مضار السهر
الحمد لله الذي جعل النهار معاشاً والليل سكناً، وأسبغ على عباده من فضله ونعمائه آلاء ومنناً.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يخلق الخلق عبثاً، ولم يتركهم هملاً، وجعل لنظام الكون مواقيت وسنناً.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرفع الخلق ذكراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام البررة ، ومن تبعهم بإحسان كلما تتابعت الأزمان تترى.
عباد الله:
اتقوا الله، فمن اتقاه وقاه، ومن اعتصم به نجّاه.
أيها المسلمون:
خلق الله الكون وفق نظام بديع، لا عوج فيه ولا خلل، وجعل الشمس ضياء والقمر نوراً، وقدره منازل لمعرفة السنين والحساب، ولتنضبط حياة الناس ويتحقق فيها التوازن ما بين الحركة والسكون، واليقظة والمنام، والعمل والراحة.
وخلق الله تعالى الإنسان وجعله متسقاً مع حركة الكون، فجعل له الليل لباساً يلفه بظلامه؛ ليهدأ ويستريح بعد الكد والسعي، والنوم سباتاً تغفو فيه حواسه؛ لتتمكن بعد ذلك من مواصلة حركتها في النهار الذي جعله الله لها معاشاً ، فسبحانه وتعالى من حكيم خبير، قدر الأزمان وفصلها تفصيلاً، فلا يملك لها أحد تحويلاً، ولا يستطيع لها تبديلاً، قال الله جل وعلا: ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً) [الإسراء: 12].
وقال سبحانه: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً) [الفرقان: 61-62].
أيها المسلمون:
ووفق هذا النظام الدقيق ضبطت العبادات في الإسلام، فجعل الله تعالى الأهلة مواقيت، والقمر منازل، ليعلم المسلمون أوقات الصلوات الخمس في اليوم والليلة، ودخول شهر الصيام وأشهر الحج في كل عام، ويضبطوا حول الزكاة وميعادها، وسائر العبادات والمعاملات التي شرعها الله جل وعلا وافترضها عليهم.
وهكذا تتجلى حكمة هذا النظام البديع، وحكمة اختلاف الليل والنهار، وأن صلاح أمور الناس إنما يكون بالتوافق مع هذه السنن والمواقيت.
قال الله تعالى : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ . قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ . وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [القصص: 71-73].
فسكون الليل وضياء النهار آيتان من آيات الله تعالى، وتعاقبهما رحمة عظيمة من رحمات الله جل وعلا ، فلو كانت الحياة ظلاماً سرمدياً دائماً بلا نهار؛ لعجز الناس عن السعي والعيش، ولو كانت نهاراً سرمدياً دائماً بلا ليل؛ لعجزوا عن الراحة والسكون، وكلا الحالين لا طاقة لأحد به، فما أرحمه سبحانه وأرأفه بعباده.
عباد الله: ومن العجيب- مع هذه الرحمة الربانية بتسخير الليل والنهار- أن يعرض بعض الناس عن حكمة الزمان، وما فيه صلاح الأحوال والأبدان، فيقلب ليله نهاراً ونهاره ليلاً !
إنها تلك الآفة التي تخالف سنة الله في خلقه، وحكمته ورحمته بهم، آفة "السهر" التي عمت بها البلوى فتفشت تفشياً ذريعاً، بسبب تسليط الشيطان من أتباعه وأعوانـه ما يفسـدون به نظام حياة الناس وأوقاتهم.
فمن ذلك: انتشار الفضائيات الفاسدة التي أغوت كثيراً من الناس؛ فيقضون نهارهم كادحين في سعيهم على معايشهم؛ فإذا جنّ عليهم الليل قلبوا سكونه ضجيجاً وسهراً، وليت الأمر يقف عند حد السهر ومخالفة السنة الكونية، بل الأدهى أنه سهر محرم أمام شاشات الفساد والرذيلة.
أيها المسلمون:
وكما خلق الله الكون وفق نظام بديع في ضبط الأوقات بما تصلح به حياة الناس، فقد جاءت السنة المطهرة بالنهي عن تنكب هذا النظام ومخالفته، فقد جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن النوم قبل العشاء وعن الحديث بعدها". (1)
وما ذاك إلا لما في النوم قبل العشاء من احتمال فوات صلاة العشـاء وتأخيرها عن وقتها، وما في الحديث بعدها من السهر الضار الذي قد يفضي إلى التثاقل عن صلاة الفجر بسبب تأخر النوم.
عباد الله:
إن هذا النهي الشرعي عن السهر وكراهة النبي صلى الله عليه وسلم ليدل دلالة أكيدة على مضار هذه الآفة، ومنها:
ضعف البدن ووهنه وكسله؛ بسبب مخالفة حكمة الله تعالى وما شرعه من نظام تستقيم به صحة الأبدان.
ومنها: ضياع صلاة الفجر، تلك الصلاة العظيمة التي جاء في فضلها نصوص كثيرة، قال الله جل وعلا: ( أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) [الإسراء: 78].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً" (متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه). (2)
وصح عن الترمذي عن أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى الصبح فهو في ذمة الله فلا يتبعنكم الله بشيء من ذمته". (3)
وغيرها من الأحاديث الكثيرة في فضل هذه الصلاة العظيمة التي استهان بها كثير من الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن مضار السهر كذلك: إهمال الأعمال في أول النهار بسبب الكسل والخمول المترتب على السهر وقلة النوم.
وكذلك إهمال الأسرة والأولاد بسبب ضياع الوقت في السهر الضار، فلا يكاد ينتفع بالمرء أهله؛ لانشغاله عنهم.
إلى غيرها من المضار المترتبة على آفة السهر، فنسأل الله السلامة والعافية، والتوفيق إلى العمل بمرضاته، واتباع سنته في كونه، والاهتداء بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بسنة خاتم المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام الأنبياء وخاتم المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون:
ومن مظاهر السهر الضار التي تفشت من حولنا؛ فأدت إلى اضطراب أحوال الناس وعباداتهم.
تأخير الولائم للأعراس والعزائم ونحوها إلى أوقات متأخرة، فينصرف المدعوون متخمين بالطعام والشراب، إضافة إلى السهر نفسه؛ فيزيد الطين بلة، ويثقل المرء عن صلاة الفجر، ثم يقوم من نومه متثاقلاً في كسل وخمول، فلا يكاد يتقي الله في عمله جراء ذلك، فأي شر بعد تضييع الفريضة، وإهمال الأمانة؟
ومن مظاهره أيضاً: تأخير الرحلات والبرامج المتنوعة والأندية الليلية ومواعيد أمكنة الملاهي ونحوها، بما يفضي إلى السهر الضار.
ويدخل في مظاهره أيضاً: السمر مع الأصدقاء إلى أوقات متأخرة، دون مبالاة بما قد يترتب على ذلك من تثاقل عن الصلاة، والأعمال التي ائتمن الناس عليها.
أيها المسلمون:
هذه هي الآفة والداء، وهي آفة خطيرة يجب علاجها من الفرد نفسه ومـن المجتمع بعامة.
وإن أول ما يشار إليه للتخلص من هذه الآفة هو الصدق وإخلاص النية لله عز وجل في تحري مرضاته، الأخذ بأسباب ذلك.
ثم على من ابتلي بهذه الآفة، وكان صادق الرغبة في التخلص منها: أن يلجأ إلى الله جل وعلا سائلاً منه العون سبحانه؛ فإنه سبحانه كريم لا يرد سائله.
يتزامن مع ذلك برامج لتعويد النفس التخلص من السهر، وإنجاز الأعمال والأشغال في النهار، واغتنام سكون الليل في الراحة وفق سنة الله جل وعلا.
وعلى رعاة البيوت من آباء وأمهات مسؤولية كبيرة في ذلك؛ فإنهم قدوة لأولادهم، فإذا استقامت أمورهم تأسى بهم أولادهم في الخير وتابعوهم عليه، والوقاية خير من العلاج.
كما أن عليهم إيقاف البرامج الليلية المتأخرة، وبخاصة في هذه الإجازة التي هي من مظان السهر الليلي.
وفي الوقت نفسه الاجتهاد في مشاركة الأبناء والبنات بشيء من البرامج المفيدة التي يقضون فيها أوقاتهم.
أيها المسلمون:
وإن مما يندى له الجبين، ويحزن له القلب، ما يقضي فيه كثير من الشباب أوقاتهم الليلية في المقاهي العامة أو مقاهي الإنترنت ونحوها إلى قرب الفجر، وهذا مما يتطلب من الجهات المسؤولة وضع حد لهذا العبث واللهو المحرم، وتفادي ما يقع من مشكلات جرّاء ذلك.
أيها المسلمون:
إن الأمر خطير يتطلب تعاون الجميع رعاة ورعية؛ تفادياً لتلك الأضرار الوخيمة ، نسأل الله السلامة والعافية.
ـــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 561/1، برقم (2131) عن أبي برزة الأسلمي، والطبراني في الأوسط 162/3، برقم (2806)، عن أبي برزة- والبزار في مسنده 299/9، برقم (3852) ، عن أبي برزة رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، في الأذان، باب فضل العشاء في الجماعة برقم (617)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها برقم (1041) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه الترمذي في سننه، في الفتن عن رسول الله، باب ما جاء من صلى الصبح فهو في ذمة الله، برقم (2090) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ غريب.
وأخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة، عن جندب ابن عبدالله قال: قال رسول الله (ص): (من صلى الصبح فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فيدركه فيكبه في نار جهنم) ورقم الحديث (1050).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق