة أجيالنا اليافعة، وجعلناها منطلقًا وأساسًا لتربيتهم وتنميتهم روحيًا وعقليًا وأخلاقيًا ووجدانيًا واجتماعيًا وبدنيًا - لأعطتنا أينع الثمار وأفضل النتائج، وكان لنا فيها غنى عن كثير من الفلسفات والنظريات المستوردة التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، هذا مع إيجابية فريدة تتميز بها السنة النبوية في كونها لا تغلق الباب في وجه الصالح والمفيد من النظريات العلمية مهما كان مصدرها، وهي في ذلك تحث المسلم على طلب الحكمة والعلم في أي مكان وممن كان، ويكون الحكم دائمًا على صواب أو طلاح الفكرة أو النظرية من حيث محتواها بغض النظر عن واضعها.
وفي هذا الموقف تزكية للعلم والمعرفة، وتنمية للعقل البشري، وتحريض على البحث والاستقصاء والدراسة.
قال تعالى: ((وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)) [سورة طه: 114].
وقال تعالى: ((وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ))[يوسف: 76].
وروى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها" (16).
وروى ابن عبد البر عن علي رضي الله عنه: "العلم ضالة المؤمن، فخذوه ولو من أيدي المشركين، ولا يأنف أحدكم أن يأخذ الحكمة ممن سمعها منه" (17).
وبهذا تظهر التربية المحمدية تسامحًا ونزاهةً لا تضارع في تلقي العلم والمعرفة ما دامت موجهة لخير الإنسانية وإسعادها، بشرط ألا تعارض العقيدة " المنزلة " التي هي قوام البشرية في حياتها الدنيوية والأخروية، ذلك أن العلم الصحيح هو دليل " الإيمان السليم" وسنده، ولا خير في علم بدنيا لا يبصر حامله الآخرة (18).
قال تعالى: ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ))[سورة فاطر: 28].
-
تصلك هذه الرسالة لكونك مشتركاً في القائمة البريدية لموقع شبكة السنة النبوية وعلومها.
-
لإلغاء الإشتراك من القائمة البريدية يرجى الدخول إلى الصفحة الرئيسة لموقع شبكة السنة النبوية وعلومها:انقر هنا...
-
تصلك هذه الرسالة من بريد مخصص للإرسال فقط، إذا كان هناك أي استفسار أو تعليق انقر هنا...
-
لدعوة أصدقائك لزيارة موقعنا انقر هنا...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق