1435/8/20
حديث ( كُلُوا غَارَتْ أُمُّكُمْ ) وحديث (مَا رَأَيْتُ صَانِعَةَ طَعَامٍ مِثْلَ صَفِيَّةَ )
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّهَا – يَعْنِي - أَتَتْ بِطَعَامٍ فِي صَحْفَةٍ لَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ -فَجَاءَتْ عَائِشَةُ مُتَّزِرَةً بِكِسَاءٍ وَمَعَهَا فِهْرٌ فَفَلَقَتْ بِهِ الصَّحْفَةَ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ فِلْقَتَيْ الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ: «كُلُوا غَارَتْ أُمُّكُمْ ». مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَحْفَةَ عَائِشَةَ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، وَأَعْطَى صَحْفَةَ أُمِّ سَلَمَةَ عَائِشَةَ . (1)
غريب الحديث :
فِهْر : مؤنثة، وهي الحجر من الحجارة (2)،مستديرة، يدقُّ بها الشيء (3)، قدر ما يُدَقُّ به الجَوْزُ ونحوه وقيل هي حجر ملء الكفِّ، أو هو الحجر مطلقًا ،والجمع أَفْهَارٌ وفُهُور (4).
*عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ صَانِعَةَ طَعَامٍ مِثْلَ صَفِيَّةَ، أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَاءً فِيهِ طَعَامٌ؛ فَمَا مَلَكْتُ نَفْسِي أَنْ كَسَرْتُهُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَفَّارَتِهِ فَقَالَ:« إِنَاءٌ كَإِنَاءٍ وَطَعَامٌ كَطَعَامٍ » . (5)
غريب الحديث :
كفّارته : الكاف والفاء والراء أصل صحيح يدلُّ على معنىً واحد، وهو السَّتر والتغطية(6).
كأنَّها تكفِّر الذنوب؛ أي تسترها، وتمحوها، وهي فعَّالة للمبالغة كقتَّالة (7)
وهي شرعًا: ما وجب على الجاني جبرًا لما وقع منه، وزجرًا عن مثله (8).
من فوائد الأحاديث :( للحلقتين 53-54)
1/ في حديث أنس – رضي الله عنه - أبهمت عائشة – رضي الله عنها - تفخيمًا لشأنها، ولا يخفى أنها هي الكاسرة ولا يمكن أن تلتبس بغيرها، لأن الهدايا كانت تؤتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها، ويتحرى المهدون يومها (9).
2/ و (في الحديث الأول) وصف المرسلة بأنها أُمُّ المؤْمِنيْن، إيذانًا بسبب الغيرة التي صدرت من عائشة – رضي الله عنها - .
واختلف الشُّرّاح في تعيينها، والراجح أنها زينب بنت جحش –رضي الله عنها- (10).
روى الليث بسنده أن زينب بنت جحش أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت عائشة ويومها جَفْنَةً من حَيْسٍ فقامت عائشة فأخذت القَصْعة فضربت بها الأرضَ فكسرتها، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قصعةٍ لها فدفعها إلى رسول زينب فقال: هذه مكان صحفتها، وقال لعائشة: لك التي كَسَرْت(11).
قال ابن حجر – رحمه الله -: تحرّر أن المراد بمن أبهم هي زينب لمجيء الحديث من مخرجه وهو حميد عن أنس، وما عدا ذلك من الأحاديث فقصص أخرى ، ولا يليق أن يقال هي فلانة أو فلانة (12).
3/ وفيه ما كانَ عليه نبيُّ هذه الأمة وهاديها من رفقٍ عظيم، وصبرٍ جميل، وتصرف حكيم ، مع نسائه – رضي الله عنهن – الضرائر - وأثر ذلك الخلق القويم في تهدئة المشاعر الثائرة، واحتواء الأزمات الطارئة، وعلاجها، وتفادي الأضرار المحتملة ...
ولِنَقترب أكثر من تلك المعاني الخالدة .. ندلف إلى بيت الحبيب صلى الله عليه وسلم ... فإذا الخادم يحملُ طعامًا صنعتهُ ضرَّةٌ لعائشة – رضي الله عنها - . فتتحرك حميَّة الغيرة في خواطرها .. وتحتدم عواطفها .. وتغتمُّ لِمرْآهُ .. !!
فلا تملك نفسَها .. أَنْ ضربتِ الإناءَ .. فتصدَّع وتناثر على الأرض بما فيه .. ؟!
على مرأى ومسمعٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وهو يلمحُ ذلك بطُمَأنينةٍ وهدوء .. !!
ويتنفَّس هموم حبيبته .. ويعذر الغيرى.. ويُعرض عن لومها وعتابها .. ويضرب عن تأديبها ولو بالكلام ... ويهوي بتواضعه الجمِّ إلى فِلَقِ الصَّحفة وأشلاء الطعام فيجمعها من الأرض وهو يردِّدُ .. ويتودّدُ .. بأرق عبارة .. وأعذب بيان .. وأجمل اعتذار .. « كُلُوا .. غَأرَتْ أُمُّكُم .. » !!
كلماتٍ نبويَّةٍ، نديَّةٍ مَرْضِيَّة .. يسدل بها الستار على المشهد المتكرر في بيت النبوة .
ولنتأمل مرة أخرى كيف غمر عائشة بعطفه وإلطافه وشمل المرسلة بعدله وإنصافه .. !! ليرضى الجميع بقوله وفعله .
4/ الحثُّ على عدم مؤاخذة الغيرى، وإحسان الظنِّ بها، وتحمُّل ما يَصدرُ منها، خاصَّة مع حداثة سِنِّها وكثرة ضرائرها، لأنها في تلك الحالة يكون عقلها محجوبًا بشدَّة الغضب، والغيرة مركَّبة في النَّفس فلا تملك دفعها (13).
روى أبو يعلى في مسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إنَّ الغَيْرى لا تُبْصِرُ الوَادِي مِنْ أَعْلاَهُ» (14) .
قال ابن حجر: إسنادهُ لا بأسَ به (15) .
لكن يَسَعُها الصَّبر على مرارة الغيرة واحتساب الأجر في تحمّل آلامها ومعاناة شدَّتها .
5/ فيه إرسال أمهاتِ المؤمنينَ الطعامَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، في يـوم عائشة – رضي الله عنها - طلبًا لمسرَّتِهِ ورغبةً في مرضاته وتقديرًا لمكانة عائشة – رضي الله عنها - لديه، وهي تشهد لهن بالحقّ وتثني على الصانعة الحاذقة وتعترف بمهارتها وحسن طهيها فتقول : «ما رأيت صانعةَ طعامٍ مثلَ صَفية» ! .
6/ قضى النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيمن أتلف شيئًا بغير إذن مالكه بغرامة مثله، وضمان نظيره .
فدفع الصَّحفةَ الصحيحة إلى المهدية، وحبس المكسورةَ في بيت عائشة واقتصر على تغريم القصعة ولم يغرمها الطعام لأنه كان مهدىً فإتلافه في حكم القبول، فسوى بينهما في الضمان، «إنَاءٌ كإنَاءٍ » وهذا عين العدل ومحض القياس وتأويل القرآن .
قال تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ )(16) .فجزاء التَّعدِّي إعطاء مثل ما أتلف، لأن منفعة الشيء قد تكون هي المقصودة عند المتعدى عليه فإن عدم المثل، تحوّل إلى القيمة.
هذا نص أحمد -رحمه الله- قال: فيمن كسر شيئًا صحيحًا ، إن كان يوجد مثله فمثله، وإن لم يجد فقيمته وهو مذهب مالك في رواية له والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم -رحمهم الله تعالى- (17)
-
تصلك هذه الرسالة لكونك مشتركاً في القائمة البريدية لموقع شبكة السنة النبوية وعلومها.
-
لإلغاء الإشتراك من القائمة البريدية يرجى الدخول إلى الصفحة الرئيسة لموقع شبكة السنة النبوية وعلومها:انقر هنا...
-
تصلك هذه الرسالة من بريد مخصص للإرسال فقط، إذا كان هناك أي استفسار أو تعليق انقر هنا...
-
لدعوة أصدقائك لزيارة موقعنا انقر هنا...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق