بسم الله الرحمن الرحيم
الجمهورية الثانية في مصر
الأستاذ الدكتور محمود شريف بسيوني
أستاذ القانون والرئيس الفخري لمعهد القانون الدولي لحقوق الإنسان
بكلية الحقوق جامعة دي بول في شيكاجو بالولايات المتحدة
ورئيس المعهد العالي للدراسات العليا في العلوم الجنائية بسيراكوزا بإيطاليا
والرئيس الفخري للجمعية الدولية للقانون الجنائي في باريس
الأستاذ محمد هلال
باحث ومحاضر بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة
إهداء
نهدي هذا العمل المتواضع
إلى أرواح من ضحوا على مر العصور بكل غال ونفيس
من أجل مصر الحرة الأبية
إلى من قاوم مستعمر آثم وحارب معتد غاشم
وضحى لإسقاط مستبد فاسد
قائمة المحتويات
مقدمة
أمام ثورة شعبية فريدة في تاريخ الدولة المصرية، خرج لأجلها الملايين إلى ميادين مصر قاطبة، يبتغون العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ويؤمنون بأن تحقيق تلك الغايات لن يكون إلا من خلال إقرار حقيقي لسيادة القانون وتطبيق صارم لمقتضيات حماية حقوق الإنسان ومشاركة فاعلة لجموع طوائف الشعب في إدارة شئون بلادهم،
وفي ظل مرحلة انتقالية تمنت جموع الشعب أن يتحقق لمصر خلالها انتقال سلمي ومنظم ومتحضر لسلطة الحكم والتشريع إلى سلطات وهيئات مدنية منتخبة، تمارس اختصاصاتها في إطار تنظيم قانوني واضح، يحدد تخومها ويقيم التوازن بين حقوقها وواجباتها وصلاحياتها، ويرسم من ثم صورة حديثة لنظام سياسي جديد يقوم على مقومات تصلح لإقامة دعائم جمهورية ثانية، تستحقها مصرنا الحبيبة، وتنتظرها شعوب المنطقة لتستلهم منها وتأخذ عنها لما فيه صالح بلادها،
وفي مواجهة تخبط قانوني وسياسي واضح ساد مرحلة مر على بدايتها عام ونصف ولا يستطيع أحد التكهن بنهايتها، شهدت خلالها البلاد استفتاء شعبي وانتخابات برلمانية ورئاسية وإعلانات دستورية أصلية ومكملة، كما شهدت مجالس تشريعية قامت وحُلت وأخرى تنتظر دورها في الحل، وقوانين وقرارات جمهورية صدرت وقضى بعدم دستوريتها، ولجنة تأسيسية شكلت وقضي ببطلان تشكيلها وأخري ما زالت تعمل وتسرع الخطى وهي غير متأكدة من مصيرها في ظل منازعة قضائية بشأن صحة قرار تشكيلها، ووزارات ثلاثة قصيرة العمر شُكلت ولم يستطع الشعب أن يتعرف على هويتها أو توجهها الأيديولوجي والسياسي، كما لم يتعرف على برنامجها أو أهدافها ولم يقم أحد بتقييم أعمالها بشكل علمي سليم، ووزارة رابعة في طور التشكيل لم يُفصَح بعد عن كيفية تشكيلها ولا عن الأسس التي حكمت اختيار أعضاءها،
أمام كل ذلك وفي مواجهة تلك الظروف، التي غرق غالبية مثقفي ومفكري أمتنا الحبيبية في متابعة تفاصيلها وفي محاولة مسايرة وتيرتها السريعة، غابت محاولات البحث عن الرؤية الشاملة لحاضر ومستقبل بلادنا، وزادت قدرة المواطنين على التحزب والتعصب، ومن ثم التفرق، وأصبحت الدعوة إلى التوافق أقصر الطرق للتناحر، ومن ثم بدأ الشعب في فقدان بوصلته وتراجعت طموحاته وأماله، وعاد للتفكير في هموم حياته اليومية لأجل توفير الطعام والشراب والمسكن والتعليم والصحة، وعادت معه غاية الحكومات لتتمثل في ضمان تدفق الوقود واستمرار الكهرباء وكفاية المياه وتوافر الخبز والسلع الأساسية والتخلص من القمامة، وبدأ الناس يتناسون سبب ثورتهم وإنها لم تكن فقط للعيش ولكن كانت للحرية وللعدالة الإنسانية والاجتماعية ولإقامة دعائم نظام ديمقراطي لا يكتفي بالجانب الشكلي للديمقراطية كالانتخابات الدورية، وإنما يأخذ بمحتواها الموضوعي وجوهرها المتمثل في مجموعة من القيم والمبادئ والمثل الإنسانية التي لا تستوي ولا تستقيم الحياة الديمقراطية الحديثة بدونها، وفي مقدمتها المساواة وعدم التمييز والمواطنة وحريات الرأي والتعبير والعقيدة، بما يمكّن المجتمع بكل مكوناته من المشاركة في الحكم وتقرير مصيره بيده وبناء مستقبله. وهي مبادئ ليست بحال من الأحوال غربية المنشأ أو المنبع، وإنما هي قيم إنسانية تتفق عليها الأديان السماوية والعقائد والحضارات كافة، وقننتها الجماعة الدولية في مواثيق عالمية ساهمت مصر في صياغتها وصدقت عليها وأصبح واجباًَ عليها الالتزام بها وتنفيذها، منها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية وللحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
لأجل ذلك كله كانت فكرة إعداد هذا المؤلف، مستهدفاً إعادة توجيه الاهتمام للنظرة الكلية لحاضر ومستقبل مصرنا الغالية، لأنه بغير رؤية واضحة وشاملة ومشروع محدد المعالم يتأسس على رؤية لمصر جديدة فتية ومتطورة ومتمدنة وقادرة على اللحاق بركاب التطور والتنور الذي تعيشه أمم كثيرة في شرق وغرب المعمورة، فسوف تستمر بلادنا الحبيبية في مرحلة انتقالية دائمة لا نعبر فيها أبدا من عنق الزجاجة، بل والأخطر من ذلك هو أن غياب رؤية شاملة لمستقبل البلاد تتأسس على منهج مُتمدن يُدرك طبيعة الأمة المصرية وتاريخها القائم على التدين المعتدل والمحافظة الوسطية والانفتاح على العالم بثقافاته يهدد باختزال الوطن واختطاف مستقبله من خلال تغيير ملامح البلاد وتحويل هوية العباد وفرض نماذج مجتمعية مستوردة تتسم بتصلب الفكر وضيق الأفق.
ولا شك أن أولى متطلبات رسم تلك الرؤية وحدود ذلك المشروع المتمدن المعتدل القادر على اجتذاب تأييد عناصر الأمة المختلفة وإحداث اصطفاف مجتمعي وإجماع وطني لا يستثني طرف أو طائفة يمكن مصر من تحقيق نهضة شاملة يتمثل في المساهمة في صياغة دستور جديد للبلاد يقيم دعائم نظام سياسي يتيح للشعب بكل أطيافه وسائر أحزابه وتياراته حركاته المشاركة في العمل العام على أساس من الحرية والمساواة والمواطنة، وينشئ إطار قانوني يعلي سيادة القانون ويصون كرامة الإنسان وحقوقه، ويمهد لتحقيق آمال المصريين في الرخاء والازدهار وأن تسود العدالة الاجتماعية.
ونحسب أن النقاش حول ملامح وصياغات مواد الدستور الجديد، والذي تقوم عليه جمعية تأسيسية في الوقت الحاضر لا ينبغي أن يكون نقطة البداية ولكن يجب أن تكون النهاية التي يسبقها العديد من المراحل التي حاولنا في هذا الكتاب تسليط الضوء على أهمها، والتي يأتي في مقدمتها مرحلة البحث في الأسباب التي أدت إلى هذا الزخم الشعبي وتلك الروح الثائرة، من خلال التعرف على أوجه الخلل التي عانت منها الأمة المصرية على مدار العقود الماضية والتي دفعت المصريين لأن يثوروا على نظامهم الحاكم، ويخالفوا من ثم توقعات الكثيرين بفقدان هذا الشعب لقدرته ورغبته في الثورة على الحاكم.
وقد خصصنا لهذه المرحلة فصلاً تمهيدياً لم نستهدف فيه السرد المسهب للتاريخ السياسي لمصر خلال الأعوام الثلاثين الماضية، ولا العرض التفصيلي والتحليل الاجتماعي للمظالم التي سادت في تلك الحقبة، ولكن اكتفينا بوصف موجز لأهم الأسباب التي دفعت شباب متعطش لنسمات الحرية وطواق لمذاق الكرامة الإنسانية، لم يكن أبداً من المعدمين اقتصادياً أو المهمشين اجتماعياً لأن يهب ويثور ولأن يتبعه الملايين من أبناء هذا الشعب من مختلف المشارب والتوجهات.
ورغم تباين الأسباب التي دفعت هذه الجموع على الخروج إلى الميادين والاختلاف الواضح في ترتيب أولويتها لدى جموع الثوار إلا أننا قد حاولنا في هذا الفصل تقسيمها نوعياً إلى عدة طوائف. وقد وضعنا الأسباب الهيكيلية المرتبطة بتهاوي هيكل النظام السياسي وبنيانه في مقدمة تلك الأسباب ليس فقط لأهميتها ولكن لكونها أسباب ضاربة بجذورها لمرحلة ما بعد ثورة يوليو 1952. إما الأسباب المرتبطة بما عاناه المواطن من المصري من فقر وشح في الفرص الاقتصادية وضعف في الخدمات الاجتماعية، دفع إلى موجات من الهجرة غير الكريمة للعديد من أبناء هذا الوطن بحثاً عن الرزق والعيش الكريم، وما تعرض له ذلك المواطن من إهدار منهجي للكرامة وتفريط في الحقوق والحريات الأساسية، فقد تعرضنا له كأسباب تابعة ساهمت ثورتا الأفكار والاتصالات، في تأجيجها. وكذلك تعرضنا لأسباب عاصرت جميع ذلك تعلقت بما أسميناه بعلل السياسية الخارجية المصرية والتي ساهمت في تفاقمها قضايا قطاع غزة والحصار الإسرائيلي عليه وتحجيم الدور المصري على المستويين العربي والأفريقي.
أمْا الفصل الأول من هذا الكتاب فقد حاولنا من خلاله أن نطلق العنان لخيالنا لنحلم بشكل وملامح الجمهورية الثانية في مصر التي يستحق هذا الشعب الكريم أن ينعم بالعيش فيها، وهو تصور وتخيل للشكل المستقبلي للبلاد الذي يتعين أن يسبق كتابة الدستور والتفاوض حول أحكامه. فالدساتير مهمتها تحويل الخيال والطموح إلى واقع ملموس من خلال مواد وأحكام تحدد مسئوليات المؤسسات الدستورية للدولة وتكلفها بتلبية حاجات المواطنين والارتقاء بحياتهم ومعيشتهم وصون وحماية حقوقهم وحرياتهم الأساسية وتمكينهم من المشاركة في الحياة العامة على أساس من المساواة وعدم التمييز. ومقصدنا من هذا الفصل هو سد ما نرى أنه أحد مواطن النقص في النقاش العام الذي شهدته مصر في مرحلتها الانتقالية، إلا وهو الغياب النسبي للحديث حول الرؤية والنظرة بعيدتي الأمد والمتكاملتين لشكل وطبيعة الجمهورية الثانية في مصر وللنقاش حول النظرة المستقبلية لما ينبغي أن تكون عليه والأسس والدعائم التي يتعين وضعها وإقامتها لكي تنهض هذه الأمة وتحظى بما تستحقه من حرية ونمو ورخاء.
ولأجل ذلك طرحنا من خلال هذا الفصل رؤية لأن تتأسس الجمهورية الثانية على ثلاثة دعائم هي الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان، وهي الركائز التي تقوم بينها علاقة تكاملية تربط بينها وتجعل التمتع بأي منها مرهون بتوافر الآخر واحترامه. كما يعرض هذا الفصل لدور الدستور وموقعه في عملية إقامة هذه الجمهورية الجديدة، وللعلاقة العضوية التي تربط بين هذه الوثيقة الأسمى في البلاد – أي الدستور – والقوانين والتشريعات، فضلاً عن تحديد مجموعة من الأولويات السياسية والخطوات الإصلاحية التي نرى أهمية أن تتخذها السلطة المنتخبة الحاكمة للبلاد في الفترة المقبلة لتحقيق أهداف الثورة ولإطلاق مرحلة جديدة في تاريخ مصر المعاصر ينعم فيها أبناء شعبها بكامل حقوقهم وحرياتهم وكرامتهم.
وإدراكاً لأهمية تتبع التاريخ الدستوري المصري وما يرتبط به من تطور سياسي باعتباره مرحلة حتمية من مراحل أعداد الدستور الجديد، فقد خصصنا الفصل الثاني لبحث مختصر وإطلالة سريعة على تطور الدساتير المصرية والحياة السياسية منذ تولي محمد علي باشا سدة الحكم في مصر في 17 مايو 1805 إلى يومنا هذا. وذلك من خلال استعراض تطور الأطر الدستورية التي عرفتها البلاد على مدار القرنين الماضيين وأهم الأحداث السياسية المحلية والإقليمية التي أثرت في مسار الحياة السياسية في البلاد. ولأجل ذلك تم تقسيم تلك الحقبة الزمنية إلى ثلاثة مراحل تناولنا في الأولى منها الدساتير المصرية في الفترة التي عرفت بالحقبة الليبرالية، وذلك للتعرف على أهم ملامحها والأسباب التي نرى أنها تسببت في إخفاق هذه الدساتير في خلق بيئة مواتية لإقامة حياة ديمقراطية سليمة ومتكاملة. ونعرض في ثاني تلك المراحل لدساتير ما بعد ثورة يوليو 1952 وحتى دستور 1971 ولمقومات النظم الدستورية التي أقيمت خلال تلك السنوات، مع التركيز على أهم العناصر التي وردت في مشروع دستور 1954 الذي لم يتم العمل به، وذلك لم عرف عنه من نزعة ليبرالية قوية، وختاماً يستعرض هذا الفصل العناصر الرئيسية لدستور 1971 وأهم العيوب والمآخذ التي سجلت عليه. وتمثل مرحلة الدراسة النقدية لمبادئ وأسس الحكم التي قام عليها دستور 1971 المعطل المرحلة الرابعة والأخيرة والتي لا تقل أهمية عن المراحل السابقة والتي ينبغي أن تسبق بكل حال أي عمل خاص بصياغة مواد الدستور الجديد، ولذا خصصنا لها الفصل الثالث من هذا المؤلف.
ونستهدف من هذا الفصل تعريف القارئ بالنظام الدستوري المصري القائم بمختلف عناصره ومكوناته، وإبراز أوجه الاعوجاج التي شابت بنيانه، ومن ثم تقديم توصيات واقتراحات محددة حول المستقبل الدستوري لمصر ورسم الملامح العامة والخطوط العريضة للدستور الجديد وما يرتبط به من أطر قانونية وتشريعية مكلمة للدستور تسهم في وضع مبادئ الدستور ومواده موضع التنفيذ وتحدد شكل وأسلوب تطبيق نصوصه وأحكامه.
وجميع ذلك يستلزم التعرض للجدل الفقهي والمجتمعي الذي ثار حول ما إذا كان الدستور الدائم لجمهورية مصر العربية الصادر في عام 1971 قد سقط بنجاح الثورة وبتخلي الرئيس السابق محمد حسني مبارك عن رئاسة الجمهورية. وللأطر والوثائق الدستورية التي صدرت والإجراءات الدستورية التي اتخذت في الأيام والأسابيع التالية على نجاح الثورة وتولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة مقاليد الحكم في البلاد. ومن ثم نتناول الظروف التاريخية التي واكبت صدور دستور 1971، قبل أن نتناول بالعرض والتحليل للأبواب المختلفة للدستور متتبعين إشكاليات طبيعة وهوية الدولة، وعلاقة الدين بالدولة وبالسياسية و مدى التطور الذي لحق المقومات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع المصري، ومحاولين إبراز ملامح العوار الدستوري والقانوني الذي ساهم في إشعال فتيل الثورة.
كما نتصدى في هذا الفصل لأحد أهم الأسئلة التي يتعين على المشرع الدستوري المصري أن يحسمها وهو مقبل على إعداد ووضع الدستور المصري الجديد، ألا وهو نظام الحكم الذي ستتبناه الجمهورية المصرية الثانية. وسنعرض على القارئ الكريم في مستهل حديثنا حول هذا الموضوع خصائص أنظمة الحكم المختلفة التي عرفها العالم وإيجابيات وسلبيات كل منها، وسنطرح رؤيتنا للنظام الأنسب لمصر والأكثر تماشياً مع واقعها السياسي والثقافي والاجتماعي في هذه اللحظة التاريخية الفارقة.
وإيماناً منّا بخطورة اللحظة التاريخية التي مرت بها مصر منذ 25 يناير 2011 إلى طباعة هذا المؤلف في منتصف عام 2012 وأهمية التوثيق لهذه الفترة التي شدهت ثورة شعبية أسقطت نظام ومهدت لقيام جمهورية ثانية مازلت في مرحلة التكوين، فقد أضفنا ملحاً وثائقياً يتضمن أبرز القرارات والمراسيم والإعلانات الدستورية التي تمثل أهم العلامات على طريق ثورة 25 يناير والفترة الانتقالية التي تلتها.
وقبل أن نختتم هذه المقدمة الموجزة نود أن نعرب عن جزيل الشكر وعميق التقدير لكل من ساهم من الأصدقاء والزملاء الأعزاء في إنجاز هذا العمل المتواضع واطلع عليه في مراحل إعداده المختلفة، وقدم أفكار لكيفية تطويره وتعظيم الاستفادة منه، وانتقده وراجعه وكشف عن عيوب حاولنا أن نتلافاها أو نواقص حاولنا أن نسدها. وبالتحديد نود توجيه الشكر والعرفان إلى الأستاذ الدكتور خالد سري صيام أستاذ القانون الجنائي بجامعة عين شمس، والسيد الوزير المفوض عمرو رشدي بوزارة الخارجية، والدكتورة رانيا زادة الباحثة السياسية بمركز البدائل العربي للدراسات، والدكتور عمرو إسماعيل بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، والدكتورة منى البهتيمي بجامعة كامبردج بالمملكة المتحدة، والسيد السكرتير ثان أحمد البقلي بوزارة الخارجية، والمهندس محمد الزناتي، والعاملين بدار الشروق على معاونتهم في إعداد هذا الكتاب للطبع والنشر. وبطبيعة الحال، فمع العرفان لمن سبق ذكرهم لإسهامهم، فإننا نتحمل وحدنا مسئولية كل ما ورد بين دفتي هذا العمل،
وعلى الله قصد السبيل ،،،
الأستاذ الدكتور محمود شريف بسيوني – شيكاجو، الولايات المتحدة
الأستاذ محمد هلال – بوسطن، الولايات المتحدة
يوليو 2012
فصل تمهيدي
أســباب ســقوط النــظام
تمهيد وتقسيم:
مثّل خروج الملايين إلى ميادين مصر قاطبة ومسيراتهم في مختلف دروب وشوارع مدنها يوم الخامس والعشرين من يناير ما تلاه من أيام حُفرت في التاريخ بحروف من ذهب مفاجأة كبرى، لم يكن جُل المتابعين للشأن المصري، في الداخل أو الخارج، يتصور وقوعها بمثل هذه الصورة وعلى هذه الكيفية. ومع ذلك فإن المدقق في واقع المجتمع المصري، والمتابع لما أصاب وجدان ومشاعر مواطنيه من قنط وعزوف، ولما لحق البنيان المجتمعي من تصدع وتفكك، ولما شاب العلاقة بين الحاكم والشعب من فقدان للرؤية وغياب للهدف وانحدار مفرط للثقة، ولما أصاب العقد الاجتماعي من عوار يُنذر بانقضائه، ولما حدث لأسس ودعائم دولة القانون من هزات هددت بانهيار بنيانها، كان يمكن له أن يرصد إرهاصات حدث جلل سبقته إنذارات وقدمت له حوادث ومشاهدات على مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية.
فكل من لم تحرمه ظروف المعيشة الصعبة، ومتطلبات مواجهة صعوباتها اليومية، التي مست الغني والفقير على سواء، من فسحة من الوقت لمتابعة أحوال مصر وأهلها على مدار الأعوام الأخيرة، أدرك اعوجاج شأن المجتمع المصري وعدم صلاحه، وفطن إلى أن الأوضاع القائمة غير قابلة للاستمرار. لقد أصيبت الحياة السياسية بجمود مفرط أسفر عن انحسار متزايد في رغبة المواطن في المشاركة، وانتشر الفقر وتعمقت أثاره الاجتماعية والأخلاقية، وشاع الفساد بمفهومه الضيق والواسع، على سواء، حتى صار منهجاً طبيعياً يمارسه المواطنون كل يوم دون إدراك لخطورته ودون إحساس بالخجل أو العار من ممارسته، واستبيحت حقوق المصريين الاقتصادية والاجتماعية وأهدرت كرامتهم. لهذا كله خرج الشعب المصري ثائراً متلمساً نسمات فجر الحرية، باحثاً عن مقتضيات العدالة الاجتماعية ومطالبا بحقه في العيش الكريم.
وتجدر الإشارة إلى أننا في هذا الفصل التمهيدي لا نسعى إلى سرد مسهب للتاريخ السياسي لمصر خلال الأعوام الثلاثين الماضية، والتي تمثل الحلقة الثالثة والأخيرة من حلقات الجمهورية الأولى لمصر الحديثة، كما لا نستهدف العرض التفصيلي والتحليل الاجتماعي الكامل للمظالم التي سادت في تلك الحقبة والتي ساهمت مجتمعة في كسر الملايين من أبناء هذا الوطن لكل توقعات وتحليلات الموصفين لطبيعة المواطن المصري الصابرة والمثابرة في أن واحد معاً، فهذه أمور يتعين أن ينكب عليها علماء الاقتصاد والعلوم السياسية والاجتماعية والمفكرين والمؤرخين لسنوات طويلة لكي نحدد بدقة ووضوح وموضعية قدر الضرر الذي تعرضت له مصر وشعبها. ولكن نسعى من خلال هذا الفصل لأن نمهد للقارئ الكريم بوصف موجز لأهم الأسباب التي أدت لهذا الزخم الشعبي ولهذه الروح الثائرة، وبإطلالة عابرة على مجموع المجتمع المصري في محاولة التعرف على أوجه الخلل التي عانت منها الأمة المصرية على مدار العقود الماضية والتي دفعت المصريين لأن يثوروا على نظامهم الحاكم.
لم يكن الشباب الذي هب وثار وأسقط النظام العتيد من المعدمين اقتصادياً أو المهمشين اجتماعياً، بل كانوا في أغلب الأحوال من شباب الطبقة المتوسطة الميسورة الحال نسبياً، ممن لم يرزحوا تحت نير البطالة وممن حصلوا على درجات علمية متقدمة، وربما ممن استفادوا نظرياً من بعض أوجه العوار التالي سادت المجتمع. فقد تكونت النواة الأولى للثورة من شباب متعطش لنسمات الحرية وطواق لمذاق الكرامة الإنسانية. شباب تأثر بموروثة الديني والحضاري، وأمن من ثم بمقولة سيدنا المسيح عليه السلام بأنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان."
ومع ذلك لم يكن ممكناً لهذه الثورة أن تنجح في إسقاط الحاكم إذا بقيت ثورة شباب متطلع بالأساس لإقامة حياة ديمقراطية حقيقية في مصر. فهذه الثورة لم تتحول من احتجاجات ومظاهرات إلى زخم شعبي متدفق إلا عندما انضمت لها مختلف طوائف الشعب وناصرتها طبقات المجتمع كلها. ومن تابع مراحل الثورة على مدار أيامها الثمانية عشر سيلاحظ أن المولود الثوري الذي احتل ميدان التحرير وغيره من ميادين المدن المصرية واعتصم فيها قد تغيرت ملامحه مع اشتداد عوده بمرور أيام الثورة. فانضم إلى الثوار شباب وكهول من أحزاب سياسية وتيارات دينية ونقابات مهنية، كما جذبت الثورة إلى صفوفها أناس كثيرين من السواد الأعظم من المصريين غير المسيسين، مما أكسب الثورة قاعدة مجتمعية عريضة شملت كافة المصريين بمختلف مشاربهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم. وجميع ذلك يُصعّبُ من مهمة ترتيب أولويات الثورة. فعلى الرغم من وجود إجماع على الأسباب التي قامت من اجلها تلك الثورة، وعلى المظالم التي دفعت الشعب للخروج على حاكمه، إلا أننا قد نرصد قدراً كبيراً من التباين في ترتيب أولويات من شارك في هذه الثورة، وهو التباين الذي زاد وضوحاً في الأشهر التالية لتنحي الرئيس.
فقد تأتي المطالب المرتبطة بالحياة السياسية والديمقراطية وحقوق الإنسان في مقدمة أسباب قيام الثورة بالنسبة للشباب الذين أشعلوا الثورة على صفحات التواصل الاجتماعي على الإنترنت ونقلوها من العالم الافتراضي إلى ميدان التحرير. في حين قد يري آخرون ممن قهرهم الفقر وعانوا من البطالة أن ما دفعهم للثورة كانت بالأساس أسباب اقتصادية ومعيشية. وقد يقول فريق ثالث بأن القهر الشرطي والتدخل الأمني السافر في مختلف مناحي الحياة، وغياب سيادة القانون مثلت وقود الثورة الذي فجر مشاعر المشاركين فيها، فيما شارك آخرون في الثورة بهدف تغيير هوية المجتمع وطبيعته وإضفاء صبغة دينية عليه وعلى بنيانه القانوني والدستوري.
لذا، يتعين، ونحن نستعرض العوامل التي أفضت إلى خروج ملايين المصريين للمطالبة بإسقاط النظام، أن نبقى في ذهننا أن ترتيب هذه الأسباب والأهمية النسبية لكل منها قد تختلف من شخص إلى آخر. وقد قسمنا أمراض النظام السياسي المصري إلى ستة مباحث نعرض في كل منها لإحدى العلل التي أصابت مصر والتي ثار المصريون وأسقطوا النظام بسببها. وسنتناول في أول هذه المباحث ما أطلقنا عليه الأسباب "السياسية الهيكلية"، ونقصد بها الأعراض المرتبطة بهيكل النظام السياسي وبنيانه، وهي أمور لا ترتبط بحكم الرئيس السابق محمد حسني مبارك فحسب، وإنما هي مسائل لها جذور تاريخية تعود إلى قيام الجمهورية المصرية الأولى في أعقاب ثورة يوليو 1952 وربما إلى ما قبل ذلك.
أما المبحث الثاني، والذي سميناه "قهر الفقر" فخصصناه لما عانه المصريون خلال العقود الماضية من فقر وشح في الفرص الاقتصادية وضعف في الخدمات الاجتماعية، مما دفع كثيرون من أبناء هذا الشعب العظيم للهجرة عن أرض الوطن، باحثين عن الرزق والعيش الكريم. وننتقل من ذلك إلى المبحث الثالث الخاص بما شهدته الجمهورية الأولى في مصر من إهدار منهجي لكرامة المصريين وتفريط في حقوقهم وحرياتهم الأساسية، وهي قيم وضعها ثوار التحرير قي مقدمة طلباتهم. أما المبحث الرابع فنناقش فيه ثورتين أديتا إلى ثورة 25 يناير، وهما ثورتا الأفكار والاتصالات، فقد فتحت ثورة الاتصالات الباب أمام الأفكار أن تسافر عبر المحيطات غير عابئة بحدود سياسية وهمية، الأمر الذي أتاح لجيل عريض من الشباب المصري التعرف على ما حققته أمم وشعوب أخرى من انفتاح سياسي حقيقي ورخاء اقتصادي ونمو اجتماعي والمقارنة بين ذلك وبين الواقع الذي يعيشونه في مصر والاقتناع بأنه في إمكانهم أن يصنعوا مستقبلاً أفضل لأنفسهم ولأبنائهم. وأهتم المبحث الخامس ببيان علل السياسية الخارجية المصرية وكيف ساهمت معاناة الشعب الفلسطيني عامة وفي قطاع غزة خاصة الذي حاصرته إسرائيل وتحجيم الدور المصري على المستويين العربي والأفريقي في تأجيج غضب الشباب والشعب على النظام. ونختتم هذا الفصل بمبحث سادس نستعرض فيه الأسباب الآنية التي أشعلت فتيل الثورة وأوقدت لهيبها بما نال من النظام الحاكم في البلاد.
المبحث الأول
الأسـباب السـياسية الهـيكلية لسـقوط النـظام
في ظل عملية تجريف سياسي منظم، دفعت جموع المواطنين إلى هجر السياسة والانقطاع عن الاهتمام بأي شأن عام، والانكباب على المصالح الخاصة، وفي إطار من الترويج والتحضير لعملية توريث الحكم، في جو من الضبابية بشأن خلافة الرئيس، اختلطت علاقات المال والسلطة، السياسة والأعمال، وتصدر رجال الأمن المشهد السياسي بحلول أمنية صرفة لمشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية، فكان غضب الشعب وكانت ثورته.
أولاً: موت السياسية في مصر
شبه الكاتب والصحفي الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل ما حدث على المشهد السياسي المصري خلال الأعوام الثلاثين الماضية، بعملية "تجريف طالت كل الطبقات الخصبة الموجودة على السطح والصالحة للزراعة"، وهو وصف معبر عما آلت إليه الحياة السياسية المصرية من جفاء وجمود. إلا أننا نختلف مع الأستاذ هيكل في اعتباره أن عملية التجريف بدأت وانتهت خلال العقود الثلاثة الماضية، وهذا ليس انحيازاً لمبارك، وإنما إحقاقاً للحق وإنصافاً للتاريخ. فما من شك أن سنوات حكم مبارك الثلاثين شهدت نضوباً للحياة السياسية في مصر، إلا أن نظام مبارك لم يكن صاحب هذه الإستراتيجية ولا حتى أفضل من طبقها، بل ورث هذا الأسلوب السلطوي والإقصائي ممن سبقوه في حكم مصر، وإن كان الاختلاف بين مبارك ومن سبقوه يكمن في البيئة السياسية والفكرية محلياً ودولياً المحيطة بالرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات وبطبيعة المشروع السياسي والاقتصادي لكل منهما. ورغم هذا الاختلاف في الإطار التاريخي، فإذا كان لنا أن نحدد تاريخاً لبدء تجريف التربة السياسية في مصر، فإننا نرى أن السنوات التي تلت ثورة يوليو 1952 شهدت الانطلاقة الحقيقية لمساعي النخبة الحاكمة لاقتلاع السياسة من حياة المصريين وعزلهم عنها، فمن إلغاء دستور 1923 الذي أعلن الضباط الأحرار أنهم قاموا بحركتهم لإنقاذه، وإلغاء للأحزاب، ومنع لطبقة كاملة من المصريين وصوفوا بأنهم من "المعزولين سياسياً" وأنهم من "أذناب العصر البائد" من ممارسة العمل العام، واحتكار للعمل السياسي في يد تنظيم وحيد نُعت بأنه شعبي، كلها مظاهر لعملية تجريف بل وقتل متعمد للسياسة وإقصاء لأي رأي يعارض النظام أو يشكك في حكمة زعيمه.
تلك كانت بداية التجريف السياسي في مصر، والذي استمر منذ ثورة 23 يوليو إلى ثورة 25 يناير، وإن تغيرت الأساليب والأسانيد وتباينت درجات وشدة التجريف. لقد كان نضوب التربة السياسية وفقدان الأمل في إمكانية إحيائها بعد طول موات واحد من أهم الأسباب لسعي المصريون لإسقاط نظام أقصاهم عن السياسة وأبعدهم عن تسيير أمور حياتهم. ولن نطيل على القارئ الكريم في تعداد وتفصيل أدوات النظام السابق في تجريف السياسة، فهي معروفة لنا جميعاً وعايشناها كلنا يوماً بيوم، فضلاً عن أننا سنتطرق إليها بتفصيل أكبر في الفصول اللاحقة من هذا الكتاب. إلا أننا نود التنويه من البداية إلى أنه وعلى الرغم من تطابق الإستراتيجية السياسية لعهد الرئيس السابق مبارك مع من سبقوه من رؤساء، إلا أن التكتيكات والأدوات التي استخدمها النظام خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة اختلفت بعض الشيء عن سابقيه. فهذا النظام كان أكثر ماكيافيلية ودهاءً عن سابقيه، فلم يعتمد على الكاريزما الطاغية للزعيم الخالد، ولم يقصي كافة أطراف اللعبة السياسية عن المشهد السياسي كاملة، ولم يزج بهم جميعاً في مجاهل المعتقلات، ولم يتحجج بأزمات إقليمية أو احتلال أجنبي أو استعمار عالمي لتعليق الحياة السياسة بالكامل، كما لم يرفع شعار كشعار "دولة العلم والإيمان" توظيفاً للدين لترسيخ شرعيته، وإنما حاول أن يرسم صورة لدولة المؤسسات التي تُمارس فيها مظاهر الديمقراطية وإجراءاتها، دون أن تمتد هذه الممارسة إلى جوهر الديمقراطية ومضمونها الحقيقي بما يشكل تهديداً حقيقياً للنظام ولبقائه. فقد انتهج النظام منهجاً يقوم على منح مساحة محدودة من حرية الحركة لقوى المعارضة للعمل السياسي الميداني، بالإضافة إلى إتاحة هامش من حرية الرأي ليقوم هؤلاء بالتعبير عن آرائهم المنتقدة للنظام.
وقد وفر هذا المنهج عدة مزايا للنظام، حيث أضفى علي وجوده قدراً من الشرعية، وأظهره أمام العالم وكأنه راع للديمقراطية في بلد عانى لعقود من حكم أوتوقراطي قاس، بالإضافة إلى تمكينه من تسويق نفسه للغرب على أنه الخيار الأفضل لمصالحهم وأنه البديل الوحيد عن سيطرة قوى إسلامية متطرفة على مقاليد الحكم، فيما عرف إعلامياً بسياسة "فزاعة الإخوان المسلمين". كما أوجد هذا المنهج آليات لتنفيس الغضب الشعبي ووسائل لتفريغ الاحتقان الاجتماعي الناجمان عن الموت الإكلينيكي للسياسة في مصر، الأمر الذي ضمن للنظام الإبقاء على مستويات الاستياء العام وعدم الرضا عن أداء النظام والدولة عند مستويات معتدلة لا تصل إلى معدلات خطيرة تهدد بقاء النظام ذاته. فأتيح، مثلاً، لصحف مستقلة ومعارضة – خاصة في السنوات العشرة الأخيرة – هامش أوسع لانتقاد النظام ووزرائه والكشف عن بعض فضائح الفساد، بل وحتى تناول أداء الرئيس نفسه والتعرض لملف التوريث والتنبيه لمخطط نقل السلطة إلى نجله جمال مبارك، كما سُمح لبعض وسائل الإعلام – خاصة القنوات الفضائية – أن تنتقد أداء الحكومة في مجالات متعددة، بل ووصل الأمر إلى قيام بعض أقطاب النظام القديم بتوجيه انتقادات لاذعة للدولة واتهامها بالتقصير في تلبية مطالب الجماهير. وهي كلها، كما قلنا، أدوات وتكتيكات مصممة للتنفيس عن الإحباط الناتج عن إستراتيجية القتل المنهجي للسياسة في مصر والغضب الناجم عن فشل الدولة في تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين.
وفي ذات السياق، وسعياً منه لاكتمال عناصر صورة الدولة الديمقراطية القائمة على المؤسسات، أتاح النظام إنشاء الأحزاب ومشاركتها ومعها قوى مجتمعية أخرى في الحياة السياسية وخوض الانتخابات التشريعية بمختلف مستوياتها. ولكن ضماناً للإبقاء على الطبيعة الصورية للديمقراطية، تمادى النظام في القيود والشروط التي وضعها لإنشاء وتأسيس الأحزاب. وبالتالي، تمكن النظام من خلق مسرحاً سياسياً يتسم بالتعددية الشكلية ويعطي الانطباع بوجود معارضة سياسية تقف في مواجهة النظام، إلا أنه في الواقع أديرت السياسة في مصر وفق ما يمكن وصفه بأنه اتفاق ضمني بين النظام والمعارضة الحزبية وغيرها من القوى السياسية، بحيث تشارك هذه الأطراف ويسمح لها بالتواجد بشرط ألا تتجاوز حدوداً وخطوطاً حمراء تهدد استئثار النظام بالحكم والسلطة. ومن هنا يمكن فهم ظاهرة كثرة الأحزاب القائمة مصر التي تفتقد للشعبية حقيقية، فقد تأسس منذ عام 1981 ثمانية عشر حزباً، معظمها بموجب أحكام قضائية ليصل عدد الأحزاب المنشأة منذ إطلاق الرئيس الراحل السادات سياسة المنابر في منتصف السبعينيات إلى أربعة وعشرين حزباً. إلا أن أغلب هذه الأحزاب لم يكن لها وجود فعلي على المشهد السياسي ولم تكن لها جذور في المجتمع ولا قواعد جماهيرية تذكر، وهو ما نعزوه لأسباب متعددة، بعضها مرتبط بسياسة النظام الرامية لتضييق الخناق على الأحزاب وتكبيل يدها والحد من فاعليتها، وبعضها متصل بقيام النظام بتوظيف الدولة ومؤسساتها لخدمة الحزب الحاكم والترويج له من خلال الإعلام واجتذاب الناخبين له عن طريق إسدال الخدمات للمواطنين، وذلك فضلاً عما شهدته بعض هذه الأحزاب من صراعات وخلافات داخلية وانشقاقات أدت إلى إضعافها.
وفي الإطار ذاته، ظهرت إحدى التناقضات المثيرة على المشهد السياسي المصري، والمتمثلة في الدور الملموس لجماعة الإخوان المسلمين على المسرح السياسي رغم أنها محظورة رسمياً منذ عام 1954. فقد أتاح النظام للجماعة المشاركة في العمل العام وخوض انتخابات مجالس إدارة النقابات المهنية في منتصف وأواخر تسعينيات القرن العشرين، وهو ما تطور بعد ذلك إلى مشاركتها في انتخابات مجلس الشعب. وقد تجلت سياسة النظام المتمثلة في إتاحة هامش من حرية الحركة للقوى السياسية بشرط ألا يهدد ذلك هيمنته على السلطة في انتخابات مجلس الشعب لعام 2005، حيث سُمح لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين المشاركة في الانتخابات كمستقلين، إلا أنه عندما تجاوزت الجماعة الخطوط الحمراء وبدأت تهدد احتكار النظام وحزبه الحاكم للسلطة بفوزها ونجاحها المشهود في جولتي الاقتراع الأولى والثانية، تدخلت الدولة بكافة وسائلها القمعية في الجولة الثالثة لمنع حصول الجماعة على أغلبية نيابية أو حتى أقلية كبيرة. ومنذ هذه الانتخابات والنظام يسعى لتقويض الجماعة – التي دأب الإعلام الرسمي على وصفها بالـ "محظورة" رغم أنها تحوز على حوالي سدس مقاعد البرلمان – والضغط عليها وإخضاعها لإرادته من خلال اعتقال أقطابها ومحاكمتهم أمام محاكم عسكرية، وذلك كله لأن الجماعة تجاوزت الخطوط الحمراء وخرقت قواعد اللعبة السياسية التي وضعها النظام. وطبق النظام الأسلوب نفسه مع الدكتور أيمن نور، حيث وافقت لجنة الأحزاب التي كان يرأسها رئيس مجلس الشورى الذي هو نفسه من أقطاب الحزب الحاكم على طلب الدكتور نور إنشاء حزب الغد في عام 2004، إلا أنه ما لبث أن اتهم نور بتزوير توكيلات إنشاء الحزب في قضية رأى كثيرون أن دوافعها كانت سياسية بعدما حصل على 7،9% من أصوات الناخبين في الانتخابات الرئاسية لعام 2005، متجاوزاً بذلك الحدود المسموح بها للعمل السياسي في البلاد.
أما بالنسبة للرئيس شخصياً، فقد كان الأكثر ذكاءً ودهاءً، فرغم أنه المهمين الفعلي على السلطة التنفيذية والقابض على دفتها والموجه لمسارها، فإنه تمكن – بمساعدة وسائل الإعلام الرسمية – من جعل الحكومة ووزرائها هم المسئولين أمام الشعب والرأي العام عن تردي الأوضاع الاقتصادية والأحوال المعيشية للمواطنين، على أن يبدو الرئيس باعتباره المنحاز دائماً لمحدودي الدخل (وهي عبارة استخدامها باستمرار في خطبه) وأن الحكومة هي التي تخفق في ترجمة توجيهاته بالاهتمام بالفقراء والمحتاجين في البلاد، وبالتالي تحولت الحكومة التي لا تملك السلطة الفعلية إلى متلق لغضب الشعب فيما بقي الرئيس المستحوذ على السلطات الملاذ الأخير للجماهير لتخليصهم من مساوئ الحكومة.
لقد كان عهد الرئيس السابق مبارك امتداداً لما سبقه من عهود، فإستراتيجية تجريف السياسية، بل قتلها، متطابقة، وظاهرة إقصاء قوى المعارضة وتهميشها مستمرة، وهدف احتكار السلطة لم يتغير، وإنما ما تبدل هو التكتيك والأسلوب، فأدوات إضفاء الشرعية على النظام تبدلت، وآليات إدارة المسرح السياسي تعدلت، ولكنها كلها سعت لضمان استمرار وبقاء النظام. وكان لهذه الإستراتيجية أثر عظيم في إشاعة إحساس عام بالإحباط والعجز لدى جموع المصريين، أدت إلى هجرهم السياسة، وأقنعتهم بعدم جدوى الانخراط فيها. وتجسد ذلك في أن القوى التي قادت ثورة 25 يناير ودعت إليها لم تخرج من رحم النظام السياسي بمكوناته وأطرافه المختلفة، بل تجاوزتهم جميعاً وأظهرت انفصالهم عن واقع الشعب وكشفت محدودية تأثيرهم على الشارع والمجتمع. ومن ثم صح القول بأن ثورة 25 يناير لم تقم لإسقاط الحاكم ونظامه فحسب، وإنما لإسقاط التركيبة السياسية الحاكمة برمتها، بأحزابها ومؤسساتها والقواعد الحاكمة لنشاطها، كما يمكن الإدعاء أن ما سقط يوم 11 فبراير 2011 لم يكن الحزب الوطني الديمقراطي ولا النظام الذي كرسه، وإنما المعادلة السياسية التي قامت عليها الجمهورية المصرية الأولى والتي تأسست في 23 يوليو 1952.
ثانياً: ضبابية خلافة الرئيس ومشروع التوريث
إذاً، فماذا حدث؟ ولماذا انهار النظام في ثمانية عشر يوماً؟ ولماذا انقلب شعب على رئيس نجحت تكتيكاته في إبقائه في سدة الحكم على مدار ثلاثة عقود؟ نرى أنه بجانب تجريفه للسياسة، فإن مشروع التوريث يعد من العوامل المهمة التي ساهمت في انهيار شرعية النظام سياسياً، وفي تأجيج مشاعر الغضب تجاهه. فمنذ عودة النجل الأصغر للرئيس من لندن حيث كان يعمل في أحد البنوك الأمريكية وبدء انخراطه في العمل السياسي في أواخر التسعينيات من القرن الماضي والتكهنات تدور حول احتمال تطلعه لاعتلاء كرسي الرئاسة، خاصة بعدما خلف بشار الأسد والده إلى سدة الحكم في سوريا. وما لبثت أن تحولت هذه التكهنات إلى هواجس بعدما انضم جمال مبارك في فبراير 2002 إلى الأمانة العامة للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم وقاد ما أضحى يعرف فيما بعد بالتيار الإصلاحي داخل الحزب الذي دشن "فكر جديد" قيل أنه سيمضي بمصر نحو المزيد من الديمقراطية. ثم تحولت هذه الهواجس إلى مخاوف مع تأسيس أمانة السياسات بالحزب التي ترأسها جمال مبارك ومارس من خلالها نفوذ كبير على الحزب وعلى إدارة الدولة، إلى أن وصل الأمر لتدخله في اختيار وزراء ما عرف بالمجموعة الاقتصادية، والتي ضمت مقربين منه في حقائب كالمالية والاستثمار والتجارة والصناعة والسياحة وغيرها. وأخيراً تحولت تكهنات وهواجس ومخاوف المصريين إلى واقع ملموس بعد تعديل المادة 76 من دستور 1971 والتي وصفت وما لحقها من تعديلات بأنها خطيئة دستورية جعلت من الابن المرشح الوحيد فعلياً لخلافة والده.
وزاد من قلق المصريين من توريث الحكم في البلاد إلى مبارك الابن ما أحاط بمسألة خلافة الرئيس السابق من ضبابية وغموض، فلم يكن مبارك الأب قد عين نائباً له منذ توليه الرئاسة بعد اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات، ولم يكن هناك من رموز السياسة بالحزب الوطني أو خارجه من يبدو أنه يُعد ليكون خلفية للرئيس، ولم تكن هناك أصلاً آلية لتفريخ قيادات سياسية جديدة للنهوض بمسئوليات القيادة مستقبلاً، بل حامت الشبهات والتكهنات حول أفراد وأسماء بعينها، كان أبرزهم اللواء الراحل عمر سليمان رئيس المخابرات العامة السابق، والسيد عمرو موسى وزير الخارجية الأسبق والأمين العام السابق للجامعة العربية، إلا أن الأمر لم يتعد مرحلة تكهنات الخبراء والمحللين. وقد غذت كل هذه الشواهد والظواهر مخاوف المصريين من أن المسرح يعد لتوريث الحكم لمبارك الابن.
وما من شك أن ظهور جمال مبارك على المشهد السياسي وسطوع نجمه وما بدا للعيان أنه تمهيد الطريق لوصوله إلى قمة السلطة في البلاد قد أثار استياء بل وغضب المصريين وأهانهم في كرامتهم ودفعهم للتساؤل هل نضبت مصر وأصابها العقم وعجزت عن إنتاج وتوليد من يصلحون لحكمها وقيادة شعبها؟ كما ولّدت ظاهرة التوريث إحساساً بأن النظام أصبح عصي على الإصلاح وأنه لا سبيل لإرساء دعائم الحكم الديمقراطي السليم في البلاد إلا بإزاحة النظام برمته وأنه لا أمل في إقامة دولة يسود فيها القانون والمحاسبة والشفافية إلا بعد إسقاط مشروع التوريث ومعه النظام.
ثالثاً: إفساد السياسة بزواج المال والسلطة
اقترن مشروع التوريث بظاهرة جديدة على المسرح السياسي المصري منذ قيام ثورة يوليو 1952، ألا وهي تولي كبار رجال الأعمال مناصب سياسية قيادية داخل الحزب الحاكم وفي الحكومة. وكما أسلفنا، كان لجمال مبارك دور مشهود في اختيار وزراء المجموعة الاقتصادية والتي كان الكثير منهم من رجال الأعمال، كما اصطحب جمال رجال أعمال آخرين إلى الحزب الوطني الديمقراطي كان أبرزهم المهندس أحمد عز الذي رأس أمانة التنظيم بالحزب.
وأدت ظاهرة تحالف كبار رجال الأعمال مع الحزب الحاكم وتزاوج المال والسلطة إلى نتائج سلبية عديدة، كان أهمها ما تكشف في أعقاب ثورة 25 يناير وسقوط النظام، من إضعاف جهود مكافحة الفساد الإداري والمالي في العديد من مرافق الدولة وأجهزتها، ومن غياب قواعد تحول دون تعارض المصالح مما ساهم في اتهام العديد من الوزراء والمسئولين باستغلال مناصبهم ومواقعهم للتربح ولتحقيق منافع شخصية لأنفسهم وللشركات التي كانوا يرأسونها أو يمتلكونها أو يساهمون فيها. أما اجتماعياً، فقد أدى تولي رجال الأعمال من ذوي الملاءة المالية الكبرى للعديد من المناصب المهمة بالدولة وبروز دورهم في الحياة السياسية إلى انتشار إحساس في أوساط المصريين بانفصام الحكومة عن الشارع وعدم إحساسها بمتاعب المواطنين ومعاناتهم. وتفاقم هذا الإحساس ونمى مع فشل السياسات الاقتصادية الليبرالية التي تبنتها الدولة وروجت لها في تحقيق النمو المنشود والرخاء الذي وعدت به المواطنين، مما ساهم في إشاعة شعور عام بأن النظام لم يعد يخدم محدودي الدخل، وهم الغالبية الكاسحة من أبناء الشعب المصري.
رابعاً: استمراء البحث عن حلول أمنية لمشكلات سياسية واجتماعية
لم تنفرد الأعوام الثلاثون الماضية بظاهرة قوة وسطوة الأجهزة الأمنية، بل أن التاريخ الحديث لمصر شهد فترات وحقب كانت الأجهزة الأمنية أكثر قوة وبطشاً بالمصريين. إلا أن أهم ما تميز به النظام السابق مقارنة بما قبله، وخاصة في السنوات الأخيرة، هو مواجهة العديد من المشكلات الاجتماعية والسياسية التي واجهت الأمة المصرية مؤخراً بأسلوب أمني بحت دون البحث عن حل سياسي أو اقتصادي للمظالم التي أفرزتها. فعلى سبيل المثال، تعامل النظام بمنهج أمني صرف مع ملف بدو سيناء في أعقاب الهجمات الإرهابية المتتالية التي تعرضت لها منتجعات سياحية في طابا وشرم الشيخ ودهب، فقام الجهاز الأمني باعتقال المئات – إن لم يكن الآلاف – من أبناء قبائل سيناء للتحقيق معهم وأساء معاملتهم، مما زرع إحساساً بالكراهية العميقة بين القبائل والدولة وأجهزتها الأمنية، وهو ما ظهر جلياً في الهجوم الشرس لهذه القبائل على المراكز والمقار الأمنية في أعقاب سقوط النظام فيما يشبه عملية قصاص من عدو قديم. وجاءت هذه الممارسات القمعية للأجهزة الأمنية بدلاً من البحث في الأسباب التي أثارت سخط أبناء سيناء، ومنها تهميشهم سياسياً واقتصادياً، وعدم دمجهم في المجتمع المصري بشكل كامل، وفشل المشروعات التنموية القليلة التي قامت بها الدولة في سيناء في النهوض بالأوضاع المعيشية للمواطنين هناك، والتركيز الذي يكاد يكون حصرياً على قطاع السياحة الساحلية في سيناء على حساب بقية القطاعات الاقتصادية.
كما اتبع النظام السابق نفس المنطق في التعامل مع ملف الاحتقان الطائفي بين أقباط مصر ومسلميها. فقد شهدت البلاد على مدار العقد الأخير موجة من الصدامات بين جناحي الأمة وعمليات إرهابية استهدفت الكنائس في مناسبات وأعياد مسيحية. ورغم أن الكثير من هذه الأحداث المؤسفة كان السبب المباشر لها إما أعمال إرهابية آثمة أو خلافات عائلية وشخصية، إلا أن الدولة تجاهلت مظالم مشروعة لأقباط مصر ارتبطت بإحساس تولد لديهم – ونشاركهم إيه – باضطهاد الدولة لهم، أو على الأقل تمييزها ضدهم وعدم التعامل معهم كمواطنين متساويين مع أشقائهم المسلمين في كافة الحقوق والواجبات. ولجأت الدولة إلى حلول أمنية صرفة للتعاطي مع مطالب الأقباط دون أن تبحث بالجدية الكافية في تلبية مطالبهم، وهو الأسلوب الذي ارتبط في الكثير من الأحيان بموائمات سياسية كانت تقوم بها بعض الأجهزة الأمنية لإحداث توازن بين قوى وتيارات اجتماعية ودينية مختلفة في المجتمع.
وقد تجلى تفضيل النظام للمنهج الأمني في التعامل مع القضايا الوطنية أو الأزمات التي تواجهه في تصرفاته أثناء ثورة 25 يناير، فقد اعتمدت إستراتيجية النظام على اعتبار ما شهدته شوارع وميادين مصر بمثابة مظاهرات واضطرابات محدودة تسيّرها "قلة مندسة" أو "فصيل سياسي" معين، بما يعني أن الأمر برمته يمكن التصدي له أمنياً بدلاً من البحث في أسباب خروج المظاهرات ومحاولة تلبية المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي هتف بها المصريون. وبطبيعة الحال أدى هذا الأسلوب الأمني العنيف والفج إلى تأجيج مشاعر السخط ضد النظام وعضد من موقف الثوار وجعلهم يرفعون من سقف مطالبهم ووفر لهم تعاطف ودعم أغلب المصريين.
خامساً: احتكار الحكم وتوغل الدولة الأبوية :
تنبت الثورة في أي مكان في العالم ولدى كافة بني البشر، كفكرة أو حلم يراود من ضاقوا ذرعاً بواقعهم الذي يعيشونه، وفقدوا الأمل في تغييره بالطرق التقليدية. فالثورات تحتاج لخيال وإرادة ورغبة في التغيير وطموح في صياغة واقع بديل لما هو قائم بالفعل. وقد شهد التاريخ على ذلك، فالثورة الأمريكية عام 1776 قامت لأجل الحرية من المستعمر البريطاني، والثورة الفرنسية اندلعت في 1789 لإقامة مجتمع عادل يسود فيه الإخاء والمساواة، وثار الروس في 1917 لإزاحة قيصر مستبد وطبقة ارستقراطية احتكرت ثروات الأمة الروسية، واندلعت الثورة الإيرانية في 1978 والتي بدأت كثورة مجتمع إلى أن سيطر عليها الإسلاميون واستحوذوا عليها وخلعت الشاه في 1979 سعياً لتأسيس جمهورية إسلامية تقوم على فكرة ولاية الفقيه.
وعلى الرغم من أن ثورة 25 يناير لم يكن لها زعيم أو رمز كجورج واشنطن أو فلاديمير لينين أو آية الله الخميني ولم يهيمن عليها تيار أو فصيل كأئمة إيران أو اليسوعيون في فرنسا، ولم تسيرها أيديولوجية معينة كالشيوعية في روسيا، إلا أنها قامت من أجل حلم راود الكثير من المصريين، وخاصة النواة الثورية من الشباب المسيّس الذي أشعل الثورة في مظاهرات 25 يناير 2011.
وفي رأيينا، فإنه لا يمكن فصل ما شهدته مصر منذ 25 يناير 2011 عن سياقه التاريخي والاجتماعي الأوسع، فما حدث في مصر لم يكن مجرد سقوط لنظام أو إزاحة لحاكم أوتوقراطي، وإنما هي ثورة على فكر وفلسفة الحكم التي سادت في مصر لعقود بل ولقرون. ثورة على فكرة الدولة المركزية القوية المهيمنة على مقدرات المصريين وكافة مناحي حياتهم. ثورة على مظاهر هيمنة الحاكم الذي يلعب دور رب الأسرة المُهيمن على حياة أبنائه، ثورة على فكرة تحوّل الأمة إلى تابع مطيع للحاكم لا ترى الحرية إلا بوصفها منحة يهبها هذا الأخير ويحدد مقدارها ومساحتها. لقد كان حلم الثوار الذين خرجوا إلى الشوارع والميادين يوم 25 يناير 2011 هو كسر عجلة التاريخ والإطاحة بالدولة الأبوية التي تبسط سيادتها على حياتهم وإعادة صياغة العقد الاجتماعي المصري على أساس جديد يمنح الأمة حقها في تقرير مصيرها ويعيد السيادة إلى مواطنيها من جموع الشعب المصري.
ولا شك في أن الخط الفاصل بين التمادي في مواجهة الدولة الأبوية والسعي إلى تحجيم دورها من جانب وبين إسقاط الدولة أو مؤسساتها أو كسر هيبتها من جانب أخر، خط دقيق بالغ الدقة يستوجب حذراً في الفهم الفلسفي وفي التطبيق العملي على سواء. فينبغي أن تظل الدولة المصرية قوية، ويجب أن يظل دورها في حياة المصريين قائماً، فلم تعرف مصر تقدماً أو ازدهاراً إلا ودولتها ومؤسساتها قوية. فقد كانت الدولة – وبالتحديد الجيش – هي قاطرة التنمية والتقدم في عصر محمد علي باشا مؤسس الدولة المصرية الحديثة، كما كانت الدولة هي المحرك والقائد للنهضة التي أحدثها الخديوي إسماعيل، ولعبت الدولة وقيادتها السياسية الدور الأبرز في النقلة النوعية والطفرة الملموسة التي حققها الزعيم جمال عبد الناصر من خلال مشاريعه القومية الكبرى وفي مقدمتها السد العالي. ولكن لا يجب أن يحول إدراكنا وإيماننا بأهمية ومركزية الدولة المصرية – والجيش هو عمودها الفقري – وضرورة أن تكون قوية وعتيدة ودون مراجعة دور تلك الدولة ومؤسساتها الحاكمة أو يمنع إعادة ترسيم حدود سلطتها في توجيه دفة ووجهة المجتمع أو يقيد من حق المصريين بكافة طوائفهم ومشاربهم الفكرية في المشاركة في صنع مستقبلهم.
ورغم تعدد التيارات السياسية والإيديولوجية التي اعتصمت في ميدان التحرير وخاضت معركة إسقاط النظام، إلا أننا نزعم أنها قد توحدت أو على الأقل قد ظهر أنها توحدت، خلال أيام الثورة، حول رغبتها في خلق واقع اجتماعي جديد في مصر يقوم على التعددية السياسية وعلى نبذ الفكر الاقصائي الاحتكاري الذي انتهجته النظم السابقة. ولهذا كان تفرد الثورة المصرية، فهي اندلعت لإسقاط واقع أكثر مما قامت لتأسيس بديل واضح المعالم ومعروف الأبعاد. وهو ما يمكن النظر إليه بوصفة ميزة كبرى فتحت الباب للمجتمع أن يشترك بأسره في صياغة مستقبله، وحالت دون إدعاء أي فصيل أو تيار بأنه صاحب الحق في أن يستأثر بعملية بناء الجمهورية المصرية الثانية. ولكنها ولاشك مثلت في نفس الوقت خطورة على واقع البلاد ما زالت تهدد استقراره، حيث غاب من يستطيع أن يحوز على الرضاء الغالب للشعب، وأضحي أي توجه أو قرار محل اعتراض وانتقاد من شرائح كبرى في المجتمع، وأصبحت أيام الاعتصام والتظاهر في ميدان التحرير أكثر عددا من أيام التباحث والتشاور.
وبطبيعة الحال، فإننا لا ندعي أن ملايين المصريين الذين تظاهروا في أرجاء البلاد على مدار الأيام الثمانية عشرة التي أسقطت النظام سعوا جميعاً لإعادة صياغة الحكم وطبيعته على النحو الذي وصفناه آنفاً. فكما قلنا في مقدمة هذا الفصل، تعددت الأسباب التي أنضم المصريون من أجلها إلى الثورة من مظالم اقتصادية إلى دوافع سياسية. ولكن بين هذا وذاك خالج البعض من الشباب – وخاصة المسيس منهم – حلم تأسيس مجتمع جديد في مصر وخلق واقع مغاير لما هو قائم يبتعد بنا عن نمط علاقة الدولة بالأمة الذي شبهناه بعلاقة رب الأسرة بأبنائه والذي وصفه آخرون بـ "الدولة الأبوية" التي تسيّر أمور رعاياها دون أن يضطلعوا هم بدور يذكر في تسيير شئونهم.
المبحث الثاني
قهر الفقر وغياب التنمية الشاملة وشيوع الفساد
كما أسلفنا في مقدمة هذا الفصل التمهيدي، لم تكن المعاناة الاقتصادية في صدارة دوافع طليعة الثوار من الشباب الذين خرجوا في مظاهرات يوم 25 يناير، إلا أنها كانت على رأس المظالم التي دفعت أغلب طوائف الشعب المصري لمباركة الثورة ومناصرتها حتى سقط النظام يوم 11 فبراير 2011. وقد أظهرت سلسة من استطلاعات الرأي التي أجريت بعد نجاح الثورة الأهمية التي يوليها الأغلبية الكاسحة من المصريين لتحسين الحالة الاقتصادية في البلاد، حيث جاء هدف تحقيق طفرة اقتصادية على رأس أولويات 82% من المصريين في أحد هذه الاستطلاعات، فيما أظهر استقصاء آخر أن نفس الأغلبية – أي 82% – سيؤيدون الحزب السياسي الذي يعد بتحقيق معدلات أعلى من التشغيل من خلال الإصلاح الاقتصادي وجذب الاستثمارات الخارجية وتعزيز التجارة الخارجية.
ومن ثم فإنه لا ريب من أن التحدي الأهم الذي سيواجه أي حكومة تأتي إلى سدة الحكم في المرحلة المقبلة في مصر سيتمثل في إيجاد فرص عمل ودعم الصادرات واجتذاب استثمارات أجنبية تمكن الاقتصاد المصري من تحقيق معدلات نمو مرتفعة تضمن تحسن مستوى المعيشة للمصريين، وهي كلها أمور لم يحقق النظام السابق النجاح المنشود فيها. ولن نسرد هنا التاريخ الاقتصادي لمصر على مدار العقود الثلاثة الأخيرة، ذلك أن هذا ليس الغرض من هذا الفصل، وإنما سنسعى لرسم الملامح العامة للمعاناة الاقتصادية للمصريين وكيف ساهمت في تأجيج مشاعر الغضب والحنق تجاه النظام.
وفي رأيينا، فإن ظواهر كتفشي الفقر وتدني الأجور وانتشار البطالة تعد عوارض لعوار أعمق أصاب هيكل الاقتصاد المصري. فهناك دول كثيرة ومجتمعات عديدة – كالهند والبرازيل مثلاً – يعاني أهلها من الفقر وتدني الأجور، إلا أنها لا تشهد ثورات ولا يسود الإحباط في أوساط شبابها كما ساده في مصر، التي وضح فيها أن الأمل كان قد قتل في نفوس المصريين وأنهم لم يعد لديهم ثقة في المستقبل بسبب ما نراه انه سوء تطبيق النظام لسياسات التحرر الاقتصادي والتحول من الاقتصاد الموجه إلى الاقتصاد الحر. فمع اعترافنا بصعوبة الوضع الاقتصادي لمصر عند تولي الرئيس السابق حسني مبارك مقاليد الحكم في أكتوبر 1981 لأسباب متعددة منها الحروب التي خاضتها مصر، والديون التي تراكمت عليها، وسياسات الحقبة الناصرية الاشتراكية التي قضت على القطاع الخاص، والآثار السلبية التي تركتها تجربة الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات، إلا أن النتيجة تظل انه بعد ثلاثين عاماً من الإصلاحات الاقتصادية وبعدما أعفت الدول الغربية مصر من نسبة كبيرة من ديونها الخارجية بعد حرب الخليج الثانية في عام 1991، فشلت الدولة في تحقيق نقلة نوعية في مستويات معيشة المصريين، وهو ما نجحت فيه دول أخرى واجهت ظروف مشابهة لمصر، مثل كوريا الجنوبية واندونيسيا وماليزيا وفيتنام، وفي هذا الصدد لا يجوز التذرع بالزيادة السكنية المطردة، أو بندرة الموارد، فجميعها ظروف عانت منها المجتمعات النامية التي حققت طفرات اقتصادية كبرى.
ومن مفارقات القدر أن تحسن الأداء الاقتصادي كان من أهم ما يسوّقه النظام السابق لشرعنة بقائه واستمراره في الحكم. وما من شك أن العديد من الخطوات الإيجابية تحققت في السنوات الأخيرة في عدة مجالات، كمعالجة بعض التشوهات الاقتصادية الكلية، وتحقيق معدلات نمو معقولة، وتحسين البيئة الاستثمارية، وتوفير خدمات تكنولوجيا المعلومات لمجتمع الأعمال، وبناء مشاريع للبنية التحتية. إلا أن الإشكالية الرئيسية التي واجهت الاقتصاد المصري، ولاسيما خلال العقد الأول من القرن الحالي، هو عدم ترجمة هذه الخطوات الإيجابية والتحسن الذي طرأ على بعض مؤشرات الاقتصاد الكلي إلى تحسن ملموس في مستوى معيشة المواطن المصري العادي. ويرى العديد من خبراء الاقتصاد والتنمية أن السبب الرئيسي لفشل السياسات الاقتصادية للحكومة المصرية منذ مطلع التسعينات هو أنها لم تحقق التنمية بمفهومها الواسع والذي يمتد لما هو أبعد من مؤشرات الاقتصاد الكلي ليشمل التنمية البشرية الشاملة، وهو ما عبر عنه بعض المعلقين بالقول أن "المؤشرات الاقتصادية لا تسمن ولا تغني من جوع." وقد تجلت إخفاقات النظام السابق في احتلال مصر – بعد ثلاثين عاماً من برامج الإصلاح الاقتصادي – المرتبة 101 من أصل 169 دولة قام برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بحصر حالة التنمية البشرية فيها عام 2010، وفي المركز 14 بين الدول العربية. ويعد تردي النظام التعليمي في مصر أهم الشواهد على تراجع التنمية البشرية، حيث مازال حوالي 40% من المصريين يعاونون من الأمية، فيما حققت دول عربية غير نفطية أخرى نجاحات كبيرة في مجال محو الأمية، فقد وصلت نسبة المتعلمين في كل من الأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة إلى 99%، وإلى 94% في تونس، وإلى 92،5% في سوريا، و90% في الجزائر.
وقد أدت عدة عوامل مجتمعة – وفي مقدمتها ضعف النظام التعليمي – إلى انتشار البطالة في أوساط الشباب، فقد أظهرت الإحصاءات أن 92% ممن يعانون من البطالة هم من المتعلمين ممن هم دون سن الثلاثين وأن 50% من هؤلاء العاطلين عن العمل في المرحلة العمرية من 20-25 سنة، وذلك لأن التعليم المصري كان يخرج أجيالاً من الشباب غير المؤهلين للمنافسة بكفاءة في سوق العمل وغير القادرين على توفير الأيادي العاملة المدربة القادرة على دفع عجلة الإنتاج. ويتجسد ذلك في الإحصاءات التي توضح أن أعداد العاطلين من المتعلمين والحاصلين على الشهادات العليا أعلى بكثير مما هي عليها بالنسبة لحاملي الشهادات دون المتوسطة وغير المتعلمين، والذين يعانون بدورهم من ضعف شديد في دخولهم.
وقد أدى ذلك كله إلى انتشار الفقر وتحوله إلى ظاهرة وقفت الدولة مكتوفة الأيدي أمامها، فقد كشفت الإحصاءات الدولية عن أن حوالي 44% من المصريين يعيشون على أقل من دولارين في اليوم وأن 20% محرومون من الخدمات الأساسية اللازمة للاستمتاع بمستوى ملائم للمعيشة.
ومن ثم، فإن النتيجة التي نخلص إليها هي أن الاقتصاد المصري كان يعاني من حلقة مفرغة من الجهل والفقر، حيث يساهم تردي التعليم وضعف مستوى الخريجين في ارتفاع معدلات البطالة وضعف النمو الاقتصادي مما يقلل من معدلات الادخار ويحد من مستويات الاستثمار المحلي ويجعل المستثمر الأجنبي يتردد في الدخول إلى السوق المصري لأنه لا يجد الأيادي العاملة المدربة، وهو ما يعود ويؤجج مشكلة البطالة ويفضي إلى زيادة وانتشار الفقر في المجتمع.
كما ترتب على سوء تطبيق سياسات التحرر الاقتصادي وإهمال التنمية البشرية الشاملة حدوث خلل جسيم في هيكل الدخل في المجتمع المصري، فاتسعت الفجوة بين الطبقات وازداد الأغنياء غناءً والفقراء فقراً، وشعرت الطبقة الوسطى – والتي يفترض أنها عماد المجتمع – بضغط شديد نتيجة الارتفاع المضطرد في الأسعار وزيادة تكاليف الحياة دون أن يقترن ذلك بزيادة مماثلة في الدخل. وعبرت الوثائق والدراسات الدولية عن هذه الظاهرة بجلاء، حيث تظهر الإحصاءات أن الشريحة الأغنى من المجتمع المصري – والتي تمثل 30% من الشعب – استحوذت على 73% من الدخل القومي، فيما لم تحظ شريحة الـ 30% الأكثر فقراً سوى على 12% من الدخل. أما الطبقة الوسطى التي تمثل الـ 40% الواقعة بين هاتين الشريحتين، فكان نصيبها من الدخل القومي حوالي 15% فقط، وهو أبلغ دليل على اختلال التوازن والعدل في توزيع الثروة في البلاد وإخفاق الدولة في تحقيق الحد الأدنى من العدالة لاجتماعية.
ومن هنا، فإنه يصبح منطقياً أن يؤدي فشل النظام في تحقيق التنمية الشاملة في المجتمع المصري وما أنتجه ذلك من ضعف في الأداء الاقتصادي إلى إفقاد النظام أحد أهم ركائز شرعيته. فقد كان العقد الاجتماعي الضمني المبرم بين الشعب المصري وحكّامه يقضي بأن يوفر النظام حياة كريمة للمصرين في مقابل بقائه في السلطة، وهو العقد الذي أخل به النظام بفشله في ضمان حد أدنى من الرفاهية والرخاء للمصريين. كما أن إخفاق الدولة في تحقيق تقدم اقتصادي كبير في مصر أثبت عدم صحة النظرية التي كان يتبناها النظام والقائلة بأنه يتعين التمهل في القيام بإصلاحات سياسية جذرية إلى حين تحقيق نجاحات في المجال الاقتصادي. وبالتالي، تضافرت هذه الظروف مع غيرها من المعطيات السياسية والاجتماعية لتأجج شعور المصريين بضياع الأمل ولتفقدهم الثقة في قدرة النظام على توفير مستقبل أفضل لهم ولأسرهم ولتشعل غضب المصريين، الذي لم ينطفئ بعد. ولا شك أن شيوع الفساد قد ساهم بدوره في تعزيز الفقر وإجهاض كل محاولات إسقاط ثمار التنمية على القطاع الأوسع من الشعب.
لم يكن يخفى على المصريين، قبل ثورة 25 يناير، أن بلدهم تعاني من الفساد بمختلف أنواعه وعلى اختلاف مستوياته ومجالاته، إلى الحد الذي دفع ما نسبته 13% ممن شملهم استقصاء للرأي أجري في عام 2009 للمطالبة بضرورة وضع مكافحة الفساد على قمة أولويات الحكومة. إلا أن التحقيقات التي أجريت في الأيام والأسابيع التي تلت تنحي الرئيس السابق عن سدة الحكم وسقوط رموز نظامه كشفت عن اتهامات بالفساد تفوق حجماً ونوعاً توقعات المهتمين بملف الفساد في مصر. لقد انتشر الفساد في الكثير من القطاعات الحكومية وأخذ أشكالاً وأنماط متعددة. لم يقتصر الفساد على صغار الموظفين الإداريين من المعدومين الذين يحاولون زيادة دخلهم المتواضع، بل امتد إلى كبار موظفي الدولة وقيادات بعض من أجهزتها الإدارية الذي وجهت لهم الاتهامات باستغلال مناصبهم إما للتربح أو لمساعدة المقربين منهم بشكل غير مشروع. وكما فعلنا في المباحث السابقة، فلن نتناول تفاصيل صور وأنماط الفساد الذي عانت منه مصر، فهذا أمر متشعب الأبعاد ومتعدد الجوانب منها القانوني والاقتصادي والاجتماعي، كما أن تحقيقات الأجهزة القضائية والرقابية في العديد من القضايا والدعاوى مازالت جارية حتى كتابة هذه السطور، وإنما سنحاول فقط أن نتلمس ملامح شيوع الفساد وتوغله في المجتمع المصري، ومدى تأثير ذلك على خروج الشعب المصري غاضباً وثائراً.
لقد تعددت أوجه وأشكال الفساد في مصر، وعايش كل مواطن مظاهره في تعاملاته اليومية مع العديد من الأجهزة والدواوين الحكومية، كما تناولته وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والعديد من الأعمال الفنية على مدار الأعوام فكشفت عن الكثير من فضائحه وسلطت الضوء على ممارساته المعيبة التي ارتكبها بعض من المسئولين الحكوميين أثناء تأدية وظائفهم، كما تناولته العديد من التقارير والبحوث الأكاديمية. وامتد الفساد من الأعمال الإدارية البسيطة لأجهزة في الدولة إلى قرارات هامة مرتبطة باستغلال وتوظيف المال العام، ومن ظاهرة المحسوبية و"الواسطة" في التوظيف إلى الفساد السياسي والتزاوج بين المال والسلطة.
وقد حددت تقارير مؤسسة الشفافية الدولية، وهي من أبرز المنظمات العاملة في مجال مكافحة الفساد، أهم الأنشطة الحكومية التي شهدت مخالفات إدارية، والتي جاء في مقدمتها المشتريات الحكومية، وإساءة استغلال وتبديد المال العام وممتلكات الدولة، واتخاذ قرارات إدارية لتحقيق منفعة لأشخاص أو جهات بعينها، ودفع رشاوى للحصول على استثناءات من اللوائح أو لإنهاء إجراءات إدارية، وللتعيين في الوظائف الحكومية. ولم تسلم السياسية هي الأخرى من الفساد، فشاع ما يعرف بـ "شراء الأصوات " خلال الانتخابات، وانتشرت معلومات حول قيام الدولة بـ "تفصيل القوانين" لخدمة مصالح أفراد بعينهم، كما تردد أن مسئولين حكوميين سهلوا لأشخاص مقربين من السلطة الاستيلاء على المال العام والاستحواذ على مؤسسات وأراضي مملوكة للدولة بأثمان بخسة. ولهذا كله تكرر قبوع مصر في مراكز متأخرة في تصنيفات المؤسسة لمعدلات الفساد العالمية، فاحتلت مصر المرتبة 70 من أصل 163 دولة تم دراسة حجم الفساد فيها في عام 2006، ثم تأخر ترتيب مصر في العامين التاليين اللذين شهدا دراسة حالة 180 دولة، حيث جاءت مصر في المركز 105 في عام 2007، ثم تراجعت إلى رقم 115 في عام 2008. وجدير بالذكر أن هذه التقارير الدولية – والتي تتمتع بقدر كبير من المصداقية – لم تكتف برصد انتشار الفساد في مصر، بل سجلت تناميه واستفحاله في الأعوام الأخيرة.
وبلا شك فإن الفساد الإداري ظاهرة لا تنفرد بها مصر، وإنما هو واقع تعايشه وتعاني منه جميع دول العالم، بما فيها الدول المتقدمة والديمقراطية. لكن أكثر ما ميز الفساد في المجتمع المصري، وجعله أكثر خطورة وتأثيراً على حياة المواطن، هو استشرائه رغم وجود إطار قانوني متكامل يجرم الفساد وأجهزة رقابية مكلفة بإنفاذ هذه القوانين وملاحقة المفسدين. وبمعنى آخر، فقد كان لدى مصر – وبشهادة المنظمات الدولية – إطار قانوني معقول ومجموعة جيدة من الآليات والأجهزة الرقابية المخصصة لمكافحة الفساد ومحاسبة المفسدين، إلا أن هذه الآليات عانت من التهميش والتقويض والتكبيل. وليس أدل على ذلك من عدد وحجم الأجهزة الرقابية المتعددة القائمة في مصر والتي شملت تخصصاتها مكافحة كافة أوجه وأنماط الفساد. فهناك هيئة الرقابة الإدارية، والنيابة الإدارية، ومباحث الأموال العامة، والجهاز المركزي للمحاسبات، وجهاز الكسب غير المشروع، ووحدة مكافحة غسل الأموال، بالإضافة إلى أجهزة تنظيمية ورقابية كالبنك المركزي الذي ينظم ويراقب أداء القطاع المالي المصرفي، والهيئة العامة للرقابة المالية التي تتولى التنظيم والرقابة لقطاعات التأمين وسوق رأس المال والتمويل العقاري وغيرها من النشاطات المالية غير المصرفية، وجهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار وجهاز حماية المستهلك، وأخيراً النيابة العامة صاحبة الاختصاص الأصيل بتحريك الدعوى الجنائية، والوحيد بمباشرتها.
ومن هنا تأتي المفارقة ويثور التساؤل عن مصدر هذا الفساد الذي استشرى بمختلف أشكاله وأنواعه والذي امتد من القطاع العام وأجهزته إلى القطاع الخاص وكياناته؟ وكيف سُمح للفساد أن يتحول إلى منظومة كلفت مصر – وفق دراسات دولية – ما يقرب من ستة مليار دولار سنوياً بين عامي 2000 و2008؟ وتتطلب الإجابة الشافية والوافية على هذا السؤال أكثر بكثير مما هو مخصص هنا لمسألة الفساد.
وفي جميع الأحوال، فإنه من المؤكد أن غياب إستراتيجية وطنية واضحة لمنع وقوع الفساد من خلال إصلاح مواطن الخلل القانوني والإداري والاقتصادي التي تسمح للمفسدين بأن يمارسوا نشاطهم يمثل واحداً من أهم الأسباب التي أدت إلى استفحال الفساد في مصر، حيث لا يمكن لجهود الملاحقة الجنائية للمفسدين وحدها أن تقف في وجه منظومة الفساد.
لقد ساهم تدخل السلطة التنفيذية في عمل الأجهزة الرقابية ومنعها من تأدية مهامها وغض البصر عن التقارير التي كانت ترفعها بشأن بعض وقائع الفساد في المساعدة على انتشارها، فلم تكن هذه الجهات الرقابية تتمتع بالقدر الواجب من الحرية والاستقلال القانوني والمالي والإداري، كما لم يكن عملها في بعض الحالات على القدر الواجب من الكفاءة المهنية، حيث قيدت اللوائح والنظم الإدارية التقليدية من قدرتها على استقطاب الكفاءات، وكانت تصدر في بعض الأحيان توجيهات سياسية بتوقف أعمال الرقابة عند مستوى معين من الوظائف أو بتجاهل تقارير هذه الأجهزة. وقد اقترنت هذه الممارسات مع ما سبق تناولنه حول الزواج المشئوم بين المال والسلطة الذي أدى إلى اعتلال السياسة في مصر، وساهم في تفاقم حالات تضارب المصالح، مما هيأ المناخ لكثيرين ممن كانوا في السلطة لتحقيق مكاسب طائلة أو على الأقل خلق البيئة المناسبة في الاعتقاد في ذلك. ويجب ألا ننسى في هذا الصدد أن الإحساس بوجود فساد لا يقل خطورة عن وجود الفساد بشكل حقيقي.
وكان للفساد بكافة أشكاله، والذي أصاب الحياة الاقتصادية بقدر ما شاع في العمل السياسي، نصيب كبير في تأجيج مشاعر الغضب لدى المصريين وفي ترسخ قناعتهم باستحالة إصلاح النظام، فدفعهم للثورة على النظام والمطالبة بإسقاطه يوم 25 يناير 2011، ومن ثم الدعوة لتطهير البلاد من المفسدين، وهي الدعوة التي لباها المصريون في المظاهرة المليونية المعروفة بجمعة التطهير يوم 11 إبريل 2011، والتي صدر في أعقابها قرارات حبس الرئيس السابق وأبنائه على ذمة التحقيق في بلاغات تتضمن التربح وسوء استغلال السلطة والفساد، وهي البلاغات التي قضي فيها فيما بعد بانقضاء الدعوى الجنائية في شق منها وبالبراءة في شق أخر.
المبحث الثالث
استباحة الحقوق وإهدار الكرامة الإنسانية
لا يثور شعب على نظام يصون كرامة الإنسان ويحمي حقوقه وحرياته الأساسية. أما في مصر، فقد استباح النظام حقوق المواطنين وأهدر كرامتهم على نحو دفع الكثير من المصريين الذين ضاقت بهم السبل لهجر بلدهم بحثاً عن حياة أفضل في شتى بقاع الأرض. لقد شهدت مصر العديد من أوجه وأشكال انتهاكات حقوق الإنسان على مدار السنوات بل والعقود الماضية، فعانى المواطن مساساً بحقوقه المدنية وافتئاتًا على حرياته السياسية، فضلاً عما رصدناه سابقاً من إخفاقات في مجال حقوقه في التنمية حرمت جانب كبير من المصريين من جزء هام من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية.
وقد وثقت العديد من الهيئات والمنظمات الوطنية والإقليمية والدولية حالة حقوق الإنسان في مصر، وسجلت المخالفات التي ارتكبتها الدولة لواجباتها المرتبطة بحماية الحقوق والحريات العامة المقررة بموجب الدستور والقانون وبمقتضى الاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها مصر. ومن ثم، فلن نسهب في وصف حالة حقوق الإنسان في مصر بالتفصيل، حيث يسهل التعرف على أوجه القصور التي شابت أوضاع حقوق الإنسان في البلاد بالرجوع للعديد من التقارير المنشورة عن جهات متعددة وطنية ودولية رسمية وأهلية خلال الفترة الماضية. وغاية الأمر أننا سنحاول في السطور القليلة القادمة أن نلقي نظرة شمولية على أوضاع حقوق الإنسان في مصر بهدف تشخيص النمط العام للعوار الذي شاب أداء الدولة في هذا المجال ولتحديد أبرز عوارض إهدار كرامة المصري في وطنه.
وبصفة عامة، عندما نطالع تاريخ وسجل مصر في مجال حقوق الإنسان على مدار القرن العشرين، سنجد أن ما عانى منه الشعب المصري خلال العقود الأخيرة، لم يكن فريداً أو استثنائياً، بل جاء امتداداً ونتاجاً للعلاقة التي سادت بين الدولة والمواطن طوال القرن الفائت وخاصة في ظل الجمهورية المصرية الأولى التي تأسست في 23 يوليو 1952. فقد اتسم الأسلوب العام لتعامل الدولة المصرية مع المجتمع على مدار تلك العقود الستة بعدة ملامح لم تختلف كثيراً مع تغير الحاكم.
ومن أبرز ملامح السجل المصري في حقوق الإنسان بصفة عامة هو تفضيل الدولة المصرية وانحيازها للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على حساب الحقوق المدنية والسياسية. وكما هو معروف فإن حقوق الإنسان تنقسم إلى قسمين رأسيين، أولهما الحقوق المدنية والسياسية التي تتمحور فلسفتها حول فكرة وقيمة الحرية، وذلك من خلال صون حياة الإنسان وحمايته من إساءة معاملته من قبل الدولة أو المواطنين الآخرين، وعن طريق إقامة العدل وترسيخ المساواة ومنع التمييز، بالإضافة إلى منح المجتمع حرية إدارة شئونه من خلال وضع أسس الحكم الديمقراطي، كحريتي الرأي والتعبير والمشاركة في الحياة العامة وإجراء الانتخابات وتأسيس الجمعيات. أما القسم الثاني من منظومة حقوق الإنسان فيتكون من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتي تتصل في مجملها بفكرة ضمان مستوى لائق من المعيشة للمواطنين، من خلال توفير خدمات الصحة والتعليم والسكن، وضمان حد أدنى من الغذاء ومنح الحق في الحصول على فرصة عمل مناسب وتأسيس نقابات عمالية وتوفير الضمان الاجتماعي للمواطنين.
ويتأسس تفضيل الدولة المصرية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية على الحقوق المدنية والسياسية على قناعة بأنه لا يمكن إقامة الديمقراطية السليمة في البلاد دون أن يسبق ذلك إقامة العدالة الاجتماعية وتأمين الاحتياجات الاقتصادية الأساسية للمواطنين. أي أن لب هذا الفكر وأساسه هو القول أن الفقراء والمعدومين ليس في مقدورهم ممارسة الديمقراطية، وأنه يتعين تحقيق التنمية والرخاء في المجتمع قبل إطلاق الحريات السياسية. وما من شك أن هذا الرأي له وجهاته ويحظى بقبول في بعض الدوائر الفكرية والإيديولوجية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، عبر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عن هذا المنهج في مناسبات عديدة، منها كلمته لعرض الميثاق الوطني لمجلس الأمة المصري في 21 مايو 1962، حيث قال: "إن المواطن لا تكون له حرية التصويت في الانتخابات إلا إذا توفرت له ضمانات ثلاث: (1) أن يتحرر من الاستغلال في جميع صوره، (2) أن تكون له الفرصة المتكافئة في نصيب عادل من الثروة الوطنية، (3) أن يتخلص من كل قلق يبدد أمن المستقبل في حياته". وما من شك أن حكام مصر الذي جلسوا على قمة هرم الدولة المصرية منذ عام 1952، أو على الأقل بعضهم، كانوا مقتنعين إلى حد ما بهذه النظرية، إلا أن التجربة التاريخية في مصر وفي غيرها من دول العالم أثبتت أيضاً أن هذا المنطق كان يروج له ويسوّق لتوفير تكأة وحجة للدولة لتأجيل وتأخير التحول للديمقراطية لما ينطوي عليه ذلك من تهديد لاستئثارها بالسلطة والحكم، ولما سيفرزه الانتقال إلى التعددية السياسية من منافسين للنخبة الحاكمة التي احتكرت السياسية. وبالتالي، كان هناك تكامل بين هذه النظرية التي تؤخر وتهمل، بل وتهدر، الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين وتحرمهم من حق ممارسة السياسية والاشتغال بالعمل العام وبين ظاهرة تجريف السياسية وإقصائها من حياة المصريين التي تحدثنا عنها فيما سبق.
أما الظاهرة الثانية التي ميّزت حالة حقوق الإنسان في الجمهورية المصرية الأولى، بما فيها السنوات الثلاثين لحكم الرئيس السابق، فكانت ما نصفه بأنه "تطبيع الاستثناء"، ونقصد به ظاهرة لجوء الدولة إلى إجراءات وسياسات وأدوات استثنائية لإحكام قبضتها على مقاليد الحكم في البلاد، وهي الإجراءات والأدوات التي عادة ما اقترنت بإهدار للعديد من الحقوق والحريات الأساسية وساهمت في تكريس السلطة المطلقة للدولة وهيمنتها على كافة أوجه الحياة في مصر. لقد جاءت قمة تجليات هذا المنهج في تطبيق حالة الطوارئ طوال معظم السنوات التي مضت على إعلان الجمهورية في مصر، بل أن الأمر يتجاوز الحكم الجمهوري ليمتد لما سبقه من حكم ملكي، فخلال الأعوام الثلاثين التي امتدت من إعلان استقلال مصر بموجب التصريح البريطاني الصادر في 28 فبراير 1922 وإلى قيام ثورة 23 يوليو 1952، فرضت الأحكام العرفية (وهو المسمى المستخدم آنذاك لوصف "حالة الطوارئ") لسبعة عشر عاماً. أما منذ قيام ثورة يوليو إلى يومنا هذا، فقد طبقت حالة الطوارئ على مصر لأربعة وخمسين سنة من أصل تسعة وخمسين سنة هي عمر الجمهورية الأولى في مصر. ورغم أن مصر مرت بظروف عصيبة على مدار القرن العشرين، بين أحداث محلية جسيمة وتطورات إقليمية عاصفة، إلا أنه ما من شك أن الدولة لم تكن بحاجة لفرض حالة الطوارئ واللجوء لإجراءات استثنائية فرطت في حقوق المصريين وأهدرت كرامتهم للتصدي لهذه لظروف الطارئة التي واجهت الأمة المصرية، وهو ما ينطبق بالأخص على سنوات حكم الرئيس السابق حسني مبارك، التي لم تشهد – في رأيينا – أحداث أو أزمات بالحجم الذي يتطلب إعلان حالة الطوارئ لثلاثين سنة، بما في ذلك مواجهة الهجمات الإرهابية التي بلغت ذروتا في تسعينيات القرن الماضي، فهناك دول كثيرة تعرضت لأزمات أمنية داخلية وخارجية أكثر خطورة مما تعرضت لها مصر ولم تأسر هذه الدول مجتمعاتها وتحولها لرهينة خاضعة لقانون الطوارئ بسبب هذه الأزمات، ومنها باكستان والهند وكوريا الجنوبية والمكسيك.
ولم يقتصر الأمر على تطبيق حالة الطوارئ، وإنما تجاوز ذلك إلى خلق آليات وأدوات أخرى أتاحت للدولة الالتفاف على الإجراءات الطبيعية والعادية المنصوص عليها في الدستور والقانون للتعامل مع ما تواجهه أي حكومة من أحداث ومشكلات في إطار إدارتها لشئون أي مجتمع. فعلى سبيل المثال، فرغم وجود المحاكم الجنائية العادية والمنوط بها محاكمة المتهمين في جرائم منصوص عليها في قانون العقوبات، أنشأ النظام بموجب القانون رقم 105 لسنة 1980 محاكم أمن الدولة (وهي تختلف عن محاكم أمن الدولة (طوارئ) المنشأة بموجب قانون الطوارئ) والتي أحيلت إليها مجموعة من الجرائم الخطيرة التي تمس الأمن العام. وأخطر ما كانت تتسم به هذه المحاكم أنه كان يجلس على منصتها أفراد من خارج القضاء العادي، وهو ما يخل بمبادئ ومعايير المحاكمة العادلة التي تلزم الدولة بمحاكمة المتهمين في أي قضية أمام قاضيهم الطبيعي وليس أمام محكمة استثنائية. كما اعتاد النظام على اللجوء للقضاء العسكري للبت في القضايا التي تتسم بالطابع السياسي، حيث كان يحال إلى هذه المحاكم، والتي تتخصص في محاكمة العسكريين وليس المدنيين، أفراد مدنيين ممن ينتمون إلى جماعات أو تنظيمات مناوئة للنظام، كما حدث مع بعض قيادات جماعة الإخوان المسلمين.
وقد ترتب على ما وصفناه بأنه "تطبيع للاستثناء" عدة نتائج خطيرة، كان أهمها إحساس بعض الأجهزة الأمنية بأنها غير ملزمة بإتباع القانون واحترام مقتضياته وإجراءاته، وإنه يمكن الافتئات على أي من الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين باسم حماية الاستقرار في البلاد، والذي تحول في كثير من الأحيان من حماية الوطن إلى حماية النظام. كما أفرزت هذه الظاهرة ثقافة في أوساط بعض رجال الأمن بأنه لا حدود لما يمكن أن يتخذوه من إجراءات أثناء التحقيق مع من يشتبه في تورطهم في أعمال إجرامية دون أن يحاسبوا أو يسألوا على ما يقترفونه من خروقات لحقوق المشتبه فيهم أو المتهمين. وهو ما أدى كله إلى وقوع انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، والتي تمثل أفظعها في انتشار التعذيب وسوء المعاملة في الدوائر الأمنية واحتجاز الآلاف من المواطنين واعتقالهم تعسفياً. وقد تركت هذه الممارسات أثرها السلبي الملموس على المستوى الاجتماعي، والتي تعد من أبرزها اهتزاز، بل وانهيار، ثقة واحترام المواطن للمؤسسة الأمنية. كما خلق أداء بعض الأجهزة الأمنية، شعوراً ونزعة انتقامية لدى شريحة كبيرة من المصريين المهمشين والمستضعفين وممن كانوا مصنفين كخصوم سياسيين للنظام تجاه جهاز الشرطة بأكمله، وهو ما ظهر واضحاً في بعض الممارسات في أعقاب ثورة 25 يناير، حيث رغب هؤلاء، والذين كانوا من أشد من عانوا من العصا الغليظة للأمن، في القصاص من جلاديهم الذين أهانوهم وسلبوهم الكثير من حقوقهم وحرياتهم الأساسية. وما من شك أن مصر ستعاني خلال الأعوام المقبلة من ظاهرة انكسار هيبة الأمن، وسيكون أمامنا تحد كبير يتمثل في الوصول إلى ذلك التوازن الدقيق الذي تحظى به الشرطة باحترامها وهيبتها اللازمين لاستعادة الانضباط في الشارع المصري، دون أن يتحقق ذلك بوسائل وأدوات قمعية عنيفة تنتهك حقوق الإنسان وتحط من كرامته.
وقد ترتب على ما وصفناه بأنه "تطبيع للاستثناء" عدة نتائج خطيرة، كان أهمها إحساس بعض الأجهزة الأمنية بأنها غير ملزمة بإتباع القانون واحترام مقتضياته وإجراءاته، وإنه يمكن الافتئات على أي من الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين باسم حماية الاستقرار في البلاد، والذي تحول في كثير من الأحيان من حماية الوطن إلى حماية النظام. كما أفرزت هذه الظاهرة ثقافة في أوساط بعض رجال الأمن بأنه لا حدود لما يمكن أن يتخذوه من إجراءات أثناء التحقيق مع من يشتبه في تورطهم في أعمال إجرامية دون أن يحاسبوا أو يسألوا على ما يقترفونه من خروقات لحقوق المشتبه فيهم أو المتهمين. وهو ما أدى كله إلى وقوع انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، والتي تمثل أفظعها في انتشار التعذيب وسوء المعاملة في الدوائر الأمنية واحتجاز الآلاف من المواطنين واعتقالهم تعسفياً. وقد تركت هذه الممارسات أثرها السلبي الملموس على المستوى الاجتماعي، والتي تعد من أبرزها اهتزاز، بل وانهيار، ثقة واحترام المواطن للمؤسسة الأمنية. كما خلق أداء بعض الأجهزة الأمنية، شعوراً ونزعة انتقامية لدى شريحة كبيرة من المصريين المهمشين والمستضعفين وممن كانوا مصنفين كخصوم سياسيين للنظام تجاه جهاز الشرطة بأكمله، وهو ما ظهر واضحاً في بعض الممارسات في أعقاب ثورة 25 يناير، حيث رغب هؤلاء، والذين كانوا من أشد من عانوا من العصا الغليظة للأمن، في القصاص من جلاديهم الذين أهانوهم وسلبوهم الكثير من حقوقهم وحرياتهم الأساسية. وما من شك أن مصر ستعاني خلال الأعوام المقبلة من ظاهرة انكسار هيبة الأمن، وسيكون أمامنا تحد كبير يتمثل في الوصول إلى ذلك التوازن الدقيق الذي تحظى به الشرطة باحترامها وهيبتها اللازمين لاستعادة الانضباط في الشارع المصري، دون أن يتحقق ذلك بوسائل وأدوات قمعية عنيفة تنتهك حقوق الإنسان وتحط من كرامته.
أما ثالث مظاهر الإخلال بحقوق المواطنين التي اتسمت بها الجمهورية المصرية الأولى فتتمثل في بعض أوجه القصور التي شابت عمل وأداء مرفق القضاء في مصر. فرغم أننا لا نحمل في قلوبنا للقضاء المصري الشامخ وقضاته الأجلاء سوى كل الاحترام وعظيم التقدير، إلا أنه علينا الاعتراف بأن إيمان المصريين بإمكانية إنصاف الحقوق وإنفاذ القانون وإقامة العدل في المجتمع قد تراجع وتصدع خلال السنوات والأعوام الماضية، وهو ما قرره القضاة أنفسهم في مؤتمرهم الأول للعدالة قبل خمسة عشر عاماً، حين عددوا أسباب الشعور بغياب العدل والإنصاف، والتي كان من أهمها طول فترة التقاضي والبطء في إصدار الأحكام النهائية، وهو ما نرجعه بالأساس لنقص الموارد البشرية والأعباء الهائلة التي يتحملها القضاة نتيجة الأعداد الضخمة من القضايا التي ينظرون فيها. وقد تسببت هذه الظاهرة في الانتقاص من ثقة المواطنين في فاعلية اللجوء إلى القضاء كوسيلة للحفاظ على حقوقهم ولحل منازعاتهم، بالإضافة إلى انتشار ظاهرة تحول الأفراد لوسائل الأخرى لاقتضاء حقوقهم، كاللجوء للقوة والعنف أو إلى محافل عرفية وغير رسمية للفصل في النزاعات التي تنشأ بين المواطنين. وبصفة عامة، فإن القاعدة الفقيه تقول أن التأخر في إقامة العدالة يؤدي لضياع العدالة وربما لإنكارها، وهو ما يعني أنه ليس بغريب أن يفقد المواطن المصري الكثير من إيمانه بالقضاء والقانون كركائز ودعائم لا غنى عنها في بناء المجتمع القويم بسبب التأخر والتباطؤ في إقامة العدل.
ولم يكن طول فترة التقاضي هو المصدر الوحيد لتراجع ثقة المواطن المصري في فاعلية القضاء كأداة لصون الحقوق وإنفاذ القانون، وإنما ازداد الأمر تعقيداً عندما واجه المصريون ظاهرة عدم تنفيذ الأحكام القضائية الباتة والواجبة التنفيذ. ورغم عدم نشر إحصائيات أو تقارير رسمية تبين أعداد وأنواع الأحكام غير المنفذة في مصر خلال السنوات الأخيرة، إلا أنه لا يخفى على أحد عاش في مصر في السنوات الأخيرة واحتك بالمشاكل التي يتعرض لها المواطنون أن ظاهرة عدم تنفيذ الأحكام القضائية أصبحت واقعاً ملموساً عايشه المصريون جميعاً. والملاحظ أن الأحكام التي ظلت حبراً على ورق تعددت أنواعها وامتدت لتشمل أحكام صادرة في قضايا مدنية وجنائية وإدارية بمختلف محافظات الجمهورية، وهو ما يعني أن الأمر لم يقتصر على القضايا المتصلة بالشأن العام أو بملفات سياسية قد يكون للدولة وللنظام مصلحة في تجاهل تنفيذها الأحكام الصادرة بشأنها، وإنما تحول إلى ظاهرة عامة تتمثل في التراخي والإهمال الجسيمين في تنفيذ الأحكام القضائية، بل وربما في بعض الأحيان ارتباط الأمر بفساد حال دون تنفيذ أحكام تُضر بمن كانوا ذو نفوذ أو على اتصال بمن كانوا في السلطة.
ولعل قضية اختيار المرشحين للعمل في مرفق القضاء أو في مرفق الأمن، واعتماد معايير التقارير الأمنية، وتفضيل أبناء العائلات الكبرى والأسر ميسورة الحال على حساب أصحاب التقديرات العليا والمتميزين علمياً، ووقف التنقل والتبادل بين العاملين في الحقل القانوني وخاصة من المحامين وأساتذة الجامعات وبين العاملين في مرفق القضاء كانت هي الأخرى عاملاً في اهتزاز صورة القضاء المصري.
لقد أدت هذه الظواهر الثلاثة التي تناولناها – تفضيل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على حساب الحقوق المدنية والسياسية، واللجوء لأدوات وإجراءات استثنائية لقمع معارضي النظام، والقصور الذي شاب بعض أوجه عمل القضاء – إلى حرمان المصريين من المزيد من حقوقهم. فسُدت الطرق والوسائل الشرعية للمشاركة في الحياة السياسية، ولجأ النظام لقانون الطوارئ وغيره من الأساليب الاستثنائية لتأمين احتكاره للسلطة والحكم، وتزعزعت الثقة في القضاء كوسيلة لإقامة العدل وصون الحريات وحفظ الحقوق، وهو ما أفضى في نهاية المطاف إلى سيادة شعور لدى المصريين بأن سيادة القانون قد غابت – أو غيّبت – عن بلدهم.
وللأسف، لم تقتصر أعراض الخلل التي عانى منها المجتمع المصري في السنوات والعقود الأخيرة على انتهاك الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين المصريين، ولم يتوقف الأمر عند الخروقات الجسيمة التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية لحقوق الإنسان دون عقاب أو مساءلة، بل ازداد الوضع سوءً بشيوع إحساس في أوساط المصريين بأن كرامتهم مهدرة وأن آدميتهم مستباحة. وهو شعور غذاه أداء الدولة الذي اتسم بالإهمال الجسيم والتراخي غير المبرر في التصدي لحوادث مأساوية تعرضت لها مصر على مدار السنوات الأخيرة، كاحتراق قطار الصعيد في فبراير 2002 الذي أودى بحياة أكثر من 350 مصرياً، وغرق العبارة السلام 98 في فبراير 2006 الذي راح ضحيته أكثر من 1100 شخص بين مواطنين مصريين وأجانب، والانهيار الصخري لهضبة المقطم الذي أدى إلى مقتل حوالي 80 شخصاً من سكان منطقة الدويقة العشوائية في سبتمبر 2008. ورغم أن الحكومة لم تتسبب في هذه الحوادث مباشرة، إلا أنها ساهمت في تراجع شعبية وشرعية النظام لأنها جسدت الأشكال المختلفة والأوجه المتعددة لإخفاق النظام في توفير الحياة الكريمة للمصرين. فحادث قطار الصعيد ابرز تردي مستوى الخدمات العامة التي تقدمها الوزارات والهيئات الحكومية للجمهور، كما لفت حادث الديوقة الانتباه إلى أزمة العشوائيات والتي نتجت عن سوء التخطيط العمراني على مدار عقود من الزمن وفشل الدولة في تحقيق التنمية المستدامة الشاملة التي تستوعب هذه الأعداد الهائلة من المهمشين، فيما كشف غرق العبارة 98 وإفلات مالكها من العقاب بهربه إلى خارج البلاد عن مدى تهاون الدولة مع حياة المصريين.
وقد اجتمع كل ما تقدم من ممارسات قمعية وانتهاكات لحقوق الإنسان وغياب لسيادة القانون وحوادث آلمت المصريين وأدمت قلوبهم لتسهم في تأجيج غضب الأمة المصرية ونقمتها على النظام الحاكم، فقد أحس المصريون أنهم ليسوا الملاك الحقيقيين لوطنهم وأنه لا كرامة لهم في بلدهم، وأنه لم يعد هناك مجال أو طريق لإصلاح حال المجتمع المصري إلا بإسقاط نظام فرط في كرامة المصريين وأشعر غالبيتهم بالهوان.
المبحث الرابع
ثورتا المعلومات والأفكار
تحدث كثيرون عن دور تكنولوجيا المعلومات في قيام ثورة 25 يناير وكيف لعبت دوراً رئيسياً في حشد الجماهير ونشر الدعوات للخروج في مظاهرات تطالب بالتغيير وبإسقاط النظام. كما أبرز كثيرون دور الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي الالكترونية في فضح محاولات النظام في قمع المتظاهرين، الأمر الذي أجج غصب الجماهير وساهم في زيادة زخم الثورة وقوة اندفاعها. ومن جانبنا، نتفق مع كافة الآراء التي وصّفت الدور المهم الذي لعبته وسائل الاتصال الحديثة في تفجير وإنجاح ثورة 25 يناير، إلا أننا لا نصفنها ضمن دوافع قيام الثورة أو أسباب اندلاعها، وإنما نعتبرها من أدواتها ووسائل إدارتها.
أما ثورة المعلومات التي نقصدها في هذا السياق، والتي ساهمت في إشعال الثورة، فتتمثل في سقوط احتكار الدولة للحقيقة. ففي أزمان ماضية، كانت الدولة هي المصدر الرئيسي الذي يستقي المواطنون منه معلوماتهم، وكانت أجهزة الإعلام الرسمية باختلاف أشكالها هي الأداة الأكثر تأثيراً في الرأي العام والأداة الأقوى في تشكيل وجدان المجتمع. وقد احترفت الأنظمة الاستبدادية في مختلف دول العالم توظيف احتكارها للإعلام لإضفاء الشرعية على نفسها ولإقناع المواطنين بما تسوقه لهم من مبررات لوجودها. ولم تكن مصر بعيدة عن هذا النمط، وإنما ساد هذا الأسلوب في استغلال الإعلام لمصلحة النظام الحاكم طوال عمر الجمهورية الأولى، فلم يختلف أسلوب تعامل الدولة مع الإعلام في الحقبة الناصرية عما كان عليه في سنوات الرئيس الراحل السادات ولا عما كان قائماً في سنوات حكم الرئيس السابق مبارك الثلاثين، فكان الإعلام الرسمي للدولة يعمل دوماً لحساب النظام ويدافع عنه ويوفر التبريرات لبقائه ويقصي الأصوات المعارضة له.
إذاً، فماذا تغير؟ ولماذا أخفق الإعلام الرسمي في مهمته الرئيسية، ألا وهي شرعنة النظام وتبرير وجوده؟ الإجابة تتمثل في ثورة المعلومات التي تسببت في انهيار احتكار الدولة وأجهزتها للمعلومة وأفضت إلى تلاشي قدرة النظام على الإدعاء بأنه وحده يمتلك الحقيقة. فلم يعد المواطنون أسرى ما تطعمهم إياه الدولة من معلومات، ولم يعد النظام مستأثراً بما يصل إلى مسامع شعبه من حقائق عما يجري داخل الوطن وخارجه. وقد ساهمت هذه الظاهرة التي تعاظمت منذ تسعينيات القرن الماضي الذي وصف عن حق بأنه عصر "السماوات المفتوحة" في تعريف المواطن المصري بما حققته أمم أخرى في شرق المعمورة وغربها من نجاحات وإنجازات في مجالات الديمقراطية والتنمية، رغم أن الكثير من هذه الأمم واجهتها معضلات اقتصادية واجتماعية مشابهة لما تواجهه مصر. فتعلم المصريون، مثلاً، عن تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا، وفطنوا إلى أن الإسلام السياسي لا يعني بالضرورة التحول إلى دولة دينية يحكمها الأئمة، كما نظرواً إلى البرازيل والصين وإندونيسيا، واكتشفوا أن التعداد السكاني لا يشكل بالضرورة حاجزاً أمام التنمية والرخاء وأن السر يكمن في حسن إدارة الموارد البشرية الكامنة في المجتمع، كما اطلعوا على تجربة ماليزيا في التحرر الاقتصادي وفطنوا إلى أن التحول لاقتصاد السوق لا يتحتم أن يتم فقط وفق تعليمات صندوق النقد والبنك الدوليين، كما لاحظوا كيف أن أكبر ديمقراطيات العالم، وهي الهند، تعاني مثلما تعاني مصر من غياب للاستقرار في إقليمها ومن معدلات مرتفعة من الفقر والأمية ولكنها تمكنت رغم هذه العراقيل من أن تحتفظ بطابعها الديمقراطي وأن تحقق في نفس الوقت معدلات مشرفة من التنمية. ومن هنا عقد المصريون المقارنة بين واقعهم وما حققته أمم أخرى وبدء الإعلام الرسمي يفقد مصداقيته وبدأ المصريون يتشككون في المبررات الواهية التي يسوقها النظام لبقائه عبر إعلامه. ومثلما سقط احتكار الدولة لما يرد من الخارج من معلومات وأخبار، انهارت سيطرة الدولة على نقل ما يحدث داخل الوطن من أحداث، فانتشرت الصحف المستقلة والقنوات الفضائية ببرامجها الحوارية التي طرح العديد منها رؤية مغايرة لما يقدمه الإعلام الرسمي، كما منحت منبراً للآراء المعارضة والمناهضة للنظام لتعبر منه عن رأيها ولتكشف عن سوء إدارة الدولة لدفة البلاد. فكم من حادثة وكارثة هون منها الإعلام الرسمي وكشفت عنها وسائل إعلامية أخرى.
وكانت نتيجة هذه الثورة المعلوماتية التي شهدها العالم وتأثرت بها مصر هو التراجع الشديد في مفعول أحد الأدوات الرئيسية التي كانت تضمن بقاء النظام واستقراره، ألا وهو احتكار الحقيقة، فلم يعد ما يروجه الإعلام من مبررات وما يقدمه من خطاب اعتذاري نيابة عن الدولة ينطلي على المصريين، وتلاشت مصداقية وسائل الإعلام الرسمية بعدما ظهرت بدائل لها تقدم صورة أوقع لآلام الناس وتعبر عما يعانيه المواطنون في حياتهم اليومية، وهو ما ساهم في إفقاد النظام لشريعته في أعين الشعب وشجعهم على الخروج للمطالبة بإسقاطه.
ويجب علينا في هذا الصدد أن نشير إلى أن الدولة ذاتها التي حاولت احتكار الحقيقة ولم تبذل الجهد المطلوب في مواجهة ظواهر الفساد هي ذاتها التي سعت إلى الإسراع بفتح السموات وبتطوير البيئة المعلوماتية وبتحسين مستوى خدمات شبكة المعلومات. وتلك مفارقة ساعدت في زيادة الفجوة وساهمت في تأجيج مشاعر الغضب.
المبحث الخامس
تراجع دور السياسة الخارجية المصرية
من الأمور اللافتة في الثورة المصرية والشعارات التي رفعتها والمطالب التي تبنتها الغياب النسبي للسياسة الخارجية عن المشهد في ميدان التحرير، خاصة إذا ما قورن ما حدث في مصر بما شهدته دول أخرى مرت بثورات على أنظمتها الحاكمة. ففي إيران مثلاً كان التدخل الأجنبي عامة والأمريكي خاصة في الشأن الإيراني من الأسباب الرئيسية لقيام الثورة. أما في مصر فلم تأتي المطالبات المرتبطة بالسياسة الخارجية في صدارة الشعارات التي رفعها ثوار التحرير وغيرهم في مختلف الميادين المصرية. إلا أن هذا لا ينفي أن بعض المواقف التي تبنتها السياسة الخارجية المصرية خلال الأعوام الأخيرة أزعجت المصريين وأثارت مشاعر الضيق لديهم.
لقد تحدث كثيرون في الشهور والسنوات السابقة لثورة 25 يناير عن "تراجع الدور المصري" في مختلف ميادين العمل الخارجي، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط التي تمثل المجال الحيوي للأمن القومي المصري، بالإضافة إلى ما اعتبره البعض تقزماً للتواجد وللتأثير المصريين على الساحة الأفريقية، وهو ما أثار استياء الكثير من المصريين، وخاصة حين أدركوا تأثير ذلك على مصالحهم الإستراتيجية ولا سيما في ملف منابع النيل. إلا أنه لم يُغضب الشباب المصري أمر في السياسة الخارجية لنظام الرئيس السابق مثلما أغضبهم تعامله مع ملف الصراع العربي الإسرائيلي، والشكل الذي أخذته العلاقة مع إسرائيل وخاصة في شأن تصدير الغاز الطبيعي إليها بأسعار دون السعر العالمي، وموقفه من الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة. ولن نبالغ إذا قلنا أن النظام الحاكم في مصر كان أحد ضحايا الحربين اللتين خاضتهما إسرائيل ضد لبنان في أغسطس 2006 وضد قطاع غزة قي ديسمبر 2008 ويناير 2009، فقد أفقدتا هاتان الحربان النظام الكثير من شرعيته في أعين جموع الشعب المصري الذي تعاطف مع اللبنانيين وتألم لمعاناة الفلسطينيين واعتبر أن الموقف الرسمي لحكومته جاء متخاذلاً أو حتى متواطئاً في نظر البعض.
ولم يتضرر النظام من قضية بعينها مثلما أضرته إدارته لملف معبر رفح البري الذي يربط بين شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة، فلم تكن المبررات التي قدمها النظام لسياسته تجاه المعبر وقراره الإبقاء عليه مغلقاً لفترات طويلة مقنعة، فلم يقبل المصريون المنطق القائل بعدم رغبة مصر تحمل مسئولية القطاع لأن المسئولية القانونية عن القطاع تقع على عاتق إسرائيل بوصفها قوة احتلال، ورفض الشعب المصري ما ساقته الدولة من حجج بشأن عدم شرعية حكومة حماس التي سيطرت على قطاع غزة منذ يونيو 2007، كما لم يتفهم المصريون التبريرات القانونية المعقدة لإغلاق المعبر بسبب وقف العمل ببروتوكول 2005 المنظم لإدارة المعبر على الجانب الفلسطيني بسبب استيلاء حماس على السلطة في القطاع.
وما زاد الأمور تعقيداً للنظام الحاكم في مصر قبل ثورة 25 يناير هو أن سياساته تجاه قطاع غزة تزامنت مع بروز قوى إقليمية أخرى بعضها عربي كقطر والآخر غير عربي كإيران وتركيا سارعت لملئ الفراغ الذي خلفّه تراجع الدور المصري في الآونة الأخيرة. وتبنت هذه الدول خطاباً إعلامياً مناصراً للشعب الفلسطيني واتخذت بعض الإجراءات العملية إما للتصدي للممارسات الإسرائيلية، مثلما تفعل إيران من خلال دعمها لحزب الله اللبناني ولأطراف فلسطينية، أو للتخفيف من معانة الشعب الفلسطيني، كما تجسد في أسطول الحرية الذي أبحر من تركيا لكسر الحصار الإسرائيلي على غزة وقوبل بهجوم إسرائيلي عنيف أوقع عدداً كبيراً من القتلى والجرحى. وما من شك لدينا أن هذه الدول رسمت مواقفها تجاه الصراع العربي الإسرائيلي لا حباً في الفلسطينيين ولا إيماناً بقضيتهم وإنما وفق ما تقتضيه مصالحها السياسية والاقتصادية وتحقيقاً لما تبتغيه من مقاصد إستراتيجية ترتبط إما بتوازنات سياسية داخلية أو بتطلعات لتعظيم نفوذها في الشرق الأوسط أو تتصل بصراعات تديرها مع قوى كبرى. ورغم ذلك، فإن المشهد الذي ظهر أمام الشعب المصري أضحى شديد الغرابة، فبلدهم الذي طالما اعتبروه قائد الأمة العربية والمقاتل من أجل استقلالها وكرامتها والمضحي لأجل فلسطين وحريتها تحول في نظرهم إلى شريك متضامن في حصار إسرائيل لقطاع غزة، في الوقت الذي تهرع دول أخرى لمد يد العون للفلسطينيين وتسعى للذود عنهم والتصدي لممارسات الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما أحرج الدولة المصرية حرجاً شديداً وانتقص من شرعية النظام في أعين المصريين.
بالطبع ليست هذه الأمور الوحيدة التي أشعرت المصريين بضيق حيال سياسة بلدهم الخارجية، فكما قلنا سابقاً، أستاء المصريون مما أحسوا أنه تراجعاً عاماً لنفوذ بلدهم وانكماشاً لتأثيرها في مجالها الحيوي العربي ومحيطها الأفريقي، وما لمسوه من عداء أضمرته لأطراف إقليمية كإيران وفتور خيّم على علاقتها مع دول عربية كسوريا، فضلاً عما اعتبره البعض بأنه تبعية زائدة للولايات المتحدة، إلا أنه يظل أن ملف السياسة الخارجية الأكثر إثارة للغضب والاستهجان في الأوساط الشعبية المصرية تمثل في تعاطي النظام مع الوضع في قطاع غزة وتفاعله مع تطورات الصراع العربي الإسرائيلي عامة.
وكما أسلفنا، لم يكن تغيير السياسة الخارجية للنظام السابق ضمن أبرز المطالب التي رفعها الثوار في ميدان التحرير، إلا أن الاستياء العام من الخطاب والمواقف الخارجية المصرية كانت مصدراً مهماً لعدم الرضا الشعبي عن النظام وعن أداءه وأحد أسباب تراجع شعبيته على مدار الأعوام الأخيرة، بما ساهم – وإن بقدر محدود مقارنة بالمظالم السياسية والاجتماعية الداخلية – في إقناع المصريين بضرورة إسقاط النظام.
المبحث السادس
فتيل الثورة
كل ما سبق سرده من أوجه اعوجاج وعوار شابت النظام الحاكم في مصر وتأثرت بها الأمة المصرية وعانى منها المجتمع بأسره كانت أسباب نعتبرها "هيكلية" لقيام الثورة، أي أنها ترتبط بهيكل الحكم في مصر، وبالنظام السائد في البلاد بمختلف ملامحه وعناصره، بما فيها المعادلة المنظمة للعلاقة بين القوى السياسية المختلفة، وطبيعة النظام الاقتصادي الذي تبنته الدولة، وشبكة العلاقات والمصالح السياسية والاقتصادية التي نشأت وانتشرت برعاية النظام وما ترتب عنها من انتشار للفساد السياسي والإداري والمالي، وهي كلها أمور أدت مجتمعة لتهميش المواطن المصري وإشاعة إحساس بالغبن والغضب تجاه نظام الحكم. إلا أن هذه المظالم مجتمعة، والتي حولت المجتمع إلى برميل من البرود، احتاجت لفتيل ليشعل الثورة ويوقد نارها.
قد تعددت الأسباب الآنية لإشعال الثورة ولانفجار غضب الشعب المصري بين تطورات سياسية، ومآسي إنسانية، وأحداث إقليمية. فعلى الصعيد السياسي، لم يكن يوم 25 يناير هو الظهور الأول للقوى التي قادت الثورة وأشعلتها، ولم يكن الشباب الذين تواصلوا على مواقع التواصل الاجتماعي على الانترنت وأطلقوا الشرارة الأولى للثورة حديثي العهد بالعمل السياسي الميداني، وإنما كانوا ممن انخرطوا في العديد من التيارات والحركات المعارضة للنظام والتي بدأت تنشط في النصف الثاني من العقد الأول من القرن الحالي. ورغم تعدد هذه الحركات والتنظيمات المعارضة وامتدادها لأكثر من قطاع في المجتمع، إلا أننا سنسلط الضوء على اثنين منها وسنتناول نشأتهما وأهدافهما وأسلوب عملهما خلال الأعوام الأخيرة.
أولى هذه الجماعات المناهضة لنظام الحكم هي "الحركة المصرية من أجل التغيير"، والمعروفة بحركة "كفاية" والتي تأسست في يوليو 2004 لمعارضة إعادة انتخاب الرئيس السابق حسني مبارك لولاية خامسة وللتصدي لمشروع توريث الحكم، وهو ما عبرت عنه الحركة بشعارها الشهير: "لا للتمديد ... لا للتوريث". وقد انضوى تحت لواء حركة كفاية عدد كبير من المثقفين والنشطاء والحزبيين من مختلف المشارب السياسية والإيديولوجية، بما فيها اليسارية والناصرية والليبرالية والإسلامية، وتوحدوا حول المطالب التي صاغوها في بيان تأسيسي تضمن الدعوة لإنهاء حالة "الاستبداد الشامل الذي أصاب المجتمع المصري" والذي يتطلب "إنهاء احتكار السلطة، وفتح الباب لتداولها من موقع رئيس الدولة، لتجدد الدماء وينكسر الجمود السياسي والمؤسسي في كافة مواقع الدولة". كما طالب مؤسسو الحركة بإعلاء سيادة القانون واحترام استقلال القضاء ومحاربة الفساد واستعادة مكانة مصر الخارجية .
وقد اعتمدت حركة كفاية على عدة أدوات لتحقيق أهدافها وللفت الانتباه إلى القضية التي تتبناها ولاجتذاب الجماهير إلى صفها. وكانت أهم هذه الأدوات تنظيم المظاهرات والاعتصامات في الشوارع والميادين العامة وأمام منشآت ومبان حكومية مهمة، كمجلسي الشعب والشورى ودار القضاء العالي ونقابة الصحفيين ونقابة المحامين. كما استفادت قيادات الحركة من وسائل الإعلام والقنوات الفضائية لنشر رسالتها والتعريف بالحركة وأهدافها. ولعل أهم ما ميز حركة كفاية أنها تجاوزت قواعد اللعبة السياسية التي كانت قائمة في مصر، فهي لم تكن حزباً سياسياً، ولم تسع للوصول للسلطة كغيرها من اللاعبين السياسيين، بل ظلت حركة مجتمعية تتبنى رسالة واضحة تتمثل في معارضة النظام السابق وتطالب بإدخال إصلاحات جذرية على الحكم في مصر. كما أنه يجب أن نعترف لحركة كفاية بأنه كان لها السبق في إحداث الشرخ الأول في حاجز الخوف الذي انتاب المصريين من النظام وعصاه الأمنية الغليظة، وهو الحاجز الذي انكسر يوم 25 يناير 2011، فكانت كفاية من أوائل التنظيمات المدنية غير المنتمية إلى تيار سياسي بعينه التي ركزت على الشأن الداخلي المصري ودخلت في مواجهة مفتوحة مع النظام في الشارع للمطالبة بالديمقراطية ومكافحة الفساد والعدالة الاجتماعية.
أما المجموعة الثانية التي نود تسليط الضوء عليها فهي حركة "شباب 6 إبريل" التي تأسست في 2008 بعد الدعوة التي أطلقها بعض عمال الغزل والنسيج بالمحلة للإضراب عن العمل، فحوّل القائمون على حركة 6 إبريل هذه الدعوة إلى مطالبة بإضراب عام في جميع أنحاء الجمهورية. وأحدثت الأداة التي استخدمتها الحركة في نشر دعوتها نقلة نوعية في العمل السياسي والاجتماعي في مصر، حيث لجأت الحركة إلى إطلاق صفحة على موقع التواصل الالكتروني "فيسبوك" للترويج لدعوتها والتي تجاوب معها آلاف الشباب من مختلف أنحاء الجمهورية. كما اعتمدت الحركة على المدونات الالكترونية لنشر أفكارها ومطالبها، وهي كلها أدوات أتاحت للحركة أن تنفذ إلى أحد أضخم الكتل البشرية في المجتمع وأكثرها نشاطاً وقدرة على الحركة، ألا وهي شريحة الشباب، وهي من الفئات الأكثر تضرراً من الأوضاع التي كانت قائمة في البلاد ومن أكثرها سخطاً على النظام لفشله في تحقيق الطفرة الاقتصادية التي تحسن من أوضاعهم المعيشية ولتجاهله للنداءات المطالبة بالمزيد من المساحة للمشاركة السياسية.
ومثلما كان الحال بالنسبة لحركة كفاية، لا تنتمي حركة شباب 6 إبريل إلى تيار أو فصيل سياسي معين، وإنما تركت بابها مفتوحاً للشباب من مختلف التوجهات الفكرية، وإن كانت مطالبها التي أعلنت عنها وكتابات بعض قياداتها تنم عن ميلهم لما يمكن وصفه بيسار وسط الخريطة السياسية. وكما فعلت حركة كفاية، كان لحركة 6 إبريل دور كبير في كسر حاجز خوف المصريين من الأجهزة الأمنية، كما تميزت بقدرتها على استيراد وتمصير العديد من تكتيكات المقاومة السلمية من تجارب حركات وتنظيمات أجنبية، فقد نقلت حركة شباب 6 إبريل من تجربة حركة "أوتبور" الصربية في الإطاحة بالرئيس الأسبق سلوبودان ميلوسوفيتش في عام 2000، وقاموا بنقل خبراتهم إلى مصر، خاصة فيما يتعلق بحشد الجماهير وتنظيم المسيرات السلمية والتصدي لقوات الأمن.
وكما قلنا، لما تكن هاتان الحركتان منفردتين في رفع شعار الإصلاح على مدار السنوات الأخيرة، وإنما شهد المسرح السياسي بزوغ العديد من الحركات الاجتماعية الداعية لمراجعة الأوضاع القائمة في المجتمع المصري. وتنوعت هذه الحركات وتعددت خلفياتها وامتدت لعدة مرافق وقطاعات في الدولة. وكان من أبرزها نادي القضاة الذي دخل في مواجهة مع الدولة في النصف الأول من العقد الأول من القرن الحالي، للمطالبة باستقلال القضاء ورفض بعض تعديلات قانون السلطة القضائية وساهم في كشف بعض أحداث التزوير في انتخابات عام 2000 النيابية. كما اشتركت العديد من التشكيلات العُمالية في مظاهرات واعتصامات للمطالبة برفع الحد الأدنى للأجور ولتحسين أوضاع العمال، وذلك خارج الأطر النقابية الرسمية المفترض أنها تمثل وترعى مصالح العمال.
ومن هنا نخلص إلى نتيجة مفادها أن ما يربط كافة هذه الحركات الاحتجاجية التي تعددت أشكالها وأنماطها وتوجهاتها الفكرية والتي كان لها دور محوري في إشعال ثورة 25 يناير هو أنها كلها جاءت من خارج الإطار السياسي الرسمي وأنها تجاوزت ميادين وأدوات العمل السياسي التقليدي. فهي لم تأت – بطبيعة الحال – من رحم الحزب الحاكم، ولم تنشأ برعاية أي من الأحزاب السياسية القائمة، ولم تهيمن عليها أي من القوى السياسية الفاعلة في المجتمع كالإخوان المسلمين مثلاً، ولم تحتوها أي من المؤسسات المجتمعية القائمة بالفعل كالنقابات مثلما حدث في ثورة تونس، وإنما جاءت كافة هذه الحركات من خارج المنظومة السياسية بمختلف عناصرها ومكوناتها، وأثبتت عجز العملية السياسية التي كانت قائمة في مصر برمتها، وهو ما نعتبره نتيجة مباشرة لما شهدته الجمهورية المصرية الأولى القائمة منذ 23 يوليو 1952 من تجريف منهجي للسياسة وتهميش متعمد للقوى المعارضة للنظام وإقصاء مقصود للسياسة من حياة المصريين. ومن اللافت أيضاً أن هذه الحركات لم تتبن خطاباً دينياً أو طائفياً وإنما تحركت على أرضية وطنية خالصة جامعة لكل عناصر المجتمع ومكوناته تحت لواء واحد هو مصلحة البلاد وكرامة العباد.
ورغم الزخم الملموس الذي أحدثه نشاط هذه الحركات الاحتجاجية المختلفة، إلا أن ذلك لم يكن كفيلًا بإشعال الثورة بمفرده، فكان الأمر يحتاج لأحداث أخرى، بعضها محلي وبعضها إقليمي حتى تتولد قوة الدفع اللازمة لإزاحة النظام السابق. وكان أول هذه التطورات هي عودة الدكتور محمد البرادعي الحائز على جائزة نوبل للسلام إلى مصر بعدما أنهى فترة ولايته الثالثة كمدير عام للوكالة الدولية للطاقة الذرية وتبنيه لقضية الإصلاح في مصر ودعوته لإجراء مراجعة شاملة للأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد. وأحدثت عودة الدكتور البرادعي أثر كبير على الساحة السياسية في مصر، فقد حركت المياه الراكدة، وحيّدت ما كان يروج له النظام بعدم وجود بديل للحزب الوطني وأنه لا توجد شخصيات لديها الخبرة والقدرة على قيادة مصر إلا ما يقدمه الحزب، كما وفر الدكتور البرادعي بقيمته العالمية شخصية ورمز يمكن لكافة الطوائف السياسية في مصر أن تلتف حولها وأن تكون جبهة موحدة وصلبة تتصدى للنظام. ولكن يبقى في نظرنا أن الأثر الأهم لعودة الدكتور البرادعي تمثلت في إيقاظ أمل التغيير في قلوب العديد من المصريين، وخاصة أبناء الطبقة الوسطى. فقد جاءتهم شخصية تحظى بتقدير كافة القوى السياسية وتتمتع باحترام دولي مشهود ولديها الرغبة في المشاركة في الحياة السياسية وتتمتع برؤية إصلاحية شاملة تخاطب وتلاقي طموحات وأحلام المصريين.
ثم ساهم النظام بنفسه في توفير المبررات الآنية للثورة من خلال الانتخابات النيابية الأخيرة التي أجريت في أواخر عام 2010، وهي الانتخابات التي جاءت نتائجها فادحة وفاضحة لغياب أي نية للنظام للقيام بأي إصلاحات سياسية تخطو بمصر نحو الديمقراطية. فقد فاز الحزب الوطني الديمقراطي بأغلبية هائلة، وخسرت جماعة الإخوان المسلمين جميع مقاعدها الثمانية والثمانين التي شغلتها منذ عام 2005، ولم تحل محلها أية قوى معارضة. وأدت هذه الانتخابات إلى ترسخ الاقتناع لدى المواطنين المصريين ولدى النخبة السياسية التي طالما قنعت بدورها المعارض، أنه لا أمل للإصلاح في ظل النظام القائم، بل بدا ظاهرًا أن النظام يتأهب لتنفيذ مخطط التوريث في الانتخابات الرئاسية التي كان مخططاً لها في أواخر عام 2011، فقد ضمن النظام برلماناً مستأنساً وأفرغه من أي معارضة حقيقية يمكن أن تألب الرأي العام على النظام ويمكن أن تتصدى لمشروع التوريث.
كما أنطوى أسلوب الحزب الوطني في إدارة هذه الانتخابات على قدر كبير من السذاجة السياسية، فقد خرق الحزب الاتفاق الضمني الحاكم للمعادلة السياسية في البلاد، والتي تحدثنا عنها في بداية هذا الفصل. فقد أقصت الانتخابات جميع القوى والتيارات من المشهد السياسي، وقضت على أي مصلحة لهم في بقاء النظم، وبعثت برسالة مفادها أن النظام لم يعد بحاجة لشركاء على المسرح السياسي – حتى ولو كانوا شركاء صغار ومحدودي الفاعلية. وقد أدى ذلك إلى تبخر ما كان باقياً من شرعية محدودة للنظام في أعين المصريين، وحولت جميع اللاعبين السياسيين إلى أعداء للنظام، ودفعتهم كلهم لمباركة الثورة والانضمام إليها. وإلى حد ما، تُذكرنا تصرفات الحزب الوطني الديمقراطي خلال انتخابات مجلس الشعب الأخيرة بقرارات سبتمبر 1981 الشهيرة للرئيس الراحل السادات، والتي قام بموجبها باعتقال العديد من رموز السياسية من كافة التيارات السياسية والإيديولوجية بل وحتى الدينية، وهو ما كان بمثابة حرق للجسور القائمة آنذاك بين النظام وهذه القوى، وحوّل المجتمع بأسره بعناصره وتكتلاته وأطيافه المختلفة إلى أعداء للرئيس، فلم تمض أيام إلا واغتيل في حادث المنصة. وبنفس المنطق، أحرقت انتخابات 2010 كافة الجسور بين النظام والقوى السياسية الأخرى، وأدى تعالي الحزب وقياداته – التي استهزأت في افتتاح الدورة البرلمانية من السياسيين الذين أنشئوا "البرلمان الموازي" – إلى تحويل القطاع الغالب من المجتمع بكافة قواه وتياراته إلى أعداء للنظام. وبالفعل لم تمض سوى أسابيع وقامت ثورة 25 يناير 2011.
وجاءت القشة التي قسمت ظهر النظام، وهي ثورة تونس. والأثر الرئيسي الذي أحدثته ثورة الشعب التونسي على نظام رئيسهم السابق زين الدين بن علي تمثل في اكتشاف المصريين أن الإطاحة بالنظام ليست بعيدة المنال، وترسخ القناعة لدى العديد ممن قادوا الثورة أنه إذا كان الشعب التونسي الشقيق قد أزاح رئيساً مكث في الحكم لثلاثة وعشرين سنة، فإنه يمكن للمصريين أن يفعلوا الشيء نفسه مع رئيس حكمهم لثلاثين عاماً. وبالتالي لاقت الدعوة التي أطلقت على مواقع التواصل الاجتماعي الالكترونية قبولاً وتجاوباُ هائلاً، كما انضم الآلاف من المصريين بمختلف طوائفهم وخلفياتهم السياسية والاجتماعية إلى المظاهرات المنادية بالتغيير فور خروجها من مناطق وأحياء مختلفة في مدن بطول مصر وعرضها، فقد انكسر حاجز الخوف وانهارت هيبة عصا الأمن الغليظة، وأطلق العنان لحلم المصريين بالخلاص من نظام سلبهم قطاع كبير منهم آدميتهم وكرامتهم حريتهم.
ختام الفصل التمهيدي
إسدال ستار الجمهورية الأولى
لقد كان يوم الحادي عشر من فبراير لعام 2011 موعداً لإسدال الستار على الجمهورية المصرية الأولى التي تأسست يوم 23 يوليو 1952. فقد خرجت جموع الشعب المصري للمطالبة بإسقاط نظام لم يتأسس بتولي الرئيس السابق حسني مبارك الحكم يوم 15 أكتوبر 1981، وإنما نظام تمتد جذوره لما أبعد من ذلك. فلم تكن إستراتيجية تجريف السياسية واستئثار الحاكم بالسلطة من صنيعة مبارك ونظامه، بل كانت أسلوباً أنتهجه من سبقوه في حكم مصر. ولم يكن تركيز السلطات في يد رئيس الجمهورية بأمر استحدثه مبارك، وإنما هي ظاهرة ورثها ممن رأسوا البلد قبله. ولم تكن الممارسات القمعية والحلول الأمنية للمشكلات السياسية والاجتماعية أسلوب تفرد به النظام السابق، وإنما اشترك فيه مع من سبقوه. فكما أوضحنا على مدار هذا الفصل، إذا كانت تكتيكات النظام ولغته وخطابه السياسيين قد تغيرا نسبياً، فإن ذلك لا يعني أن إستراتيجيته في التعامل مع المشهد السياسي الداخلي قد تبدلت.
ومع استمرار تهميش المصريين وإقصائهم من إدارة شئون بلدهم، بدأت شرعية النظام في الاهتزاز. فإذا كان نظام الرئيس الراحل عبد الناصر قد أسس شرعيته على ثورة يوليو وما تبعها من معارك لتصفية الاستعمار ومواجهة العدو الإسرائيلي ومساع صادقة لبناء مجتمع اشتراكي تسود فيه العدالة الاجتماعية، وإذا كان الرئيس الراحل السادات قد أقام شرعيته على أساس تحرير الأرض بالحرب وبالسلام والتحول التدريجي للديمقراطية، فإن نظام مبارك لم تكن لديه أي من هذه الوسائل لترسيخ وتعميق شرعيته السياسية. فبعد أن أنهت إسرائيل انسحابها من سيناء يوم 25 إبريل 1982 لم يعد أمام الدولة المصرية تحد خارجي يطغى على أولياتها الأخرى ولم تعد هناك حجج لتأخير أو تعطيل مسيرة الديمقراطية، وهو ما أخفق النظام في تحقيقه، واكتفى بالديمقراطية الصورية التي أقامها في البلاد، بل وتمادى في استهزائه بالمصريين ومضى في تمهيد الطريق للتوريث، فهيأت الظروف وأعد المناخ وفصلت الدساتير. وقد أدى هذا كله إلى تراجع شرعية النظام وتآكلها تدريجياً وسادت القناعة باستحالة انصلاح أحوال النظام، بما جعل من الثورة السبيل الوحيد لخلق واقع جديد في البلاد.
وبقدر ما أخفق النظام في فتح الباب لتعددية سياسية تسمح بتداول السلطة سلمياً، فشل كذلك في بلوغ الهدف الأساسي الذي أعلن أنه سيسعى لتحقيقه، وهو الرخاء الاقتصادي. ففشلت الدولة في تحدي التنمية الشاملة، وأدى أسلوبها المعيب في التحول إلى الاقتصاد الحر إلى إفراز اعوجاج شديد في هيكل الاقتصاد القومي، وزاد الفقراء فقراً وتهميشاً، وفتح المجال للفساد بتزاوج المال والسلطة، وأقام نظام تعليمي خرج جيلاً من الشباب المصريين غير القادرين على المنافسة بفاعلية في الأسواق العالمية، وفشل في خلق صناعة وطنية تعمل كقاطرة للاقتصاد والمجتمع المصريين وتنقلهما إلى مصاف الدول المتقدمة. وبذلك أخذت شعبية النظام في الانكماش، ومع ازدياد أعداد العاطلين عن العمل ارتفعت معدلات السخط على الأوضاع القائمة في البلاد، وساد الإحباط في أوساط الشباب، وشاعت الرغبة في الهجرة بحثاً الحياة الكريمة، وهو ما وفر بيئة خصبة لتولد غضب الشعب الذي انفجر يوم في ثورة 25 يناير.
وثم جاءت سلسلة من الأحداث والتطورات السياسية المحلية والإقليمية المتلاحقة لتشعل فتيل الثورة وتطلق شرارتها الأولى. فشرخت حركات احتجاجية مجتمعية حاجز الخوف من النظام، وتجاوزت بنشاطها الميداني المنظومة السياسية القائمة برمتها وأظهرت عجزها عن التعبير عن المواطن المصري وآلامه وطموحاته، وأسقطت المعادلة التي نظمت نمط الحركة على المسرح السياسي على مدارة العقود الثلاثة الماضية. وعاد الدكتور البرادعي ليحرك المياه الراكدة وليوفر رمزاً وبديلاً للقيادة القائمة، وليصبح نقطة ارتكاز يمكن أن تتوحد حولها قوى المعارضة السياسية المؤسسية والمجتمعية. وأخيراً جاء الزلزال التونسي الذي أقنع المصريين بإمكانية إزاحة رئيس وإسقاط نظام.
وختاماً، فإننا نرى أن الثورة التي عاشتها مصر وانبهر بها العالم على مدار 18 يوماً كانت في حقيقتها حلاً وفضاً لنزاع على ملكية مقدرات الوطن. فقد استعاد الشعب بنضاله الثوري وبدماء شهدائه الأبرار ملكيته لبلده وانتزع حقه في إدارتها وفي تقرير مصيره بنفسه دون وصاية من أحد. لقد هب الشعب وثار وأسقط النظام ومعه الجمهورية المصرية الأولى وقرر أن يخلق واقعاً جديداً وأن يصنع مستقبله بيده وأن يشيد الجمهورية المصرية الثانية على أسس من الحرية والكرامة والعدل والمساواة.
الفصل الأول
ركائز الجمهورية الثانية
توطئة:
يكتشف المطالع للتاريخ الإنساني أن نتائج الثورات لا تقتصر على إزاحة رئيس أو حاكم عن سدة الحكم، ولا تتوقف عند إسقاط نظام استبد بالعباد وأفسد في البلاد، وإنما تمتد آثارها إلى فتح المجال لصنع مستقبل جديد أكثر إشراقاً وأكثر تعبيراً عن آمال وطموحات الشعب الثائر بشكل لم يكن متاحاً أو ممكناً قبل قيام الثورة. لذا، فإن أهم انجازات ثورة الأمة المصرية التي اندلعت شرارتها يوم 25 يناير 2011 تكمن فيما قدمته للمصريين من فرصة لإطلاق العنان لخيالهم ليحلموا بغد أفضل يشاركون في صناعته وصياغته، وتصان فيها حقوقهم، وينعمون فيه بالعيش الكريم. أي أن الثورة الشعبية منحت المجتمع المصري فرصة لتجاوز الحكمة القائلة بأن "السياسة فن الممكن"، ذلك لأنه أصبح في مقدور المصريين أن يتخيلوا ويحلموا – بل ويصنعوا – ما لم يكن ممكناً أو متصوراً قبل قيام الثورة، وهو إحداث تغييرات جذرية وعميقة في أوجه متعددة من حياتهم، بما يعالج العديد من مظاهر الأوجاع والعلل التي كان يئن منها المجتمع.
ومن هنا، فإنه يتوجب علينا كمصريين أن نسبح في آفاق الخيال لنحلم بمصر التي نتمناها والمجتمع الذي نصبو إليه، وأن نتفكر ونتداول حول شكل وملامح الدولة الجديدة التي نأمل أن تنبني في مصر على أنقاض نظام أهدر كرامة المصريين، وانتقص من حريتهم، وأفقدهم الكثير من عزتهم وكبريائهم. لذا، يأتي هذا الفصل كمحاولة منّا لنطرح رؤية طويلة الأمد لما نطمح أن تكون عليه الجمهورية الثانية في مصر، ولتحديد الركائز والدعائم التي نرى ضرورة وضعها وإقامتها لكي تشيّد هذه الجمهورية الثانية على أسس متينة وراسخة.
ومن هنا، فإنه يتوجب علينا كمصريين أن نسبح في آفاق الخيال لنحلم بمصر التي نتمناها والمجتمع الذي نصبو إليه، وأن نتفكر ونتداول حول شكل وملامح الدولة الجديدة التي نأمل أن تنبني في مصر على أنقاض نظام أهدر كرامة المصريين، وانتقص من حريتهم، وأفقدهم الكثير من عزتهم وكبريائهم. لذا، يأتي هذا الفصل كمحاولة منّا لنطرح رؤية طويلة الأمد لما نطمح أن تكون عليه الجمهورية الثانية في مصر، ولتحديد الركائز والدعائم التي نرى ضرورة وضعها وإقامتها لكي تشيّد هذه الجمهورية الثانية على أسس متينة وراسخة.
ومن جانبنا، نرى أن الاهتمام الذي أولاه المجتمع المصري بهذه الموضوعات والملفات هو أمر طبيعي ومتوقع، بل مطلوب ومفيد، في أعقاب ثورة شعبية أسقطت نظام الحكم وأنهت عمر الجمهورية الأولى في مصر، كما نتفق مع الكثير مما جاءت به هذه الأطروحات والاجتهادات من أفكار ومقترحات ترتبط بخطوات يتوجب اتخاذها لتحقيق أهداف الثورة، إلا أننا نلحظ أنه في خضم هذه النقاشات والحوارات حول الفترة الانتقالية، لم يحظ المستقبل البعيد بنفس القدر من الاهتمام والتفكير من قبل النخب المثقفة، والتيارات السياسية، وجموع الشعب بطبقاته وأطيافه المختلفة. فرغم وجود بعض التصورات العامة التي صاغتها قوى سياسية حول ملامح نظام الحكم المستقبلي، ومبادرات طرحها خبراء متخصصين في مجالات متعددة لمشروعات تنموية واقتصادية واجتماعية يمكن تنفيذها في مصر، واقتراحات قدمت بشأن الإجراءات التي تهدف لمعالجة بعض أوجه الاعتلال التي أصابت الوطن في العقود الفائتة، إلا أننا مازلنا نرصد نقصاً في الحوار المجتمعي في مصر حول النظرة المستقبلية طويلة الأمد لما ينبغي أن تكون عليه الجمهورية الثانية، والأسس والدعائم التي يتعين وضعها وإقامتها لكي تنهض هذه الأمة وتحظى بما تستحقه من حرية ونمو ورخاء.
لذا، فإننا نطمح من خلال صفحات هذا الفصل أن نسهم، ولو بالقدر القليل، في سد هذا النقص وملئ هذه الفجوة في النقاش العام عن طريق تحديد الركائز التي نرى أنها تكوّن في مجموعها أساساً سليماً لبناء جمهورية مصرية ثانية تتجنب المثالب وأوجه العوار التي عانت منها الجمهورية الأولى. وسنقوم كذلك بشرح مضمون كل من هذه الركائز، وسنوضح العلاقة التكاملية التي تربط بينها. كما سنعرج في هذا الفصل على دور الدستور وموقعه في عملية إقامة هذه الجمهورية الجديدة، وسنوضح العلاقة العضوية التي تربط بين هذه الوثيقة الأسمى في البلاد – أي الدستور – والقوانين والتشريعات، فضلاً عن تحديد مجموعة من الأولويات السياسية والخطوات الإصلاحية التي نرى أهمية أن تتخذها السلطة المنتخبة الحاكمة للبلاد في الفترة المقبلة لتحقيق أهداف الثورة ولإطلاق مرحلة جديدة في تاريخ مصر المعاصر ينعم فيها أبناء شعبها بكامل حقوقهم وحرياتهم وكرامتهم.
تقديم : الفترة الانتقالية والمرحلة التأسيسية
قال الشيخ الجليل والعالم الكبير متولي الشعراوي "أن الثائر الحق هو الذي يثور ليهدم الفساد، ثم يهدأ ليبني الأمجاد"، وهي مقولة نراها غائرة في أعماق الحكمة والعلم وتصف بدقة الدرب الذي ينبغي أن تمشي عليه أمة هبت وثارت وأسقطت حكماً فاسداً. فالثورة لن تُكمل رسالتها ولن تُؤتيَ ثمارها إلا إذا انتقل المجتمع الثائر من حالة الثورة والفوران إلى حالة البناء والتشييد. ومن هنا، يمكن تقسيم الثورة إلى مرحلتين بينهما تداخل وترابط، أولهما تهدف لهدم الفساد وتطهير البلاد وتحرير العباد، وتشتمل على عملية إسقاط وتفكيك النظام الفاسد الذي ثار عليه الشعب، بكل ما يقتضيه ذلك من إزالة للأطر القانونية والتشريعية التي قام عليها ذلك النظام، وإبعاد لمن تورطوا في نشر الفساد بمختلف أنواعه وأنماطه، ومحاسبة للذين ارتكبوا مخالفات وجرائم بحق الشعب. أما في المرحلة الثانية، فيهدأ الشعب الثائر وتستكين فورته، ويفرغ المجتمع للصنع والإبداع، ولإيجاد واقع جديد يقوم على أسس ثابتة وراسخة، ولإنشاء المؤسسات التي تستطيع خدمة الشعب ورعايته وفق القواعد والحدود التي توافقت عليها الأمة.
وإذا ما طبقنا هذا التقسيم المبسط على الحالة المصرية، فسنجد أن المرحلة الأولى من الثورة – وهي هدم الفساد – بدأت بخروج ملايين المصريين في مظاهرات حاشدة يوم 25 يناير استمرت إلى أن تخلى رئيس الجمهورية السابق عن منصبه يوم 11 فبراير 2011 وتولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة مسئولية إدارة شئون البلاد، ودخلت مصر منذئذ فيما جرى تسميته بالـ "الفترة الانتقالية" التي امتدت إلى أن أجريت الانتخابات لاختيار رئيس الجمهورية الجديد للبلاد. وشهدت هذه الأشهر عدة خطوات لإسقاط بقايا نظام الحكم وإلقاء القبض على العديد من رموز النظام السابق في مقدمتهم رئيس الجمهورية ونجليه، ورئيس الوزراء الأسبق، ورئيسي مجلسي الشعب والشورى السابقين، وعدد من الوزراء، ومجموعة من قيادات الحزب الوطني الحاكم آنذاك، وبعض رجال الأعمال والسياسيين المقربين من السلطة الحاكمة والذين وجهت إليهم تهم بالفساد وسوء استغلال النفوذ والتربح. كما شهدت هذه الفترة بدء تفكيك الإطار الدستوري والقانوني المنظم للحياة العامة في مصر في العهد السابق، فعُطلَ الدستور، وثم خضع لتعديلات محدودة، واستبدل بإعلان دستوري مكون من 63 مادة، الذي لحقه إعلان دستوري مكمل في شهر يونيو 2012، فضلاً عن إجراء حزمة من الإصلاحات القانونية الرامية لتمكين القوى السياسية من الانخراط في العمل العام بحرية أكبر.
أما المرحلة الثانية من الثورة المصرية، والتي كُتبت هذه السطور ونحن على مشارفها، فهي المرحلة التأسيسية التي يفترض أن تركز الأمة خلالها على وضع أسس ودعائم الجمهورية الثانية التي يتوجب أن تمكِّن المجتمع – بطل أطيافه ومكوناته - من تحقيق أهداف ثورته عن طريق مجموعة من الإجراءات والسياسات الرامية لإصلاح مختلف أوجه الخلل التي عانت منها مصر خلال العقود الأخيرة من تاريخ الجمهورية الأولى. وفي مقدمة هذه الإجراءات إعادة هيكلة المؤسسات الدستورية بشكل يعبر بحق عن إرادة الشعب المصري ويقيم الحياة الديمقراطية السليمة، ومنح المصريين الحق في المشاركة في الحياة السياسية على أساس من الحرية والمساواة وعدم التمييز، والشروع في عملية إصلاحية شاملة تطال مختلف قطاعات الدولة بهدف الارتقاء بالخدمات الحكومية المقدمة للمواطنين وفي مقدمتها التعليم والصحة، وتنفيذ خطة اقتصادية وتنموية مدروسة بعناية ترمي لإحداث نقلة نوعية في مستوى معيشة المواطنين، وتحقق العدالة الاجتماعية، وتتصدى لظاهرة البطالة، وتشجع الصناعة الوطنية، وتدعم البحث العلمي والابتكار لجعل مصر دولة رائدة في مجال العلوم والتكنولوجيا.
وقد أثبت التاريخ أن المراحل التأسيسية التي تتبع الفترات الانتقالية التالية على الثورات الشعبية هي الأكثر أهمية والأشد خطورة، فالهدم والتفكيك أسهل وأيسر من البناء والتركيب، والتوصل إلى توافق مجتمعي حول شكل وطبيعة الجمهورية الثانية هو تحد جسيم يتطلب أن تتحلى القوى السياسية الفاعلة بحس رفيع من الوطنية بما يمكنها من تغليب هدف التوصل لإجماع بين أبناء وأطياف الجماعة الوطنية على مصالحها وآرائها الفردية. ويضاف إلى ذلك تحدي تحقيق نقلة نوعية في مستوى معيشة المواطنين، وإشعار المجتمع بأن الثورة ستأتي برخاء ونمو توزع ثماره بعدل على جميع أبنائه. ويخطئ من يتصور أنه سيكون بمقدور الدولة أو الحكومة أو الحزب الحاكم في مصر التصدي بمفرده لكافة التحديات والمشكلات التي ستواجهه خلال هذه المرحلة التأسيسية من تاريخ الجمهورية المصرية الثانية، فالعبء سيكون ثقيلاً والمسئولية جسيمة. وإنما يتعين أن تتكاتف مجهودات الأمة المصرية بأسرها في جو من التوحد والتجرد، وأن تستعين الدولة ومؤسساتها بالمجتمع المدني ومنظماته لتحقيق أهداف ثورة الشعب المصري، فهناك الكثير من الأمور التي يمكن للمجتمع المدني أن يعاون الدولة في تحقيقها، وتوجد مجالات عديدة ستحتاج المنظمات غير الحكومية لمساعدة الجهات الرسمية لإحداث أثر إيجابي فيها يلمسه ويشعر به المصريون.
ويتضح مما تقدم أن الثورة المصرية ليست مجرد موجة من الاحتجاجات الشعبية، ولا تقتصر نتائجها على إسقاط سلطة حاكمة، وإنما يتعين أن تمتد آثارها لتمس مختلف مناحي الحياة في البلاد، وأن تكون ثمرتها إعادة صياغة الكثير من القواعد المنظمة لحركة المجتمع المصري، وهي أمور لن تتأتى ولن نشعر بها كمصريين بين عشية وضحاها، ولا حتى خلال السنوات الأولى من عمر الجمهورية الثانية. وإنما سيتطلب إصلاح الخلل الجسيم الذي طال العديد من أوجه الحياة في مصر عدة سنوات حتى يشهد المجتمع تغيير ملموس، وهو ما يفرض علينا أن نتحلى بقدر من الصبر والمثابرة حتى نعبر بمصر ومجتمعها إلى بر الأمان، وأن نتيقن أن الثورة لن تكمل رسالتها إلا بتعاون المصريين وتكاتفهم ونبذهم لخلافاتهم الضيقة، وإعلائهم للمصلحة الوطنية وتقديمها على الاختلافات والتباينات الحزبية أو الفكرية أو الطائفية.
ومقصدنا من حديثنا هذا هو التحذير والتنبيه من أمر قد يشكل تهديداً حقيقياً على الثورة المصرية ومسارها وفرص نجاحها، وهو الخطر المتمثل فيما سمته أدبيات الثورات بالـ Frustrated Expectations أو التوقعات والآمال المحبطة، والناتجة عن البطء والتأخر في جني ثمار الثورة. فقد كشف التاريخ أنه عادة ما يعقب الثورات الشعبية التي تنجح في إسقاط نظام للحكم ثورة في توقعات وطموحات ومتطلبات الشعب، فالمواطنون متعطشون للعدالة المفقودة، وراغبون في التمتع بنسمات الحرية المسلوبة، ومتطلعون لتحقيق الرخاء المنشود، وعلى أن يتحقق ذلك كله في آن واحد وفي وقت وجيز. ورغم مشروعية وعدالة هذه المطالبات، فإن الخطر يكمن في أن يتسلل إلى الشعب – وخاصة طبقاته الأكثر تهميشاً اقتصادياً واجتماعياً – شعوراً بالتأخر أو التباطؤ في تلبية هذه الأمور، بما قد يولد ردة فعل عكسية وغاضبة ستكون عواقبها وخيمة، وقد تمهد إما لفوضى عارمة تأتي على الأخضر واليابس أو تودي بمصر إلى فترة جديدة يسود فيها الاستبداد – وصوره كثيرة وأشكاله متعددة – في البلاد.
تقسيم: الركائز الثلاثة للجمهورية الثانية، الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان
نستعرض في هذا الفصل الركائز الثلاثة للجمهورية المصرية الثانية، كما سنعرض ماهية ومضمون ونطاق كل منها، في ثلاثة مباحث، على أن نستتبع ذلك في بمبحثين رابع وخامس يخصصان للحديث عن العلاقة التكاملية التي تربط بين هذه الركائز الثلاثة، وتتمثل، كما يبين من عنوان هذا الفصل في الديمقراطية، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان، ويحاولان إلقاء الضوء على تعريف الدستور في النظم القانونية وبيان مقاصده ودوره في الهرم التشريعي للبلاد.
رغم وجود جذور فلسفية وأصول فكرية عميقة لنظرية إقامة المجتمعات الحديثة على أساس هذا المثلث، أي الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان، إلا أن الإتحاد الأوروبي يعد هو الكيان السياسي الأبرز على المستوى العالمي الذي أخذ صراحة في تاريخنا المعاصر بهذا النموذج لإعادة بناء المجتمعات الخارجة من النزاعات المسلحة أو لبناء الدول الخارجة من حكم استبدادي على أسس تسود وتعلى فيها قيم العدالة والكرامة الإنسانية. ويتجسد ذلك في اتفاقية الإتحاد الأوروبي، والتي تحدد شكل ومهام الإتحاد والمبادئ القائم عليها، حيث تنص الاتفاقية في مادتها السادسة على ما يلي: "يتأسس الإتحاد على مبادئ الحرية، والديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وسيادة القانون، وهي مبادئ مشتركة بين الدول المنضمة للإتحاد".
ولا يقتصر تطبيق هذا النموذج على الدول الأوروبية أو الغربية فحسب، فقد أخذت به دول عديدة ذات خلفيات حضارية مختلفة ومستويات تنموية متباينة. كما أيقنت الكثير من المجتمعات التي عانت لفترات طويلة من الحكم الديكتاتوري أو الشمولي بمختلف أشكاله وأنماطه أن بناء مستقبل أفضل لشعوبها لن يتأتى إلا بتأسيس دولة تقوم على هذه الدائم الثلاثة. ومن أبرز تلك الأمثلة جنوب أفريقيا من قارتنا السمراء، والأرجنتين والبرازيل وشيلي في أمريكا اللاتينية، وإندونيسيا والفلبين في آسيا، وهو ما يثبت أن هذا المثلث المكون من الديمقراطية، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان، ليس قالباً جامداً، وإنما إطاراً عاماً وفضفاضاً يحتوي على مجموعة من المبادئ العامة والعريضة التي يمكن أن تطبقها المجتمعات المختلفة بطرق وأشكال متعددة بما يتناسب مع إرثها الثقافي وواقعها السياسي.
ومن جانبنا، فإننا نعتبر أن هذه الأضلاع الثلاثة لهذا المثلث – الذي سنتناوله تفصيلاً فيما يلي – يشكل أساساً متيناً وأرضية صلبة لبناء جمهورية مصرية ثانية يتمكن المجتمع المصري في ظلها من معالجة أوجه الاعوجاج والاعتلال التي عانت منها الأمة على مدار العقود الأخيرة من تاريخها، ويتيح للشعب المصري أن يمارس الديمقراطية السلمية، وأن يحتمي بسيادة القانون ويطمئن لإعلاء كلمة العدالة، وأن يتحقق من احترام حقوق البشر وصون حرياتهم الأساسية.
أولاً: تعريف الديمقراطية:
اختلفت التعريفات الفقهية والفلسفية للديمقراطية باختلاف المرجعيات الإيديولوجية والمشارب الفكرية، كما تباينت الآراء حول العناصر اللازمة والضرورية لبناء نظام حكم ديمقراطي بقدر تباين الأصول الثقافية والدينية والحضارية للبشر، بل وتعددت آراء المفكرين والسياسيين المنتمين لذات الأمة حول تعريف الديمقراطية والآليات الكفيلة بإشراك الشعب في إدارة شئون المجتمع. بيد أن هذا التعدد والتنوع في الآراء والأفكار لا ينفي وجود توافق عام بين الفلاسفة والمفكرين حول ماهية الديمقراطية وأهم ملامحها، فالديمقراطية في مكنونها وأساسها ما هي إلا نظرية حول العلاقة بين الحاكم والمحكوم وكيفية منح الشرعية للأول ليدير شئون الثاني، ونموذج لآليات استعمال السلطة، ونقلها، وتداولها، ومحاسبة من يمارس مسئولياتها. ومن هنا، يمكن أن نحدد أهم عناصر الديمقراطية والتي تميزها عن غيرها من نظم الحكم، كالشمولية والشيوعية والديكتاتورية والثيوقراطية. وفي مقدمة هذه العناصر هي المشاركة الشعبية في إدارة شئون البلاد، ففي النظم الشمولية والديكتاتورية – ككوريا الشمالية مثلاً – يُغيب الشعب والمجتمع عن العملية السياسية، وتُسير شئون البلاد وفق الرؤية التي تضعها السلطة الحاكمة منفردة، وتُحدد أولويات العمل العام والأهداف التي ينبغي للدولة أن تسعى لتحقيقها دون مشاركة تذكر من الشعب. وفي المقابل، يكون للشعب في النظم الديمقراطية – كما هو الحال في بريطانيا أو الولايات المتحدة أو الهند – دور وأثر كبيرين في تحديد الدرب الذي ستسير عليه البلاد، حيث يشارك الشعب في رسم السياسة العامة، ويؤثر على قرارات السلطة الحاكمة، ويحاسبها إذا أخفقت في تلبية متطلباته.
أما العنصر الثاني الذي يميز النظم الديمقراطية عن غيرها فيتمثل في مصدر شرعية الحكم. ففي الدول الديمقراطية يكون الشعب هو مصدر هذه الشرعية، بحيث يتولى من هم في الحكم مسئولية إدارة شئون البلاد بناء على تفويض منحتهم إياه الأمة، وهو ما يضفي المشروعية على قراراتهم بوصفها معبرة عن إرادة الشعب. وتجسد هذا العنصر في العديد من الوثائق الدستورية الحديثة بقولها أن السيادة للشعب وأنه مصدر السلطات. ونقيض ذلك وهو أن تأتي شرعية من هم في الحكم من مصدر غير الموافقة والمباركة الشعبية، ومثال ذلك ما يعرف بالنظم الثيوقراطية، أي نظم الحكم الدينية، والتي تتأسس شرعية الحاكم فيها إما لأنها معبرة عن إرادة إلهية أو على أساس الادعاء بتطبيق الإرادة الإلهية، وتمارس السلطة صلاحياتها انطلاقاً من كونها ممثلة لإرادة مقدسة.
وبناء على ما تقدم، يمكننا أن نخلص إلى أن النظم الديمقراطية تقوم على اختيار الشعب لحاكمه، ومنحه تفويضاً بإدارة شئون المجتمع، وموافقة الأمة على الخطة والرؤية التي يطرحها من هم في السلطة لتنفيذها، ومنحهم الشرعية للقيام بالإجراءات اللازمة لتنفيذ هذه الرؤية، على أن يقترن ذلك بحق الشعب في محاسبة الحكام، وتغييرهم إذا لم يرض عنهم وعن أدائهم. ورغم إجماع المفكرين على هذه الملامح العامة للديمقراطية، إلا أنهم يتبنون آراء مختلفة حول الآليات والأدوات اللازمة لإقامة نظام الحكم الديمقراطي، والمؤسسات التي ينبغي إقامتها لتمكين الشعب من ممارسة دوره في الحياة الديمقراطية. فيركز البعض على الجانب الإجرائي للديمقراطية، ويعتبرون نظام الحكم ديمقراطياً إذا وجدت الآليات لاختيار الشعب لحكامه ولمحاسبتهم ولتغييرهم، وأهمها الانتخابات الدورية الحرة النزيهة. وفي المقابل، يشدد آخرون على أهمية الجانب الموضوعي للديمقراطية، ويشترطون لوصف دولة بأنها ديمقراطية أن تحترم فيها الحقوق الأساسية للبشر، وتصان فيها الحريات العامة، ويسود فيها القانون والعدالة والمساواة. أما طائفة ثالثة من المفكرين، فيهتمون بالجانب الاقتصادي من الديمقراطية، ويرون أن المجتمع الديمقراطي الحق هو الذي تسود فيه العدالة الاجتماعية، وأن المساواة في الانخراط في العمل العام والنشاط السياسي ستكون مفرغة من مضمون إن لم تقترن بالتمكين الاقتصادي للشعب وتوزيع الثروات بعدل بين أبناء الأمة الواحدة.
ومن جانبنا، فإننا نتفق مع الرؤى سابقة الذكر، وإن كنا نرى أنه ينبغي دمجها لتكوين نظرة أكثر شمولية للديمقراطية تعبر بدقة عن جميع جوانبها وعناصرها. فالأوجه الإجرائية والموضوعية والاقتصادية للديمقراطية يربط بينها علاقة عضوية وتكاملية، بحيث يكمل كل منها الآخر ويعضده، ويفقد كل منها فاعليته ويتبدد أثره إذا غاب الآخر. فالنظم الديمقراطية تشتمل على جوانب إجرائية تهدف لتمكين الشعب من المشاركة بفاعلية في العمل السياسي، وتقيم القنوات التي يمكن للمجتمع أن يعبر من خلالها عن آرائه وتطلعاته، وتؤسس الأدوات لقيام المواطنين بمحاسبة الحكام إن أخطأوا ومكافأتهم إن أحسنوا. ولكن، وجود هذه الجوانب الإجرائية لا يضمن بحال من الأحوال، إقامة الحياة الديمقراطية السليمة، فكم من دولة تقام فيها انتخابات دورية وتتصارع فيها تيارات سياسية وتوجد فيها مؤسسات دستورية، إلا أنها تفتقد للديمقراطية الحقيقية، ومثال ذلك الجمهورية الإسلامية في إيران. فرغم إجراء انتخابات دورية تتسم عادة بالشفافية والمصداقية، وتفرز سلطة تشريعية تحتوي على تيارات سياسية متعددة، إلا أنه لا يمكن اعتبار النموذج الإيراني ديمقراطياً لافتقاره للعديد من الضمانات والعناصر الموضوعية اللازمة لإقامة النظام الديمقراطي المتكامل، وقي مقدمتها احترام وصون الحقوق والحريات الأساسية، ففي نهاية المطاف تم بناء النظام السياسي الإيراني بشكل يجعل جميع أطراف اللعبة السياسية ممن يؤمنون بنظام ولاية الفقيه ويحتم إفراز قيادة سياسية تباركها وترضى عنها القيادة الدينية التي تعتبر هي الحاكم الفعلي للبلاد وسلطتها الأعلى. وفي المقابل، لن تكتمل الحياة الديمقراطية إذا اقتصرت في مضمونها على الجوانب السياسية، فيتعين أن تمتد إلى المجال الاقتصادي والاجتماعي حتى تتمكن جميع طوائف الشعب وطبقاته من المشاركة بفاعلية في العمل العام. فبدون هذه الضمانات ستتحول الديمقراطية ومؤسساتها إلى أداة في يد الأغنياء لقهر الفقراء ووسيلة يستخدمها الأقوياء والنخب للانفراد بالسلطة والحكم وتوظيفهما للإبقاء على امتيازاتهم وموقعهم في المجتمع.
إذن، فالخلاصة أنه للديمقراطية أساس لا خلاف عليه يتمثل في مشاركة الأمة في تسيير شئونها، وكون الشعب هو من يمنح الشرعية للسلطة الحاكمة لممارسة مهامها. أما ما يتعدى ذلك من عناصر وملامح للحكم الديمقراطي فتختلف من أمة لأخرى ومن بلد لآخر، إلا أنه يتعين أن تتوافر هذه المكونات الإجرائية والموضوعية والاقتصادية للديمقراطية جنباً إلى جنب حتى تستقيم الحياة وتتحقق مقاصد الحكم الديمقراطي.
ثانياً: حول الجانب الموضوعي للديمقراطية:
(أ) لماذا البداية بالجانب الموضوعي؟:
فضّلنا أن نبدأ بالحديث عن الجانب الموضوعي للديمقراطية لعدة أسباب، أولها أن التركيز المفرط والمبالغ فيه على إجراءات العملية السياسية في النظم الديمقراطية قد يؤدي إلى إفراغ الديمقراطية من مضمونها. فالهدف من الديمقراطية ليس مجرد إجراء انتخابات دورية، ولا الفصل بين السلطات، ولا محاسبة السلطة الحاكمة. فرغم أهمية كل هذه الممارسات السياسية، والتي سنعرج عليها ونتحدث عنها لاحقاً، إلا أن المقصد الحقيقي من الديمقراطية يظل منح الشعوب حق تقرير مصريها بنفسها، وتمكينها من إدارة شئونها بحرية. وثانياً، فإن الاهتمام الزائد بالأوجه الإجرائية للديمقراطية يعد بمثابة تقديماً وتفضيلاً للوسيلة على الغاية، فالأحرى بنا أن نتعرف على غايات الديمقراطية ومقاصدها قبل الحديث عن وسائلها وأدواتها. أما ثالثا، وهو الأهم، تعتبر المبادئ والقيم التي تشكل الجانب الموضوعي للديمقراطية أداة لتقييم المؤسسات والسياسات الضرورية لإقامة الأنظمة الديمقراطية، وتحديد ما إذا كانت تعمل بكفاءة وفاعلية، والتعرف على أوجه القصور التي قد تشوب عملها. أي أنه يتعين علينا أن نستخدم هذه القيم والمبادئ والمقاصد كمعيار نقيس عليه مدى اتساق المؤسسات والسياسات القائمة في المجتمع مع القيم والمثل الديمقراطية.
(ب) الديمقراطية بورصة للأفكار:
يمثل تحديد دور المواطن في المجتمع نقطة الانطلاق في تعريف الجانب الموضوعي للديمقراطية. ففي الأنظمة الديمقراطية يتعدى دور المواطن حدود كونه شخصاً يتمتع بمجموعة من الحقوق والحريات ومكلف بحزمة من الواجبات والمسئوليات، ويتحول إلى مشارك أصيل في عملية جماعية لإدارة شئون المجتمع ولتحديد وجهته وتسيير حياته. ومن هنا، تتكشف لنا اثنين من أهم القيم التي تكوّن الجانب الموضوعي للديمقراطية، وأولهما أنه للشعب حق أصيل لا يمكن المساس به في المشاركة في عملية إدارة البلاد، والتأثير بشكل ملموس في الحياة العامة والعملية السياسية. أما ثاني هذه القيم، فهو أن جميع أبناء الشعب يتمتعون بحق المساهمة في إدارة شئون المجتمع على قدم المساواة ودون تمييز لأي سبب كان، ذلك لأنه ستنتفي صفة الديمقراطية عن أي نظام للحكم تدعي فيه طائفة بعينها احتكار الحقيقة والحكمة.
ومن هنا، تتحول المجتمعات الديمقراطية إلى ما يمكن وصفه بأنها "بورصة للأفكار" يتاح فيها للجميع – على أسس من المساواة وعدم التمييز – طرح رؤيته وتصوره للطريقة المثلى لتسيير المجتمع وتلبية متطلبات الشعب وتحقيق آماله، على أن يترك للأمة في نهاية المطاف حق تفضيل التصور والنموذج الذي تراه الأكثر مناسبة وملاءمة لها. وكما هو الحال في كل البورصات التي ترتفع فيها أسعار الأسهم ثم تعود وتنخفض، يحق للشعب في لحظة معينة أن يضع ثقته في رؤية ما، وأن يفوض أصحابها في إدارة شئون البلاد، على أن يعود الشعب إذا أحس بعدم الرضا تجاه أداء من هم في السلطة ويسحب ثقته منهم، وينهي التفويض الممنوح لهم لتولي مسئوليات الحكم.
(1) الحقوق والحريات اللازمة للديمقراطية:
يشترط أن تتوافر مجموعة من الحقوق والحريات الأساسية لكي يضمن الشعب حسن إدارة وسير العملية الديمقراطية التي شبهناها ببورصة للأفكار، وهو ما يكشف عن العلاقة التكاملية التي تربط بين الديمقراطية كنظام للحكم وحقوق الإنسان كموجوعة من القيم والمبادئ التي تنظم العلاقة بين المواطنين والسلطة والحاكمة وبين المواطنين وبعضهما البعض. كما توفر حقوق الإنسان إطار من المبادئ الحاكمة للعملية الديمقراطية لضمان عدم انحرافها عن مسارها، وللتصدي لمحاولة أي طرف سياسي الافتئات على حق الشعب في تغيير حاكمه ومحاسبته. وفي مقدمة هذه الحقوق والحريات حقيّ الرأي والتعبير اللذان يشكلان حجر الزاوية في أي مجتمع ديمقراطي، وحق المواطنين في إنشاء تكتلات وجمعيات للدفاع عن مصالحهم وللضغط على السلطة الحاكمة لتلبية مطالبهم، وحق تكوين الأحزاب السياسية التي تتيح للمواطنين الانخراط في العمل السياسي، وحق التجمع والاجتماع لتمكين الأشخاص من التداول والتناقش في الشأن العام. وبجانب هذه الحقوق السياسية، يأتي حق مدني لا غنى عنه وسبق وأشرنا إليه، وهو حظر التمييز بين أبناء الأمة الواحدة، ومعاملتهم جميعهم على قدم المساواة.
ثم تأتي طائفة أخرى من الحقوق اللصيقة بآدمية البشر، والتي لا يمكن أن يقوم مجتمع ديمقراطي بدونها، وهي الحقوق المرتبطة بأرزاق المواطنين ومستويات معيشتهم. فرغم تركيز أغلب المفكرين على الحقوق السياسية والمدنية كمقومات للديمقراطية، إلا أنه لا يمكن أن يشارك المواطنين بحرية وفاعلية في تسيير شئون مجتمعهم دون أن يتمتعوا بمستوى ملائم من المعيشة يوفر لهم الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية. ذلك لأن منح المواطنين حق المشاركة في الحياة السياسية سيظل حبراً على ورق ومفرغاً من مضمون إذا لم يقترن بتمكين هؤلاء المواطنين اقتصادياً، وستظل حرية البشر منقوصة ومجتزأة إذا لم يملكوا قوت يومهم. كما أن المشاركة في الحياة السياسية تتطلب المزيد من الموارد المالية، وإقامة أحزاب تعبر بصدق عن آمال الجماهير يستلزم أن تكون هذه الأحزاب محررة من سطوة وهيمنة رأس المال، الأمر الذي يتطلب أن ترتكن إلى مصادر للتمويل من الشعب مباشرة. والأهم من هذا وذاك، فإن إقامة نظام ديمقراطي دون عدالة اجتماعية ترتقي بحياة المواطن العادي سيفتح المجال لاستبداد رأس المال ونخب المستحوذة عليه، واحتكارهم للحكم، وانفرادهم بمقدرات الأمة، على حساب جموع الشعب غير القادرة على التأثير في المسار السياسي في البلاد.
وحتى لا يساء فهم مقصدنا، فنحن لا نروج هنا لنموذج اقتصادي اشتراكي، ولا ندعو لإقصاء رأس المال عن المشهد السياسي، فهذا أمر تؤكد الممارسة السياسية في جميع دول العالم الديمقراطية أنه أمر مستحيل. وإنما ما ننوه إليه هو أهمية أن ندرك ونحن مقبلين على إقامة الجمهورية المصرية الثانية أن العدالة الاجتماعية جزء أصيل من الديمقراطية، وأن الحرية السياسية لن تكتمل دون تمكين اقتصادي. أما بالنسبة للسياسات الاقتصادية والتنموية المحددة التي ينبغي تبنيها، فهذا أمر يقرره الاقتصاديون، بشرط أن تعالج البرامج والسياسات المتبعة الخلل الجسيم في مجال التمكين الاقتصادي الذي عانى منه المجتمع المصري في السنوات الأخيرة.
(2) ثقافة الديمقراطية:
بجانب صون الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين وتمكينهم من الناحية الاقتصادية، سيظل البناء الديمقراطي ضعيف ومزعزع البنيان إذا لم تكن له دعائم ثقافية راسخة ومتأصلة في وجدان المجتمع. فالديمقراطية ليست مجرد نظام للحكم، وإنما هي ثقافة ونمط حياة. وهو ما يستلزم أن يتحلى الشعب بمجموعة من الشيم والصفات التي تمكنه من الانخراط في الحياة الديمقراطية بفاعلية وكفاءة. ففي نهاية المطاف، يظل الشعب – لا الدساتير ولا القوانين ولا الحكومات – هو وقود الديمقراطية والضامن الحقيقي لبقائها واستمرارها.
ومن هنا، يتحتم علينا كأمة مصرية أن نعي أن تحقيق أهداف ثورة 25 يناير يتطلب أكثر بكثير من إسقاط دستور 1971 وكتابة دستور جديد، كما يحتاج لما يتجاوز مراجعة الأطر القانونية المنظمة لأوجه الحياة المختلفة في البلاد، ويستوجب التفكير فيما هو أبعد من إطلاق حرية إنشاء الأحزاب وإجراء انتخابات حرة ونزيهة فتح الباب للمشاركة في الحياة السياسية. فرغم أهمية ومحورية مثل هذه الإجراءات، سيبقى الشعب وحده هو الحارس الأمين للديمقراطية والحصن المنيع للحرية، بما يؤكد أن نجاح الجمهورية الثانية في تحقيق مقاصدها سيظل مرهوناً بقيامنا كأمة مصرية باكتساب وتنمية تلك الصفات والسمات التي تكمنّا من الحفاظ على ديمقراطيتنا وحريتنا.
في مقدمة هذه الطبائع التي تتسم بها الأمم التي تجذرت وترسخت فيها الديمقراطية هي الرغبة في المشاركة في الحياة العامة، والإقدام على الخدمة المجتمعية. فلا يتصور أبداً قيام نظام ديمقراطي سليم في بلد يتسم شعبه بالسلبية وعدم الاكتراث، ويتخاذل عن المشاركة برأيه في المشكلات التي تواجه المجتمع، ويبخل بجهده أو ماله عن المساهمة في إزالة العراقيل التي تعوق تحقيق آمال شعب بلده. وبطبيعة الحال، فاجأت ثورة 25 يناير كل المراقبين، وأذهلت العالم عندما كشفت عن وجه آخر للشعب المصري الذي كان يتصور الجميع أنه خامل ومستكين، ولا يأبه بحال دنياه إلا فيما يرتبط بلقمة عيشه. فثبت أن الأمة المصرية أبت أن تموت، وأنها تستطيع أن تثور وتغضب، وأن لديها القدرة على تغيير واقعها، وأنها أدركت أن الحقوق لا تمن ولا تمنح، وإنما تنتزع انتزاعاً. ويتمثل التحدي الآن في ضرورة إشاعة هذه السمات والطبائع، وتحويلها إلى ثقافة عامة لدى أبناء الشعب المصري، وتربية الأجيال المقبلة من المصريين على نبذ السلبية وإعلاء قيّم المبادرة والإقدام، وتشجيعهم على الاهتمام بالشأن العام، وإبداء الرأي فيما يدور حولهم من تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية بحرية واستقلالية.
واتصالاً بضرورة تنمية روح المبادرة والإقدام لدى المصريين، يتعين علنيا كأمة أن نبتعد عن إحدى الخصال التي تجذرت فينا على مرور العقود التي مرت منذ تأسيس الجمهورية المصرية الأولى، ألا وهي الاعتماد بشكل كبير على الدولة لتوفير كل ما يحتاجه المرء في حياته، إلى حد وصل في بعض الأحيان إلى التواكل على الدولة. وليس هنا هو المكان المناسب للبحث في الأسباب التاريخية والسوسيولوجية التي أدت إلى تفشي هذه الظاهرة، وإنما يكفي أن نقول أن ثورة 23 يوليو 1952، وبعض القرارات التي اتخذت في أعقابها، كان لها دور في تحويل الدولة إلى الركيزة الأساسية في حياة المواطنين، ومحور كافة أنشطة المجتمع، إلى أن ظهر ما سبق وأن وصفناه في الفصل الأول من هذا الكتاب بالدولة الأبوية التي تعد بمثابة راعياً للشعب وتدير العديد من مظاهر حياة المواطنين. ونحن لا ندعو بالطبع لتفكيك الدولة، أو إقصائها من حياتنا. بل على العكس، إننا نرى دوراً أساسياً ومحورياً يتعين أن تضطلع به الدولة ومؤسساتها وأجهزتها في الفترة المقبلة لتأسيس الجمهورية الثانية لاستعادة الأمن والاستقرار، للنهوض بالمجتمع، وللارتقاء بمستويات المعيشة، ولضمان توافر الاحتياجات الأساسية للمواطنين. ولكن ما نراه ضرورياً هو أن يعي المصريون أن اللجوء إلى الدولة ليس الجواب على كل مشاكلهم، وإن حل ما يواجههم من صعاب لن يتأتي بالضرورة عن طريق الدولة وحدها، وإنما يتعين أن تقوم شراكة بين المجتمع بطاقته التي لا تنضب والدولة بإمكانياتها ورؤيتها بعيدة المدى للنهوض بالأمة المصرية.
من الشيم الأخرى التي ينبغي تنميتها ورعايتها لتمكين الشعب المصري من ممارسة وحراسة الديمقراطية هي ما يعرف بـ "التفكير النقدي" (Critical Thinking)، والذي يقصد به عدم أخذ الأمور على علاتها، وعدم قبول كل ما يقال دون تقص أو تمحيص، والتفكير بعين متسائلة وعقل انتقادي فيما يطرح على الساحة العامة من أفكار حول مشاكل الوطن وكيفية التصدي لها. ولا نتصور أن أحداً سيختلف معنا إذا قلنا أن من أكثر ما افتقده النظام التعليمي في مصر على مدار العقود الأخيرة هو تنمية مهارة المواطن المصري على مساءلة ما يقدم له من معلومات، والتفكير الإبداعي المبني على البحث عن نواقص ما هو قائم ومحاولة معالجتها. وأهمية هذه السمات والمهارات أنها تمكن الشخص من تكوين رأي حر ومستقل لنفسه على أساس من العلم والتفكير، وتحصّنه ضد الانسياق وراء ما يقال له وما تمليه عليه حكومة ممسكة بتلابيب السلطة أو جهة تدعي التحدث باسم الدين والرب عز وجل أو أطراف غير حكومية تزعم الاستقلالية والنزاهة. وستسهم تنمية المهارات النقدية للمواطن المصري في تحقيق أهداف ثورة 25 يناير، والتي نتصور أنها لم تسع لتحرير الأبدان والأجساد فحسب، وإنما رمت بالأساس لتحرير العقول.
إضافة لما تقدم من قيم ومبادئ ينبغي علينا كمصريين أن نهتم بتنميتها في أنفسنا وفي الأجيال القادمة من أبناء هذا الشعب، يتعين علينا أن ندرك أمر آخر لن تستقيم الحياة في مصر بدونه ولن تتأسس الديمقراطية السليمة في غيبته، ألا وهو احترام التعددية والاختلاف بل والاحتفاء بهما. فالديمقراطية تقوم، كما أسفلنا، على بورصة للأفكار تتنافس فيها الرؤى والأطروحات لجذب الشعب إليها وإقناعه بأنها الأفضل والأنجع، وهو ما يستلزم بالضرورة أن يكون المجتمع مرحباً – بل ومشجعاً – للتعددية الفكرية والاختلاف في المناهج بين التيارات والطوائف المختلفة الموجودة في البلاد. وهو ما يعكس، كما قلنا سابقاً، أن الديمقراطية تفترض أنه لا حكر لأحد على الحقيقة والحكمة، وأن الكل في المجتمع متساوون في الحقوق والواجبات، وأنه لا يجوز الحجر على الأفكار أو الآراء.
والخلاصة، إذن، هي أننا بحاجة في مصر إلى أن تترك ثورة 25 يناير أثرها وبصمتها على الشخصية المصرية، وليس فقط على نظام الحكم والمسرح السياسي. فالمطلوب أن ندرك أن الديمقراطية التي قامت من أجلها الثورة وراح في سبيلها المئات من الشهداء لن تتحقق دون مراجعة بعض سمات وعادات المصريين، وتنمية مجموعة من الشيم والطبائع التي لا غنى عنها في المجتمعات الديمقراطية. وهذه السمات التي تحدثنا عنها واستعرضنا أهماها ليست غائبة بالكامل عن الشعب المصري، وإنما هي موجودة ومحسوسة، فلم لم يكن لثورة 25 يناير أن تقوم دون روح المبادرة والإقدام والتجرد التي تحلى بها المتظاهرين خلال الأيام الثمانية عشرة التي انتهت بإسقاط النظام ورحيل الرئيس، ولم يكن للثورة أن تنجح دون روح الوحدة التي جمعت بين أطياف الشعب المختلفة، وهي الروح التي سماها البعض بـ "روح الميدان"، نسبة لميدان التحرير. ومن هنا، فإن أحد التحديات الماثلة أمام المجتمع المصري في السنوات المقبلة، هو إعادة إحياء "روح الميدان"، وتحويلها إلى روح للأمة بأسرها، وإشاعة مبادئها وقيمها في جميع ربوع البلاد، وجعلها بمثابة القيم الحاكمة والهادية للمجتمع وللديمقراطية التي نسعى لبنائها في الجمهورية المصرية الثانية.
ثالثاً: حول الجانب الإجرائي للديمقراطية:
كما أسلفنا، فإن الديمقراطية في حقيقتها نظام للحكم يمكّن الشعب من تقرير مصيره بنفسه، وذلك عن طريق المشاركة في إدارة شئون البلاد، وإضفاء الشرعية على السلطة الحاكمة لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بتحقيق آمال وطموحات الشعب. وقد أثبتت تجارب الأمم المختلفة أن إشراك الشعب في إدارة شئون البلاد وإخضاع السلطة الحاكمة للرقابة والمحاسبة يتطلب إيجاد مجموعة من القواعد والقوانين والمؤسسات التي تمكّن الشعب من القيام بذلك الدور، وهي الأمور التي تشكل في مجموعها الجانب الإجرائي للديمقراطية.
(أ) السلطات العامة ونظام الحكم:
تعد مؤسسات الدولة هي العنصر الأهم والأكثر مركزية ضمن مكونات الجانب الإجرائي للديمقراطية. ونقصد بمؤسسات الدولة مجموعة من الهيئات العامة القائمة بموجب الدستور، والتي تضمن المشاركة الفعالة للشعب في الحياة السياسية، وتتيح للأمة مراقبة السلطة الحاكمة ومحاسبتها، وتعمل على توفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين. وبالرغم من أنه لا يوجد نموذج محدد أو قالب جامد لما يجب أن تكون عليه المؤسسات الدستورية في النظم الديمقراطية، بما يرفض على كل مجتمع أن يحدد النمط الأكثر ملاءمة لواقعه وظروفه السياسية، إلا أن التجربة التاريخية والتطبيقات العملية في الدول المختلفة كشفت عن أن لا غناً في المجتمعات الديمقراطية عن بناء الدولة على أساس سلطات ثلاثة، هي: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، تقوم كل منها بمجموعة من المهام والوظائف الضرورية لاستمرار الديمقراطية، وصون حرية المواطنين، وتلبية احتياجاتهم، وهو النموذج القائم بالفعل في أغلب دول العالم، بما فيها مصر. إلا أن التحدي الحقيقي، والذي تخفق العديد من المجتمعات في التغلب عليه، يكمن في إقامة علاقة سليمة وصحية بين هذه السلطات الثلاثة، والتأكد من أن دستور البلاد أناط بكل منها القدر الكافي من الصلاحيات الذي يمكنها من أداء مهامها، دون أن يعطي أي منها قوة وسلطة تسمح بالافتئات على السلطتين الأخريين.
وترتبط قضية العلاقة بين السلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية في أي دولة بطبيعة نظام الحكم الذي تتبناه تلك الدولة. وسنتحدث مطولاً عن نماذج أنظمة الحكم المختلفة في الفصل الرابع من هذا الكتب، وذلك في إطار حديثنا عن النظام الأنسب للحالة المصرية، إلا أنه يتعين أن ننوه هنا أن من أخطر ما يمكن أن يهدد الحكم الديمقراطي في أي بلد هو أن يشوب العلاقة بين هذه السلطات الثلاثة عيب أو عوار يؤدي إلى إضعاف أي منها، أو يحد من فاعليتها، أو يمنحها سلطة تفوق ما تحتاجه لتأدية وظيفتها. فالديمقراطية تتطلب أن تقوم العلاقة بين السلطات الثلاثة على أساس الفصل والتوازن بينها، أي أن يفصل الدستور بين مهام ومسئوليات كل منها، ويقيم توازناً بين الصلاحيات الممنوحة لكل منها، بحيث تعمل السلطات الثلاثة كرقيب على عمل وأداء بعضها البعض، وتتأكد من عدم تجاوز أي منها لحدود وظيفتها المنصوص عليها في الدستور.
وفي مصر، عانت الجمهورية الأولى التي تأسست في 23 يوليو 1952 من اعوجاج شديد وقصور عميق في العلاقة بين السلطات الثلاثة في الدولة، وهو موضوع سنتناوله بالتفصيل في الفصل الثالث الذي خصصناه لاستعراض مسيرة تطور الحياة السياسية والدستورية في مصر منذ عام 1805. ولكن يكفي أن ننوه هنا إلى أن الجمهورية الأولى اتسمت بتغليب السلطة التنفيذية، وتقويتها على حساب السلطتين التشريعية والقضائية. فقد منحت الدساتير المصرية الصادرة منذ ثورة يوليو المزيد من الصلاحيات للسلطة التنفيذية، وجعلتها المهيمنة على كافة أوجه الحياة في البلاد. ولم تكتف هذه الدساتير بذلك، وإنما ركزت أغلب السلطات التنفيذية في يد مؤسسة رئاسة الجمهورية، وحولتها إلى حجر الزاوية في الدولة المصرية التي اتسمت بالمركزية الشديدة، وهو ما جعل شخص رئيس الجمهورية بمثابة فرعون متوّج، ومسيطر على جميع مفاصل الدولة وأجهزتها.
ولم يقتصر هذا الخلل على العلاقة بين السلطات الثلاثة فحسب، وإنما امتد إلى داخل السلطة التنفيذية ذاتها، حيث اتسمت العلاقة بين مؤسستيها الرئيسيتين، وهما رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء، باعوجاج شديد. فتمتع رئيس الجمهورية بسلطة مطلقة لتعيين رئيس الوزراء، ونوابه، والوزراء، ونوابهم، دون أن يكون للسلطة التشريعية دور يذكر في مراجعة الرئيس في اختياراته. كما هيمن رئيس الدولة على أداء وعمل السلطة التنفيذية، وأصبح الموجه الفعلي لعملها، واقتصر دور رئيس الحكومة على تنفيذ ما يصدر إليه من تعليمات من الرئيس، أو التركيز على الموضوعات الأقل خطورة والتي يحيلها إليه رئيس الجمهورية.
الأخطر أن هذه الصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية لم تقترن بآليات فعّالة لمحاسبته، وهو ما فتح الباب على مصراعيه لارتكاب مؤسسة الرئاسة لمخالفات جسيمة على مدار السنوات الماضية. فكما تقول الحكمة الشهيرة: "السلطة مفسدة؛ والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة"، فقد كان لغياب الرقيب والحسيب دور مهم في تسهيل المخالفات السياسية والمالية الخطيرة التي اقترفتها رئاسة الجمهورية في العهد الماضي. فقد غابت عن دساتير الجمهورية المصرية الأولى الأدوات المتعارف عليها عالمياً لمحاسبة الرئيس. فلم يكن رئيس الدولة (على الأقل حتى تعديل دستور 1971 في عام 2007) منتخباً بشكل مباشر من الشعب، وإنما كانت الأمة تستفتى على شخص ترشحه السلطة التشريعية، والتي كانت هي الأخرى تحت رحمة السلطة الحاكمة، وهو ما حرم الشعب واقعياً من حق اختيار رئيسه، وأفرغ العملية الانتخابية من مضمونها. كما افتقرت دساتير الجمهورية الأولى لأدوات لمحاسبة الرئيس سياسياَ من قبل السلطة التشريعية، فلم يكن لمجلس الأمة كما سمي في العهد الناصري أو مجلس الشعب بعد ذلك حق مساءلة الرئيس عن أفعاله أو سياساته رغم أنه القابض على دفة الدولة المصرية والموجه لها. لذا، يتوجب علينا ونحن مقبلون على بناء الجمهورية المصرية الثانية أن نتفادى هذه العيوب، والتأكد من وجود آليات وأدوات لمحاسبة رئيس الجمهورية، وفي مقدمتها الانتخابات الحرة والنزيهة والدورية، والرقابة التشريعية على أدائه، وهو ما نتناوله تفصيلاً في الفصل الرابع.
وبالتوازي مع ذلك، أضعفت دساتير الجمهورية الأولى – وخاصة تلك الصادرة في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر – السلطة التشريعية وجعلت منها تابع مطيع للسلطة التنفيذية، وحدت من قدرة البرلمان على مساءلة الحكومة، ومحاسبتها إن أخطأت. فكانت سلطات البرلمان للرقابة على الوزراء محدودة ومقيدة، وكانت إجراءات سحب الثقة من الحكومة معقدة وملتوية، وجاءت آليات مراجعة السياسات في مختلف مجالات عمل الدولة ضعيفة وقاصرة. والأهم من ذلك، وهو ما يجب التنبه إليه ونحن مقبلون على إقامة الجمهورية الثانية في مصر، أن إضعاف البرلمان لما يكن مرجعه العوار الذي شاب دساتير الجمهورية الأولى فحسب، فالدساتير لا تصنع الديمقراطية وحدها، ولا تضمن الحرية بمفردها، وإنما جاء هوان وامتهان السلطة التشريعية بالأساس نتيجة لتجريف الحياة السياسية برمتها في مصر على مدار العقود الستة التي مضت منذ تأسيس الجمهورية الأولى في مصر. فالأحزاب السياسية كانت محظورة طوال الفترة الممتدة بين عامي 1953 إلى 1976، وكان العمل السياسي محظوراً، ولم يكن هناك إلا تنظيم شعبي واحد تهيمن عليه السلطة التنفيذية وينتخب من بين المنضمين إليه أعضاء السلطة التشريعية، وهو ما جعلهم خاضعين فعلياً لأهواء السلطة التنفيذية، وعلى رأسها رئيس الجمهورية. ولم يتغير الوضع كثيراً بعد عودة الحياة السياسية والسماح بتكوين الأحزاب، فرغم النص في الدستور منذ عام 1980 على التعددية الحزبية وعلى الطبيعة الديمقراطية لنظام الحكم، أفرغ الدستور من مضمونه وأبطل مفعوله عن طريق قوانين سنتها السلطة التشريعية المسيطر عليها واقعياً من قبل السلطة الحاكمة. فجاء القانون رقم 40 لسنة 1977 الخاص بالأحزاب، والذي كان يفترض أنه مخصص لينظم عملها ويشرع لحرية العمل السياسي والحزبي، ليتحول إلى أداة لتضييق الخناق على الحركات السياسية في البلاد، وليقيد حريتها في الانخراط في النشاط الحزبي، وليضعف الأحزاب القائمة ويقلم أظافرها، وليضمن أنها لن تتحول إلى منافس حقيقي لحزب الرئيس (حزب مصر العربي الاشتراكي الذي تحول لاحقاً إلى الحزب الوطني الديمقراطي).
وبذلك، أتم النظام الحاكم عملية "اختطاف" للسلطة التشريعية، ومنعها من القيام بدورها المتعارف عليه في المجتمعات الديمقراطية، وهو أن تكون الأداة الرئيسية لمشاركة الشعب في إدارة شئون المجتمع وتسيير أموره. كما تحولت السلطة التشريعية في الجمهورية الأولى من محاسب للحكومة وأجهزتها إلى تابع لها، ومن رقيب على أدائها إلى أداة تستخدم لما يمكن وصفه بأنه "شرعنة" (Legitimization) لتجاوزات النظام، ووسيلة لتفصيل القوانين بما يناسب ويلائم أهواء النخبة الحاكمة ويضمن لها احتكارها للسلطة. أما السلطة القضائية، فلم تسلم هي الأخرى من تدخلات السلطة التنفيذية في شئونها وعملها. فقد كان رئيس الجمهورية – الذي يفترض أنه رئيس السلطة التنفيذية – رئيساً للمجلس الأعلى للهيئات القضائية، وهو أمر يجافي المنطق والعقل. فكيف لرئيس السلطة التنفيذية أن يرأس الجهاز القضائي الأعلى في البلاد، وهو المكلف بمراقبة امتثال الرئيس والسلطة التنفيذية للدستور والقانون؟ ولم يقتصر الأمر على النفوذ الذي مارسته الحكومة على القضاء من خلال رئاسة رئيس الجمهورية للمجلس الأعلى، وإنما جاء قانون السلطة القضائية ليحد من استقلالية القضاء المنصوص عليها في الدستور. فكان لوزير العدل – المنتمي إلى السلطة التنفيذية – صلاحيات إدارية ورقابية على القضاة جعلت من شاغل ذلك المنصب مركز قوة لا يستهان به، وصاحب نفوذ هائل في تسيير مرفق القضاء وإدارة شئون القضاة، وذلك عن طريق صلاحيات مرتبطة بالتفتيش الوظيفي، وإدارة حركة التنقلات، وتوزيع القضاة على المحاكم، وتوزيع الموارد المالية المخصصة للسلطة القضائية، وهي صلاحيات يجب مراجعتها، وتقليلها، ونقل معظمها إلى المجلس الأعلى للقضاء الذي يتولى رئاسته السيد المستشار رئيس محكمة النقض.
بالإضافة لذلك، كانت هناك ممارسات وعادات استقرت وأصبحت طبيعية في العقود الماضية أسهمت في إضعاف السلطة القضائية والحد من فاعليتها كجهة يفترض أنها تراقب وتحاسب السلطة التنفيذية. وفي مقدمة هذه الممارسات، ظاهرة عدم تنفيذ الأحكام القضائية، وتجاهل الدولة وأجهزتها الإدارية لأحكام صدرت ضدها، فضلاً عما عانى منه الكثير من المصريين من بطء في التقاضي وطول إجراءاته، وهو أمر يتعين مراجعته وإصلاحه دون المساس بسلامة وحيدة ونزاهة المحاكمات. كما شاع في السنوات الأخيرة انتقال العديد من ضباط الشرطة للعمل في النيابة العامة ومنها إلى القضاء، وهي ظاهرة نرى أنها أضرت بالقضاء وأضعفت من قدرته في الرقابة على الأجهزة التنفيذية. فأولاً، هناك اختلاف كبير في الثقافة المهنية والوظيفية لضباط الشرطة مقارنة بوكلاء النيابة والقضاة، وهو اختلاف ينبع من الفارق الكبير بين الوظيفتين وما تحتاجه كل منهما من صفات وطبائع في شاغلها. وثانياً، يوجد تمايز شديد في نوعية التعليم الذي يكتسبه ضابط الشرطة في كليته – رغم أنهم يمنحون ليسانس الحقوق بجانب بكلريوس الشرطة – وما يحصل عليه أعضاء الهيئات القضائية من تعليم وتثقيف في كليات الحقوق المدنية. وثلاثاً، ألا يتصور أن تؤثر عوامل كالصداقة والزمالة على عمل أعضاء الهيئات القضائية ممن سبق لهم العمل في الأجهزة الشرطية؟ وبالطبع، نحن لا نشكك في نزاهة ولا حيدة ولا مهنية ضباط الشرطة الذين انتقلوا للعمل بالسلك القضائي، فلهم منّا كل الاحترام والتقدير، ولكننا نتساءل عما إذا كان لهذه الظاهرة جوانب سلبية، وعما إذا كانت تتماشى مع مبدأ استقلال السلطة القضائية، وضرورة صونها من أي تدخل في عملها، وأهمية إعطاء الرأي العام الانطباع بأنها الدرع المنيع الذي يحمي حقوقهم وحرياتهم.
كان ما تقدم وصفاً مختصراً للعوار الشديد الذي انتاب العلاقة بين مؤسسات الدولة المصرية، والاعوجاج الخطير الذي اتسمت به صلات السلطات الثلاثة المكونة للدولة ببعضها البعض، وهو أمر يرتبط مباشرة بطبيعة نظام الحكم في الجمهورية الأولى. فقد منح هذا النظام السلطة التنفيذية عامة، ورئاسة الجمهورية خاصة، صلاحيات هائلة، وجعلها المهيمن والمسيطر على عملية إدارة شئون المجتمع، وهو ما أفرز في نهاية المطاف دولة تسلطية مستبدة. لذا، يعد تحديد طبيعة نظام الحكم الأنسب للجمهورية الثانية من أبرز الموضوعات التي ينبغي أن تتناولها وتتفق عليها النخب السياسية والفكرية في مصر. ومن جانبنا، نرى أن النموذج المعروف بـ "النظام المختلط" الذي يمزج بين خصائص وملامح النظامين البرلماني (كالمطبق في بريطانيا) والرئاسي (كالقائم في الولايات المتحدة) هو الأنسب لمصر في هذه المرحلة الدقيقة والفارقة من تاريخها، والأكثر ملاءمة لظروفها السياسية وواقعا الاجتماعي، وذلك كله لأسباب نناقشها تفصيلاً في الفصل الرابع من هذا المؤلف، ولكن يكفي أن ننوه هنا إلى أن توصيتنا هذه تنبع من اعتبارين:
أولهما أننا نرى أنه – وبخلاف ما يقوله بعض ممن تعرضوا لهذا الموضوع منذ قيام ثورة 25 يناير– لم يكن في مصر نظاماً للحكم يمكن تصنيفه ضمن أي من النماذج المعروفة عالمياً لأنظمة الحكم. فمصر لم يكن بها نظام رئاسي، لأن دساتير الجمهورية الأولى منحت رئيس الجمهورية صلاحيات هائلة دون أن تقرر ضمانات للرقابة على أدائه وعمله، وهي أمور لا غنى عنها في النظم الرئاسية. كما لم تكن مصر بحال من الأحوال دولة نظامها برلماني، فرئيس الوزراء كان بمثابة كبير مساعدي الرئيس، والمنفذ لتعليماته وسياساته، فضلاً عن أنه لم يكن في مقدور السلطة التشريعية – من الناحية العملية – أن تحاسب الحكومة أو تسقطها، وهي عناصر مركزية في النظم البرلمانية. كما أن دستور 1971 افتقد للعديد من المكونات الرئيسية اللازمة لكي يصح وصف نظام الحكم في مصر بأنه تطبيق للنظام المختلط، فغاب التوازن بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء، وغيّب حق السلطة التشريعية في محاسبة الحكومة. أي أن نظام الحكم في مصر كان بدعة مصرية أصيلة شوهت النماذج المتعارف عليها لأنظمة الحكم، وساهم في تغييب الديمقراطية عن البلاد. وبالتالي، تنتفي مقولة بعض الكتاب أننا جربنا وطبقنا النظام رئاسي أو النظام المختلط وثبت فشله في مصر، فنحن لم نطبق أي من هذه الأنظمة ولم نعرفها في مصر على مدار العقود الستة الماضية.
أما الاعتبار الثاني الذي يتعين أخذه في الحسبان عند اختيار نظام الحكم الأنسب لمصر، فيرتبط بطبيعة اللحظة التاريخية التي تمر بها البلاد، ويتصل بحقيقة أن السنوات القليلة المقبلة ستشهد تأسيس الجمهورية الثانية وبدء جني ثمار ثورة 25 يناير، وهو ما يحتم وجود حكومة قوية، تتمتع بشرعية كاملة، وتحظى بتأييد الشعب، وذلك حتى تستطيع التصدي للصعاب الكبيرة والتحديات الجسيمة التي ستواجهها في مسيرة بناء الجمهورية الثانية. ونحن نرى أن الانتقال إلى النظام البرلماني الصرف، كما يحبذ البعض، في هذه اللحظة التاريخية سيكون له مخاطر جمّة ومحاذير عديدة، وقد يفضي إلى ديمقراطية هشة وضعيفة وغير مستقرة، بما يجعلها غير قادرة على إنتاج حكومات عتيدة تتمكن من تلبية احتياجات المواطنين، وهو ما قد يجلب في نهاية المطاف عواقب وخيمة على البلاد. ويكفي أن نذكّر القراء بأن التجربة المصرية في تطبيق النظام البرلماني لم تكن موفقة، بل أفرزت نظاماً سياسياً أعرجاً وضعيف البنيان، وهو ما تجسد في حقيقة أن متوسط عمر الحكومات التي تألفت خلال السنوات التسعة والعشرين التي طبق خلالها النموذج البرلماني لم يتعد 8 أشهر، كما لم يكمل أي من مجالس النواب التي انتخبت خلال هذه الفترة – باستثناء المجلس المنتخب في 1945 – مدتها المقررة دستورياً، وإنما حُلت كلها. وكان لهذه الظروف أثر ودور كبير في التمهيد لقيام ثورة الضباط الأحرار لتخليص البلاد من نظام للحكم ثبت فشله وفساده. وفي الوقت ذاته، يتطلب تحقيق أهداف ثورة 25 يناير معالجة حالة التجريف السياسي الذي عانت منه مصر على مدار العقود الماضية، وفتح المجال للأحزاب السياسية للتشكل ولبلورة برامجها بوضوح، وللتنافس من أجل الوصول إلى السلطة، ويمكنها من التأثير في مسار العملية السياسية. كما أن الثقافة السائدة في أركان الدولة المصرية وبيروقراطيتها العتيدة مبنية على أساس تركز سلطة اتخذا القرارات التنفيذية في يد رئيس الجمهورية، وهي الثقافة التي يتعين التدرج في تغييرها والتمهل في معالجتها حتى نحدث هزة عميقة تؤثر على عمل هذه المؤسسات المتهالك أصلاً وتودي بها إلى الشلل الكامل.
يضاف إلى ذلك أن التحول مباشرة في هذه اللحظة الفارقة من تاريخ مصر الحديث إلى النظام البرلماني الصرف سيصب بالأساس في مصلحة القوى السياسية صاحبة الخبرة الانتخابية الأكبر والأكثر قدرة على جني الأصوات، وهو ما سيفرز نخبة حاكمة لا تعكس واقع المجتمع المصري بتنوعه وتنوره وانفتاحه، وإنما ستعبر بالأساس عن قدرات سياسية وتنظيمية، وقدرة على توظيف خطاب له شعبيته في الشارع المصري دون أن يكون يقترن بمشروع تنموي وتنويري حقيقي، فضلا عن افتقاد لهذه النخبة للخبرة والمعرفة الكافيتين لقيادة دفة البلاد بمفردها، وهو ما تجلى في أداء ومستوى النقاشات التي سادت في مجلسي البرلمان المصري عقب أول انتخابات تشريعية أجريت بعد ثورة يناير 2011 وقبل أن يحل مجلس الشعب بموجب حكم المحكمة الدستورية العليا. من هنا، فإننا نرى أن النظام المختلط سيوفر لمصر مميزات عدة، كفتح الباب للأحزاب والتيارات السياسية للتنافس على الوصول للسلطة، وإتاحة الفرصة لتأليف وزارات تعكس موازين القوى على المسرح السياسي، ومنح البرلمان سلطات كبيرة في مراقبة الحكومة محاسبتها وحتى إسقاطها، دون أن يجعل من البرلمان المهيمن والمسيطر على مقاليد الحكم، وإقامة التوازن المفقود بين مؤسستي رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء. وبالتوازي، سيضمن هذا النظام قدراً من الاستقرار السياسي في البلاد، وسيجنبها مخاطر شل نظام الحكم وانزلاقه في دوامة السقوط المتكرر للحكومات التي تعاني منها العديد من الدول.
(1) الانتخابات واختيار الشعب لحاكمه:
تعد الانتخابات الآلية الأبرز لمشاركة الشعب في إدارة شئون المجتمع، والوسيلة الأهم ليؤثر المواطنين في العملية السياسية في البلاد، فضلاً عن كونها الأداة الأبرز لاختيار السلطة الحاكمة ومنحها الشرعية، والطريقة الأكثر فاعلية لإخضاع الحكومات للرقابة الشعبية. وحتى تؤدي الانتخابات الدور المناط بها، وتصبح وسيلة للتعبير الصادق عن رغبات المواطنين، يتعين أن تتوافر فيها مجموعة من الشروط، في مقدمتها أن تكون حرة، ونزيهة، ودورية، وشفافة. وفي حالة غياب هذه الشروط والضمانات، ستتحول العملية الانتخابية إلى إجراء صوري يزور إرادة المواطنين ويفرغ الديمقراطية من مضمونها، وستفرز سلطة حاكمة منقوصة الشرعية.
وتعد أولى ضمانات حرية الانتخابات أن يكون من حق جميع المواطنين المشاركة في الاقتراع دون قيد أو شرط، وألا تكون الخطوات الإدارية والإجراءات التنظيمية للانتخابات مبالغ فيها بشكل يعيق العملية الانتخابية. وفي الحالة المصرية، تعد "الجداول الانتخابية" والتي كانت تسجل أسماء الناخبين في جميع الدوائر من أخطر الثغرات الإدارية التي استغلتها السلطة الحاكمة قبل ثورة 25 يناير لتزوير الانتخابات. فقد كانت الدولة تتقاعس عن تطهير وتحديث هذه الجداول، وتبقي على أمساء الكثير من المواطنين إما من غير المقيمين في الدوائر أو المتوفيين، بما فتح الباب للتلاعب في نتائج الانتخابات، وظهور ممارسات مثلما عرف بـ "تسويد صناديق الانتخابات"، وملئها بالبطاقات المزورة. ومن هنا، يعد التحول إلى التصويت في الانتخابات ببطاقة الرقم القومي توجهاً محموداً وسيقضي على أحدى أخطر الأدوات التي استخدمت لإفساد الانتخابات في الماضي.
إضافة لما تقدم، يعد الإشراف على الانتخابات من قبل جهة تتسم بالحياد والاحترافية والنزاهة من أبرز الضمانات لإجراء عملية انتخابية حرة ومعبرة عن إرادة الناخبين. وقد تعددت أنماط وأشكل الرقابة على الانتخابات، ففي بعض الدول تقوم الأجهزة الحكومية بتنظيم ومراقبة العملية الانتخابية، وفي دول أخرى وصل عددها إلى 136 تم إنشاء لجان مستقلة للإشراف على الانتخابات بكل مراحلها، بما في ذلك النظر في الشكاوى والطعون الانتخابية. وفي نماذج أخرى كُلف القضاء بالاضطلاع بدور رئيسي في العملية الانتخابية، إما عن طريق إدارة ومراقبة الانتخابات مباشرة، أو من خلال الفصل في الطعون الانتخابية. فنصت دساتير بعض الدول على عرض الطعون الانتخابية على المحكمة العليا أو المحكمة الدستورية، أو محكمة منشأة خصيصاً لهذا الغرض. كما مزجت بعض الدول بين العديد من هذه الضمانات عن طريق إنشاء جهاز مستقل لإدارة العملية الانتخابية ومراقبتها، مع تكليف جهة قضائية بالفصل في الشكاوى والطعون المرتبطة بالانتخابات ونتائجها.
أما في مصر، فقد استحوذت مسألة الإشراف على الانتخابات ومراقبتها على حيز كبير من النقاش العام حول الآليات والخطوات اللازمة للانتقال نحو الديمقراطية الحقيقية. وكما هو معلوم، كانت المادة 88 من دستور 1971 تلزم الدولة بإجراء الانتخابات تحت الإشراف القضائي الكامل، وهو ما فسرته المحكمة الدستورية العليا بأنه يعني من الناحية المعلية "قاض لكل صندوق"، أي إشراف أعضاء الهيئات القضائية على كل مراكز الاقتراع، بما في ذلك اللجان العامة والفرعية. وبالفعل أجريت انتخابات مجلس الشعب لعامي 2000 و2005 تحت الإشراف القضائي الكامل، فكان عدد أعضاء الهيئات القضائية المشتركين في الإشراف على الانتخابات في عام 2005 حوالي 13 ألف عضواً، بينما بلغ عدد اللجان العامة 329 لجنة واللجان الفرعية 54 ألف لجنة، وهو ما استلزم إجراء الانتخابات على ثلاث مراحل. وكانت أبرز نتائج هذه الانتخابات، وخاصة التي أجريت في عام 2005، هو الأداء الهزيل لمرشحي الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم عندئذ، وضعف أداء الأحزاب الأخرى، في مقابل فوز العديد من المستقلين، وحصول جماعة الإخوان المسلمين المحظورة آنذاك على 88 مقعداً في البرلمان. لذا، قام الحزب الحاكم في إطار التعديلات الدستورية التي أجريت في عام 2007 بمراجعة المادة 88 لقصر الإشراف القضائي على اللجان العامة، دون أن يمتد إلى مراكز الاقتراع الفرعية، وهو ما أفرغ مبدأ الإشراف القضائي من مضمونه، وفتح الباب على مصراعيه للمخالفات والتجاوزات فادحة التي شهدتها انتخابات 2010، والتي كانت من الأحداث التي أدت لاندلاع ثورة 25 يناير 2011. ولقد عالج الإعلان الدستوري الصادر يوم 30 مارس 2011 هذا القصور، ونص في المادة 39 على تولي لجنة عليا "ذات تشكيل قضائي كامل" الإشراف على الانتخابات، على أن يجرى الاقتراع في لجان يراقبها ويشرف على عملها أعضاء من الهيئات القضائية.
ورغم أن الإشراف القضائي المباشر والكامل على الانتخابات ليس الإجراء الأكثر انتشاراً أو شيوعاً بين دول العالم، إلا أنه متفهم ومطلوب في الحالة المصرية لوجود ما يمكن أن نعتبره أزمة ثقة بين الشعب والسلطة، وتشكك من جانب الناخبين – في ضوء التجارب الانتخابية المريرة التي شهدتها مصر خلال الأعوام الماضية – في مصداقية السلطة الحاكمة وقدرتها في إدارة الانتخابات بنزاهة، وهو ما جعل القضاء، بما له من احترام وتقدير لدى المصريين، بمثابة الملجأ الأخير والخيار الذي يمكن للمواطنين أن يأمنون لنزاهته وحيدته. ولكن، لا يفوتنا هنا، أن نلفت الانتباه إلى أن الإشراف القضائي على الانتخابات ليس بلا مثالب، ولا هو بالضرورة الخيار المثالي لإدارة الانتخابات. فمن جانب، يؤدي إشراف أعضاء الهيئات القضائية على العملية الانتخابية بالكامل إلى إجهاد القضاة وتحميلهم بأعباء هائلة، وضغط على مرفق القضاء وتعطيل عمله. كما أثبتت التجربة أنه لا مناص عن إطالة الفترة التي ستُجرى خلالها الانتخابات، وتنظميها على مرحلتين أو ثلاث مراحل في المختلفة تضاف إليها مراحل الإعادة، وهو ما يؤثر في مستويات المشاركة وتحمس الناخبين للإدلاء بأصواتهم. ويوجد أيضاً عامل مهم يجب أخذه في الاعتبار، وهو ضرورة التحسب لمخاطر إقحام القضاة في المعترك السياسي، وإنزالهم إلى الشارع في ظل الحملات الانتخابية المستعرة، وتعريضهم للتوترات والمشاحنات التي عادة ما تصاحب الانتخابات النيابية، وهو ما قد يؤدي في بعض الأحيان – رغم إيماننا بنزاهة وشموخ القضاء المصري – إلى توجيه اتهامات لقضاة بعدم الالتزام بالحيدة والحرفية خلال العملية الانتخابية، وهو هاجس عبر عنه بالفعل بعض كبار القضاة في مصر.
(2) النظام الانتخابي:
بجانب هذه الضمانات اللازمة لإدارة عملية انتخابية حرة ونزيهة، يتطلب قيام نظام ديمقراطي سليم تطبيق نظام انتخابي يقوم الناخبون على أساسه باختيار رئيس الجمهورية وممثليهم في البرلمان. ويقصد بـ "النظام الانتخابي" تلك القواعد المنظمة بكيفية الترشح للوظائف العامة (كرئيس الجمهورية أو عضو البرلمان)، وآلية التصويت، والأغلبية اللازمة لإعلان فوز أحد المرشحين بالمنصب محل التنافس. وقد عرف العالم عشرات الأنظمة الانتخابية، واستحدثت دول كثيرة العشرات من القواعد الحاكمة للعملية الانتخابية التي تتلاءم وواقعها السياسي والاجتماعي. ورغم هذه التنوع والتعدد الكبير في الأنظمة الانتخابية المطبقة حول العالم، إلا أنه يمكن تقسيم هذه الأنظمة بشكل مبسط ومختصر على أساس ثلاثة تقسيمات.
أول هذه التقسيمات يفرق بين الانتخاب المباشر والانتخاب غير المباشر. والانتخاب المباشر يقوم على تصويت الناخب لمرشح معين أو مجموعة معينة من المرشحين لملئ المنصب المراد شغله، أي أن المواطن هو الذي يقوم بتحديد الفائز في الانتخابات مباشرة. وهو النظام المطبق، مثلاً، في انتخابات اختيار الرئيس الأمريكي، حيث يقوم المواطنون باختيار مرشحهم المفضل والتصويت له، ويفوز بالانتخابات الشخص صاحب أكبر عدد من الأصوات. أما الانتخاب غير المباشر، فهو عندما يقوم المواطنون بانتخاب من يمثلهم في عملية اختيار من سيشغلون المنصب المطلوب شغله، أي أن المواطن لا يختار مرشح معين، وإنما ينتخب شخص آخر يمارس نيابة عنه حق انتخاب المرشح. ومن أمثلة ذلك النظام آلية اختيار رئيس إيطاليا، حيث يتم اختيار من خلال البرلمان الإيطالي المنتخب من الشعب، أي أن المواطنين الإيطاليين لا يختارون رئيسهم جمهوريتهم (وهو رئيس شرفي) مباشرة، وإنما فوضوا أعضاء البرلمان في هذا الحق.
أما التقسيم الثاني فيميز بين الانتخاب بالقائمة والانتخاب الفردي، وهو تقسيم يرتبط أساساً بانتخابات السلطة التشريعية. ففي الانتخاب بالقائمة يقوم الناخب باختيار قائمة من المرشحين لتمثيل الدائرة التي يتبع لها. وتتكون القائمة إما من أعضاء في حزب سياسي، أو مجموعة من المستقلين غير المنتمين لأي حزب، وقد يكون عدد الأسماء المدرج على القائمة مطابق لعدد المقاعد المراد شغلها في البرلمان والتي تمثل الدائرة التي تجرى فيها الانتخابات. ومن بين الدول التي تطبق نظام الانتخاب بالقائمة هي ألمانيا الاتحادية. أما في نظام الانتخاب الفردي، والذي ألفه الشعب المصري، فيقوم الناخبون بالتصويت لصالح شخص بعينه ليكون ممثلاً لدائرتهم.
أما التقسيم الثالث، فيتعلق بالأغلبية اللازمة للفوز بالانتخابات، وهو ينقسم إلى التمثيل النسبي والانتخاب بالأغلبية المطلقة. وفي هذا الأخير، يفوز بالانتخابات الشخص أو القائمة (بحسب إذا كانت النظام المطبق هو الانتخاب بالقائمة أو الفردي) الحاصلة على أغلبية الأصوات. أما في نظام التمثيل النسبي، فيتم منح كل قائمة حزبية عدداً من مقاعد البرلمان عن الدائرة التي تجرى الانتخابات فيها يوازي نسبة الأصوات التي حصلت عليها القائمة، وهو النظام المطبق في العديد من الدول التي أخذت بالنظام البرلماني أو المختلط، كتركيا وإسرائيل.
أما في مصر، فقد طبق نظام الانتخاب الفردي بالأغلبية المطلقة في أغلب سنوات القرن العشرين، أي أن الناخب المصري كان يختار بنفسه مرشح محدد، ويفوز الشخص الحائز على أغلبية الأصوات. وكانت منتصف الثمانينيات الاستثناء على ذلك، حينما أخذ في الانتخابات التشريعية بنظام القائمة الحزبية، ثم ألغي بحكم من المحكمة الدستورية العليا وانتقلنا منه إلى نظام يخلط ويمزج بين النظامين الفردي والقائمة النسبية الذي ما لبث وأن حكم عليه هو الآخر بعدم الدستورية، وثم عادت مصر لتطبيق إلى النظام الفردي الذي ظل قائماً إلى أن قامت صورة 25 يناير 2011، إلا أن عدنا مجدداً إلى نظام يمزج بين القائمة والفردي وهو النظام الذي حكم عليه مجدداً بعدم الدستورية. وقد استحوذت مسألة تحديد النظام الانتخابي الواجب تطبيقه في أعقاب الثورة على اهتمام الكثير من المعلقين والسياسيين، وتعددت الآراء المتعلقة بالنظام الانتخابي الأمثل في مصر. فقال البعض أن نظام القائمة الحزبية هو الأفضل، فيما دافع آخرون عن النظام الفردي، وأبرزت طائفة أخرى مميزات النظام المختلط. ومن جانبنا، فنحن نرى أن اختيار النظام الانتخابي الأنسب لمصر هو أمر معقد ولديه أوجه متعددة، إلا أنه يمكن تحديد عدة اعتبارات تحكم عملية اختيار النظام الذي سيؤخذ به. وأول هذه الاعتبارات انه يجب اختيار نظام انتخابي يتواءم مع نظام الحكم المطبق في مصر، فلا يمكن التباحث حول النظام الانتخابي بمعزل عن نظام الحكم، فكل من النماذج الرئاسية والبرلمانية والمختلطة تناسبها أنظمة انتخابية معينة، وهو أمر سنشرحه ونقدم له أمثلة عملية في الفصل الرابع من هذا المؤلف.
ثانياً، يجب أن يساهم النظام الانتخابي في تلافي الظواهر والممارسات السلبية التي كانت تصاحب العملية الانتخابية في مصر، ومن أبرزها البلطجة والنفوذ القبلي والعائلي في بعض المحافظات، والذي عادة ما يحسم نتيجة الانتخابات مسبقاً بناء على مساومات واتفاقات تبرم بين الأعيان تلك المناطق. فالمطلوب، إذن، هو عدم الاكتفاء بإجراءات الديمقراطية والمتمثلة في إجراء انتخابات دورية، وإنما تحقيق الجانب الموضوعي من الديمقراطية بتمكين الشعب من تحديد ممثليه في البرلمان، وعدم ترك العملية الانتخابية رهينة للموازنات العائلية والقبلية.
أما ثالثاً، فيتعين تطبيق نظام انتخابي يساعد على إفراز سلطة تشريعية قوية وقادرة على ممارسة دورها بكفاءة وفاعلية. ويتطلب ذلك الابتعاد عن النظم الانتخابية التي تؤدي إلى شرذمة السلطة التشريعية وتوزيع مقاعدها على عدد كبير من الأحزاب والتكتلات الصغيرة التي لا يستطيع أي منها الاستحواذ على أغلبية أو حتى أقلية كبيرة تؤثر بقوة في العملية التشريعية. وقد أخذت العديد من الدول بقواعد تسعى لمعالجة ظاهرة البرلمانات المنقسمة، كوضع نسبة أدنى لعدد الأصوات التي يتعين أن يحصدها أي حزب ليدخل البرلمان.
ورابعاً، ينبغي أن يطبق في مصر نظام انتخابي يساعد على إعادة الخصوبة للحياة السياسية في مصر ويعالج التجريف الذي تعرضت له على مدار العقود الماضية، وهو ما يتطلب الأخذ بنموذج انتخابي يتلافى ما عرف بظاهرة "نائب الخدمات" الذي يتدخل لدى جهات الإدارة لتقديم المساعدة لأهل دائرته دون أن يهتم بالشأن السياسي والتشريعي في البلاد، وهو ما يقتضي تطبيق نظام يشجع العمل الحزبي ويدعمه، ويحول الأحزاب لإحدى الأدوات الرئيسية لانخراط المواطنين في العمل السياسي.
(3) الأحزاب السياسية:
لا غنى في المجتمعات الديمقراطية عن الأحزاب السياسية، فهي تؤدي وظيفة مركزية على المسرح السياسي، وتعد وسيلة مهمة لتمكين الشعب من المشاركة بشكل منظم في العمل العام. والحزب السياسي يشبه في الكثير من ملامحه منظمات المجتمع المدني غير الهادفة للربح، كمنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان. فالأحزاب تتكون من مجموعة من المواطنين المهتمين بالسياسة، والمتفقين على مجموعة من المبادئ، والمجمعين على رؤية عامة لكيفية إدارة شئون المجتمع، ويسعون للعمل من خلال الحزب لتحقيق هذه الرؤية ووضعها موضع التنفيذ. إلا أن الأحزاب تختلف عن المنظمات غير الحكومية في أمر رئيسي، ألا وهو كون الأحزاب تهدف للوصول إلى سدة الحكم، وتسعى لتحقيق مراميها عن طريق تولي أعضائها – عن طريق الانتخابات – مناصب سياسية بالسلطتين التشريعية والتنفيذية.
كما تعتبر الأحزاب السياسية بمثابة أداة لترجمة مطالب وتطلعات وآمال الشعب إلى مجموعة من البرامج والسياسات الواضحة، فضلاً عن كونها محفل لترتيب أولويات الأمة والاتفاق على كيفية توظيف الموارد المحدودة المتوافرة لدى المجتمع بالشكل الذي يلبي طموحات الشعب. لذا، يمكن تشبيه الأحزاب السياسية كقناة اتصال بين الشعب وطوائفه المختلفة من جانب، والسلطة الحاكمة ومؤسساتها من جانب آخر. كما تؤدي الأحزاب دور اجتماعي مهم يتمثل في تفريخ الكوادر السياسية وتدريبها على العمل العام، ففي الدول الديمقراطية تجتذب الأحزاب المواطنين الراغبين في النزول إلى مضمار العمل السياسي، وتقوم بتنمية مهاراتهم وتطويرها، وتقوم بعملية فرز للكوادر التي تستطيع تبوء المواقع القيادية في الحزب وفي المجتمع عامة. ومن هنا، ينكشف أهمية أن تتسم العمل داخل أروقة الأحزاب بالديمقراطية، فالأحزاب التي تحكمها العقلية الدكتاتورية أو السلطوية أو تهيمن عليها حركات أو كيانات أخرى لا يمكن أن تساهم في نمو مجتمع ديمقراطي حر وقويم.
وللأحزاب تاريخ طويل في مصر استعرضنا جانباً منه في الفصل الثالث من هذا الكتب، فكان لها دور وطني رائد في التصدي للمحتل البريطاني، ومفاوضته على نيل استقلال البلاد، وللدعوة لوضع دستور للبلاد، وإقامة نظام ديمقراطي سليم. وكما أشرنا آنفاُ، فقد ألغيت الأحزاب وصودرت أموالها في يناير 1953 في أعقاب ثورة 23 يوليو 1952، والتي أعلن قادتها أن ذلك يستهدف تطهر النظام الحاكم من الفساد السياسي. وكان لهذا القرار وقع كبير على الحياة السياسية في البلاد، فقد احتُكر العمل العام من قبل التنظيم السياسي الوحيد الذي سمح بإنشائه ورعته الدولة، وأقصيت المعارضة عن المشهد السياسي، وهمشت الأصوات المناهضة لنظام الحكم، وهو ما ساهم كله في تجريف السياسة عن البلاد، وإبعاد المصريين عن العمل العام. واستمر هذا الوضع إلى أن قرر الرئيس الراحل أنور السادات عودة الأحزاب في 1976 إلى أن وصل عدد الأحزاب الموجودة قبل قيام ثورة 25 يناير إلى 24 حزباً. وللأسف، لم تكن هذه التعددية الحزبية إلا واجهة ديمقراطية لنظام مستبد، فلم يكن لهذه الأحزاب تواجد يذكر في الشارع، ولم تتمتع بشعبية حقيقية بين الجماهير، ولم يتح لها العمل بفاعلية وجمع التبرعات، ولم تتمكن بسبب المضايقات الأمنية والعيوب التي شابت الإطار القانوني المنظم لعملها من منافسة الحزب الحاكم على السلطة، وهو ما تناولناه في الفصلين التمهيدي والثالث من هذا الكتاب.
ومن هنا، سيكون للأحزاب السياسية في مصر دور محوري في تنفيذ أهداف ثورة 25 يناير وبناء الجمهورية الثانية. فستقع على عاتقها مسئولية النهوض بالحياة السياسية، وفي عودة السياسة إلى الشارع والمواطن المصريين. كما سيكون عليها أن تترجم أهداف الثورة إلى برامج وسياسات محددة وجداول زمنية تتضمن الإجراءات والخطوات المحددة التي ينبغي على الدولة أن تتخذها، بالإضافة إلى دورها في تثقيف المواطنين وتعريفهم بحقوقهم وواجباتهم، وتشجيعهم على الانخراط في العمل العام والاهتمام بالشأن السياسي. ورغم السيولة التي يتسم بها المشهد الحزبي في مصر في الأسابيع والشهور التالية لثورة 25 يناير، إلا أن الملاحظة الرئيسية التي نود تسجيلها هنا والنصيحة التي نرغب أن نسديها لأشقائنا من المصريين المنخرطين في العمل الحزبي، هي أن المصلحة الوطنية تفرض على هذه القوى أن تسعى للوحدة ولتجميع صفوفها في كيانات حزبية كبيرة، والابتعاد عن التشتت والتفرق والتشرذم بين أحزاب ومجموعات صغيرة. أي أن المطلوب هو أن تتوحد الأحزاب والمجموعات ذات الخلفيات والتوجهات الإيديولوجية المتقاربة تحت لواء كيانات أكبر تمثل مختلف التيارات التي يموج بها المجتمع، وليس التشتت والتوزع على تجمعات أصغر وأقل تأثيراً. وسيحقق ذلك فوائد عديدة، لعل أهمها زيادة قوة الحشد التي تتمتع بها هذه الأحزاب، وتوفير موارد مالية أكبر، وعدم تفتيت أصوات الناخبين المتعاطفين مع توجه فكري معين بين أحزاب وكتل متعددة، وهو ما سيضعفها كلها في نهاية المطاف، ويصعب في مصلحة الأطراف واللاعبين السياسيين الأكثر تنظيماً وتأثيراً وتمويلاً.
(4) حرية الرأي والإعلام المسئول:
إذا كان المجتمع الديمقراطي قائم على ما شبهناه ببورصة للأفكار، فإن حرية تداول المعلومات تصبح أحد أهم عناصر وركائز هذه البورصة، حيث لن يستطع المواطنون المفاضلة بين البرامج والسياسات التي تطرحها وتقترحها الأحزاب والتيارات السياسية المتنافسة دون أن يتوافر لديهم معلومات دقيقة وذات مصداقية حول مختلف أوجه الحياة في البلاد. ويؤكد ذلك ما سبق وأن تناولناه في معرض حديثنا عن الشق الموضوعي للديمقراطية حول مركزية حريتي الرأي والتعبير في النظم الديمقراطية باعتبارهما حجر الزاوية الذي لا غنى عنه في تعريف المواطنين والرأي العام بكل ما يشهده المجتمع من أحداث وتطورات، ولإتاحة الفرصة للجميع للمساهمة بالرأي والقول في تسيير شئون البلاد.
من هنا، تبزغ وتتكشف المسئولية الكبيرة الملقاة على عاتق وسائل الإعلام – بأشكالها وأنماطها المختلفة – لتفعيل حريتي الرأي والتعبير، ووضعهما موضع التنفيذ، وتحويلهما من حقوق أساسية منصوص عليها في الدستور ومكفولة بقوة القانون، إلى واقع ملموس ومسموع ومرئي متاح للمجتمع بأسره بكل طوائفه وشرائحه. وبالتحديد، يمكن أن نوجز ونقسم المهام المفترض أن يقوم بها الإعلام في المجتمعات الديمقراطية إلى ثلاثة وظائف: أولها، النقل الأمين لما يقع في البلاد من أحداث وتعريف الرأي العام بها. ولا يقتصر هذا الجانب من مهام الإعلام على مجرد تغطية الفعاليات والأحداث التي يشهدها المجتمع، وإنما يمتد إلى إتاحة الفرصة للمنخرطين في العمل العام للتعليق على هذه الأحداث وإبداء الرأي بشأنها بحرية. ويتعين أن تتمتع جميع فئات المجتمع وكل أطراف المعادلة السياسية بهذا الحق دون تمييز أو محاباة أو انحياز. أما الوظيفة الثانية التي يمارسها الإعلام في الدول الديمقراطية، فتتمثل في ممارسة الرقابة على المسرح السياسي بمختلف مكوناته، بما في ذلك السلطات العامة، والأجهزة الحكومية، والأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني. فعلى سبيل المثال، كان للإعلام الغربي دور كبير في الكشف عن مخالفات بل وجرائم اقترفتها مؤسسات وأشخاص ناشطين في العمل السياسي، كفضيحة وترجيت التي أطاحت برئيس الولايات المتحدة ريتشارد نيكسون لتورطه في اقتحام عناصر من حزبه الجمهوري لمكاتب الحزب المنافس له، وهو الحزب الديمقراطي، بغرض التجسس عليه. وثالث الوظائف التي ينبغي على الإعلام الاضطلاع بها، فترتبط بدوره التثقيفي والتنويري في المجتمع. فالإعلام ليس مجرد قناة تنقل ما يحدث في المجتمع بشكل ميكانيكي وتلقائي، وإنما يؤثر الإعلام والإعلاميون في الرأي العام، ويساهمون في تشكيله ورسم ملامحه بوسائل متعددة، كنوعية الآراء ووجهات النظر التي يتبنونها، والمواد الإخبارية التي يختارون عرضها، والبرامج الوثائقية التي يعدونها، والأفكار التي ينشرونها.
ومن هنا، فقد فطنت الأنظمة الديكتاتورية لمدى خطورة الإعلام وتأثيره على الشعوب، وسعت لتوظيفه لإضفاء الشرعية على وجودها، والترويج لنفسها، وللتقليل والتسفيه من معارضيها، ولإقناع المجتمع بأنه ليس في الإمكان أبدع مما هو قائم. وقد جسد الأديب البريطاني الكبير جورج أورويل في قصته الشهيرة المعنونة "1984" الاهتمام البالغ الذي توليه الأنظمة الشمولية للسيطرة على الإعلام عندما شبه وزارات الإعلام بأنها "وزارات للحقيقة"، حيث تقوم الحكومات المستبدة باحتكار الحقيقة من خلال الإعلام الرسمي، وتفرض طوقاً على عقول الأمة، وتحاصرها بسياج منيع لا ينفذ منه إلا ما تسمح به السلطة الحاكمة. فيختفي النقد، وتضمر المعارضة، وتنهار بورصة الأفكار، وتختفي الديمقراطية.
ولم تكن الجمهورية المصرية الأولى – وخاصة في عقودها الأولى – مختلفة عن هذا النموذج كثيراً. وإنما سعت الدولة للهيمنة على الإعلام، وفرض وصايتها على الرأي العام لضمان عدم انحرافه عن الخط السياسي والإيديولوجي للسلطة الحاكمة. فسيطرت الدولة على الصحافة وتحول أسمها إلى "صحف قومية"، وأدارت الخدمات الإذاعية عن طريق وزارة الإرشاد القومي (وزارة الإعلام لاحقاً)، وأنشأت التلفزيون المصري في 1960 وألحقته هو الآخر بوزارة الإرشاد. ورغم أن حالة الإعلام المصري تطور وتحسن في العقود الأخيرة من عمر الجمهورية الأولى، فلم تعد الدولة محتكرة للمشهد الإعلامي، وكانت هناك مساحة لمعارضي النظام لانتقاده وفضح فساده وعواره، إلا أن الإعلام الرسمي ظل بكل ما له من إمكانيات مسخراً لخدمة نظام الحكم، ولإضفاء الشرعية عليه، ولدحض ما تنشره وتذيعه وتبثه وسائل الأعلام الخاصة أو المعارضة من انتقادات لأوضاع القائمة آنذاك في المجتمع المصري. وقد تجلى ذلك في الأداء الذي لا يمكن وصفه إلا بأنه هزيل ومخزي للإعلام الرسمي خلال الأيام الثمانية عشرة لثورة 25 يناير، والذي اتهم الثوار بالعاملة والخيانة، وادعى أن المظاهرات التي جابت شوارع مصر واحتلت ميادينها كانت مسيّرة من قبل أياد خارجية، وأن الثورة حركتها جماعات سياسية لديها "أجندات" خفية للاستيلاء على الحكم، وهو ما بدد مصداقيته، وأفقده ثقة الشعب.
لذا، سيكون على بناة الجمهورية المصرية الثانية إعادة النظر في وضعية الإعلام المصري، ومراجعة أحواله، ابتداءً من الإطار الدستوري والقانوني الحاكم له، ومروراً بالآليات الإدارية المنظمة لعمله، وانتهاءً بمعايير إنتاج وإعداد وإخراج المادة الإعلامية المقدمة. وفي هذا السياق، نرى أن الفلسفة التي ينبغي أن تحكم عملية الارتقاء بالإعلام المصري يجب أن تتمحور حول الانتقال من نموذج "إعلام النظام" إلى "إعلام الدولة"، وذلك لتحرير الإعلام من قبضة النظام، وتحويله إلى أداة تخدم المجتمع وتساهم في إقامة نظام ديمقراطي صحي. ونحن لا نتحدث هنا عن إنهاء "ملكية" الدولة لوسائل الإعلام العامة، أو عرضها للبيع أو الخصخصة، فهذا لن يؤدي بالضرورة لتحرير الإعلام، وقد يحوله إلى أداة في يد أصحاب رؤوس الأموال والنخب الاجتماعية الثرية، أو رهينة لأهواء التيارات السياسية والإيديولوجية التي تستطيع الاستحواذ على هذه المؤسسات. وإنما ما نحلم به هو أن يصبح الإعلام المصري خدمة مجتمعية متاحة لكل إفراد الشعب المصري على حد سواء دون تمييز ضد طرف أو محاباة لطرف، مثله في ذلك كخدمات التأمين الصحي أو التعليم الحكومي العام، وأن تدار شئون الإعلام على أسس من الحياد السياسي والاحتراف المهني.
تنفيذاً لهذه الرؤية، يعتبر نظام إدارة وتشغيل هيئة الإذاعة البريطانية BBC أحد النماذج التي يمكن دراستها والنظر في كيفية تطبيقها في مصر، وخاصة فيما يتعلق باستقلالية هذه المؤسسة الإعلامية العريقة عن الحكومة البريطانية رغم أنها مملوكة للدولة. فقد تأسست الهيئة في 1 يناير 1927 بموجب أمر ملكي بغرض تقديم الخدمة الإذاعية للمملكة المتحدة، ومرت بمراحل تطور كثيرة منذئذ وتعرضت لأزمات متعددة ودخلت في مواجهات مع الدولة، إلى أن أرست مجموعة من المبادئ والقواعد التي تحكم عملها، وفي مقدمتها استقلاليتها الكاملة عن الحكومة فيما يتعلق بسياستها التحريرية، وعدم تأثرها بتوجهات الحزب الحاكم، والتزامها بعرض كافة الآراء المطروحة حول أي موضوع تقوم بعرضه، وعدم وجود رقابة حكومية تتدخل في قرارات مديري المحطات التلفزيونية والإذاعية للهيئة. ويشرف على إدارة الهيئة مجلساً للأمناء تعينه الملكة بناء على توصية من الحكومة، فيما يتولى التشغيل اليومي لقنوات وخدمات الـ BBC مجلس تنفيذي يتم اختيار رئيسه وأعضائه من قبل مجلس الأمناء.
أما في مصر، فقد شدد الكثير من الإعلاميين والصحفيين على أهمية تحقيق الاستقلالية لوسائل الأعلام المصرية، وإزالة العراقيل والمعوقات التي أقامها النظام السابق لضمان هيمنته على المشهد الإعلامي المصري. ونحن، بطبيعة الحال، لسنا خبراء في مجال الإعلام، ولكننا نرى أن إصلاح الإعلام المصري يجب أن تتخطى أهدافه وآفاقه حدود الإجراءات الشكلية أو الجزئية، وأن يمتد ليؤدي إلى تحرير الإعلام الوطني، ومنحه الاستقلالية التي لا غنى عنها في مجتمع يتحول نحو الديمقراطية السليمة. وتحديداً، نرى أهمية مراجعة المواد الدستورية والقانونية المتعلقة بالإعلام، والتأكد من أنها لا تفتئت على حرية الإعلام واستقلاليته، وأنه يعمل على أسس من الحرفية والحياد السياسي. ومن الخطوات اللازم اتخاذها في سبيل تحقيق ذلك إعادة النظر في التشريعات الخاصة بالمجلس الأعلى للصحافة الذي كان يرأسه في عهد النظام السابق رئيس مجلس الشورى، وهو القانون الذي كان يضيق الخناق على الصحف ويضع العراقيل أمام إنشائها. كما يمكن البحث في تأسيس مجلس لأمناء اتحاد الإذاعة والتلفزيون، ومنحه حرية تحريرية كاملة، ومنع تدخل الحكومة في نوعية البرامج والموضوعات التي تتناولها القنوات المصرية. وفي هذا الإطار، يمكن التفكير في الاستغناء عن وزارة الإعلام (والتي – كما قلنا – سمّاها جورج اوريل "وزارة الحقيقة") لانتفاء الغرض من وجودها، وانتقال مهامهما الإدارية والإشرافية إلى مجالس للأمناء.
لن يستقيم حال الإعلام ولن يضطلع بدوره في بناء الجمهورية الثانية في مصر، إلا إذا اقترنت حرية الإعلام التي تحدثنا عنها آنفاً بآليات وإجراءات لضمان جودة المنتج الإعلامي، ومحاسبة وسائل الإعلام التي يفتقر أدائها للمهنية والحرفية. فالإعلام غير المسئول خطر على الديمقراطية بقدر ما يمثله الإعلام المسيطر عليه من قبل نظام الحكم من تهديد للحرية، ذلك أن عملية التحول نحو لديمقراطية يمكن أن تفسدها ممارسات إعلامية تؤدي إلى فقدان الثقة في العملية السياسية والقوى والشخصيات الفاعلة في المجتمع. ومن هنا ينبغي وضع الآليات وإنشاء الأجهزة الرقابية التي تتأكد من حسن إدارة المؤسسات لإعلامية القومية، وتراقب أدائها وتضمن جودتها وحيدتها وعدم انحيازها لأي تيار سياسي. كما يمكن لهذه الأجهزة أو الكيانات تلقي شكاوى الجمهور بشأن ما تعرضه وتقدمه أجهزة الأعلام الوطنية، وتحقق فيها وتحاسب من ترى أنه أخطأ. ويقترح بعض الخبراء في المجال الإعلامي – وهي فكرة نؤمن عليها ونؤيدها – النظر في تشكيل لجان برلمانية لمتابعة عمل الإعلام المصري المملوك للدولة، والتأكد من مهنيته، ومساءلة القائمين على إدارته عما قد يقعون فيه من أخطاء في تسييرهم لعمل هذه المؤسسات العامة.
(5) المجتمع المدني:
كما ذكرنا في أكثر من مناسبة على مدار هذا الفصل، فإن الديمقراطية عبارة عن نظام للحكم يهدف بالأساس إلى تمكين الشعب من ممارسة حقه في تقرير مصيره وتسيير شئون بلاده ومجتمعه. وإذا كانت الأحزاب السياسية الوسيلة الرئيسية والقناة الأبرز التي يمكن للمواطنين الانخراط من خلالها في العمل السياسي، فإن الديمقراطية السليمة تحتاج حتى تعمل بكفاءة مشاركة مجتمعية أوسع نطاقاً وأكثر تنوعاً مما يمكن أن تقوم به الأحزاب السياسية بمفردها. وهنا يبرز دور المجتمع المدني ومنظماته كإحدى الأدوات التي يتاح للشعب من خلالها أن يمارس حقه في المشاركة في إدارة المجتمع.
تتعدد تعريفات المجتمع المدني، كما يختلف الفقهاء في ماهية الكيانات التي يمكن اعتبارها من قبيل منظمات المجتمع المدني. ومن بين هذه التعريفات ما طرحه البنك الدولي، وهو تعريف نراه جامع وشامل ويعبر عن مفهوم المجتمع المدني بدقة، وهو التعريف الذي يقول: "يشير مصطلح المجتمع المدني إلى مجموعة واسعة النطاق من المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الربحية التي لها وجود في الحياة العامة وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات أعضائها أو الآخرين، استناداً إلى اعتبارات أخلاقية أو ثقافية أو سياسية أو علمية أو دينية أو خيرية. ومن ثم، يشير مصطلح منظمات المجتمع المدني إلى مجموعة عريضة من المنظمات، تضم: الجماعات المجتمعية المحلية، والمنظمات غير الحكومية، والنقابات العمالية، وجماعات السكان الأصليين، والمنظمات الخيرية، والمنظمات الدينية، والنقابات المهنية". ومن هنا، يتضح – كما قلنا سابقاً – أن الفارق الرئيسي بين الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني الأخرى يكمن في أن الأحزاب تسعى للوصول لسدة الحكم، فيما تكتفي المنظمات غير الحكومية بالسعي لتحقيق أغراضها عن طريق تمثيل مصالح أعضائها والدفاع عنها، أو التأثير في السياسات العامة من خلال إقناع السلطة العامة والرأي العام بوجهة نظرها.
شهد العقدان المنصرمان، وتحديداً منذ انهيار حائط برلين وانتهاء الحرب الباردة، زيادة مضطردة في أعداد منظمات المجتمع المدني، ونمو ملحوظ في الدور الذي تلعبه هذه الكيانات في خدمة المجتمع وتوفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين، فوفق إحصائيات البنك الدولي زاد عدد المنظمات غير الحكومية الدولية من 6000 في عام 1990 إلى ما يربو من 50 ألفاً في 2006. وتمارس منظمات المجتمع المدني أدوار متعددة، تختلف باختلاف البيئة التي تعمل فيها وطبيعة الموضوعات التي تهتم بها، والتي تشعبت وتنوعت إلى أن أصبحت هذه الكيانات فاعلة ومؤثرة في مختلف مناحي الحياة، من الدفاع عن حقوق الإنسان إلى الحفاظ على البيئة، ومن نزع أسلحة الدمار الشامل إلى تشجيع الحوار بين الثقافات، ومن التنمية المستدامة إلى محو الأمية. وبطبيعة الحال، تتباين الأدوات والوسائل التي تستخدمها منظمات المجتمع المدني لتحقيق أغراضها بحسب الموضوعات التي تركز عليها في عملها. ويمكن تقسيم المهام التي تضطلع بها المنظمات غير الحكومية إلى ثلاثة أقسام. أول هذه الوظائف هي الخدمة المجتمعية (Community Service) التي تقوم بها منظمات المجتمع المدني لسد عجز ما أو نقص معين في الخدمات المتوفرة لطائفة من المواطنين، ومثال ذلك توفير الخدمات الصحية في المناطق النائية، أو تقديم دعم مالي أو قروض ميسرة لمن ضاقت بهم السبل لمساعدتهم على البدء في مشروعات صغيرة، أو محو أمية من لم يحظوا بفرصة التعلم، وغيرها كثيراً من نماذج للخدمات المجتمعية التي تسعى لمساعدة المواطنين الأقل حظاً لتجاوز الصعوبات الاقتصادية أو التحديات الاجتماعية التي يصادفونها في حياتهم. أما الوجه الثاني للدور الذي تلعبه المنظمات غير الحكومية فيتمثل في أنشطة كالضغط (Lobbying) لتحقيق هدف ما أو تنبي سياسة معينة، والدفاع (Advocacy) عن أمر أو قضية معينة ترتبط بمجال عمل المنظمة. وتعتبر منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان من أبرز أمثلة مؤسسات المجتمع المدني التي تقوم بهذه المهمة، حيث تضغط على الحكومات من أجل تحسين سجلها في حماية واحترام الحقوق والحريات الأساسية، وتدافع عن ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان وتسعى لاقتضاء حقوقهم ومعاقبة من ارتكبوا هذه التجاوزات في حقهم. كما تعتبر النقابات العمالية والمهنية من الكيانات التي تمارس هذه الوظيفة، حيث تسعى للدفاع عن مصالح أعضائها، والضغط على الحكومات وجهات الإدارة التي يتبع لها أعضاء النقابات لتحسين أوضاعهم. أما الوظيفة الثالثة التي تمارسها منظمات المجتمع المدني، فهي الرقابة (Monitoring) على الجهات الحكومية التي تعمل في مجال تخصص المنظمة. ومن الأمثلة على ذلك مؤسسة كمنظمة الشفافية العالمية، والتي تقوم بمراقبة مستويات الفساد في الدول، وتعد تقارير عن جهود الحكومات للتصدي لهذه الظاهرة، وتصنف الدول وتضعها في جدول يبين الدول الأكثر معاناة من الفساد. وبطبيعة الحال، تخلط العديد من المنظمات غير الحكومية بين هذه الوظائف الثلاثة، وتسعى لتحقيق أغراضه من خلال المزج بين جميع الأدوات المتاحة لها.
يتضح مما تقدم مدى أهمية الدور الذي يضطلع به المجتمع المدني في الدول الديمقراطية. فهذه الكيانات تعد من الأدوات والقنوات الرئيسية المتاحة للمواطنين للانخراط في العمل العام، وللتأثير على سياسات الدولة، ولتنظيم صفوفهم للضغط من أجل تحقيق مطالبهم والدفاع عن مصالحهم. كما تقوم منظمات المجتمع المدني بدور داعم للدولة في توفير الخدمات الأساسية للمواطنين، فقد أيقنت حكومات الدول الديمقراطية أن المؤسسات الحكومية والأجهزة الرسمية لن تتمكن أن تفي بمفردها بكل متطلبات المجتمع واحتياجاته، ففتحت الباب لمؤسسات المجتمع المدني لمعاونتها في تقديم وتوفير العديد من هذه الخدمات. وبالتالي، تتسم العلاقة بين منظمات المجتمع المدني والحكومات في معظم الدول الديمقراطية بالشراكة القائمة على التعاون والتنسيق فيما بينها، بما يخدم المجتمع ويساهم في الارتقاء به.
ولدينا في مصر تاريخاً مديداً وحافلاً ومشرفاً لنشاط منظمات المجتمع المدني، حيث تأسست الجمعية الأهلية الأولى في البلاد سنة 1821 باسم الجمعية اليونانية بالإسكندرية، وتوالت من بعدها الجمعيات والمنظمات ذات التوجهات والأنشطة المختلفة، كجمعية مصر للبحث في تاريخ الحضارة المصرية القديمة التي تأسست عام 1859، وجمعية المعارف المنشاة عام 1868، والجمعية الجغرافية المقامة سنة 1875، والجمعية الخيرية الإسلامية المؤسسة سنة 1878، وجمعية المساعي الخيرية القبطية والمقامة في عام 1881. واستمر عدد الجمعيات الأهلية المصرية في الازدياد واتسعت رقعة نشاطها، إلى أن وصل عددها، وفق الإحصائيات الحديثة لما يقرب من 16 ألف جمعية تنشط في مجالات متعددة. أما بالنسبة للتنظيم القانوني لعمل هذه الكيانات، فقد اعترفت الدساتير المصرية، بداية بدستور 1923، بحق تكوين الجمعيات الأهلية، كما صدرت العديد من القوانين التي وضعت شروط وآليات إنشاء هذه المنظمات، وحددت قواعد إدارتها وتمويلها، ووضحت حقوقها وواجباتها.
ورغم الحضور المحسوس والأثر الملموس لمنظمات المجتمع المدني على الساحة المصرية، سيكون على النخبة السياسية المصرية القائمة على وضع أسس الجمهورية الثانية وبنائها أن تزيل المعوقات الكثيرة التي وضعها نظام الحكم السابق أمام المنظمات غير الحكومية، والتي حدت كثيراً من نشاطها وفاعليتها. وتعد حالة المجتمع المدني في مصر وتعامل الأجهزة الحكومية معه من الملفات الكاشفة لطبيعة المشكلات التي تواجهها مصر حالياً والتحديات التي يتعين التغلب عليها لبناء المجتمع الديمقراطي السليم. فرغم أن حرية إنشاء الجمعيات الأهلية كانت مكفولة بموجب دستور 1971، إلا أن القوانين المنظمة لعمل هذه الكيانات جاءت لتفرغ هذا الحق من مضمونه، ولتمنح جهة الإدارة الحكومية صلاحيات واسعة لتضييق الخناق على المنظمات غير الحكومية، ولتقليص هامش حرية الحركة المتاح لهم. فأتى إنشاء المنظمات غير الحكومية مرهوناً بموافقة وزارة الشئون الاجتماعية (وزارة التضامن الاجتماعي لاحقاً)، التي مُنحت أيضاً حق إغلاق الجمعيات بموجب قرار إداري، وحق الاعتراض على تشكيل مجالس إدارات المنظمات الأهلية، وغيرها من الصلاحيات التي أدت عملياً إلى تحويل الحق الدستوري في تكوين الجمعيات الأهلية إلى شعار أجوف. والأهم من أوجه العوار التي شابت قانون الجمعيات الأهلية، فقد تمثل التحدي الرئيسي أمام اضطلاع المنظمات الأهلية بدورها لخدمة المجتمع بشكل كامل في تدخل الأجهزة الأمنية – وبالتحديد مباحث أمن الدولة التي حُلت بعد ثورة 25 يناير – في أنشطة هذه الجمعيات، وفرض رقابة عليها بما يتجاوز بكثير حدود الصلاحيات الممنوحة للأجهزة الحكومية في هذا الشأن.
من هنا، يتضح أن تعزيز دور المجتمع المدني في الجمهورية الثانية المصرية سيتطلب إجراءات وخطوات أوسع وأشمل بكثير من مجرد النص على هذا الحق في الدستور الجديد، فجميع الدساتير المصرية السابقة كفلت هذا الحق. وإنما سيحتاج الأمر لمراجعة الأطر القانونية والتشريعية المنظمة لمختلف أوجه عمل المنظمات غير الحكومية، وتطهيرها من المواد التي أفرغت حق تكوين الجمعيات الأهلية من مضمونه ومحتواه. والأهم من ذلك هو إخضاع الأجهزة الحكومية – وخاصة الأمنية منها – للرقابة البرلمانية، والقضائية، والإعلامية، والمجتمعية، للضمان عدم تعديها حدود وظيفتها المنصوص عليها في الدستور والقانون، وعدم تعرضها أو تدخلها بشكل تعسفي أو غير شرعي في أنشطة منظمات المجتمع المدني.
(6) أجهزة الخدمة المدنية المحترفة والمحايدة:
تتسم الحياة الديمقراطية عامة بالتقلب والتغيير المستمرين، فالأغلبية النيابية اليوم ستتحول لا محالة إلى أقلية الغد، والحزب الحاكم في لحظة ما سينتقل إلى صفوف المعارضة في وقت لاحق. وفي خضم هذه الأجواء غير المستقرة التي عادة ما تفرزها الديمقراطية، يتطلب تسيير شئون المجتمع وجود جهاز إداري بيروقراطي للدولة يدير شئون البلاد ويوفر الاحتياجات الأساسية للمواطنين بعيداً عن تقلبات السياسة.
ويتصل هذا الموضوع بإشكالية تتمثل في طبيعة العلاقة التي تربط بين الدولة ونظام الحكم. ففي الأنظمة الديمقراطية يتعين – من الناحية النظرية – أن يكون الجهاز الإداري للدولة منفذ مطيع للتوجيهات السياسية لنظام الحكم المنتخب من قبل الشعب بشكل حر ونزيه. ويفترض كذلك ألا يكون لمؤسسات الدولة ولاء أو انحياز لحزب أو تيار سياسي، وإنما تظل هذه الأجهزة الإدارية مخلصة للأمة بأسرها وللمجتمع بكل أطيافه، وأن تؤدي مهامها بحرفية وتجرد بموجب الدستور والقانون، وأن تعامل جميع أبناء الشعب بلا تمييز أو محاباة لأحد. وبالتالي، يقام في هذه الدول الديمقراطية فاصل بين نظام الحكم وأجهزة الدولة، فيتغير الأول ويتبدل، فيما تبقى الثانية وتستمر. في المقابل، يذوب هذا الفاصل في الأنظمة الاستبدادية أو التسلطية، فتنتشر أذرع النظام في الدولة، وتبدأ في توظيف أجهزتها لخدمة أغراضه، وتتحول الدولة إلى أداة يستخدمها النظام لضمان بقائه في السلطة. وهنا تضيع حيدة الدولة وأجهزتها، وتفقد حرفيتها، وتتزعزع ثقة الناس فيها واحترامهم لها.
لذا، يعد بناء جهاز بيروقراطي محترف وغير مسيّس من أهم الخطوات اللازمة للتحول من نظم الحكم الشمولية إلى الحياة الديمقراطية السليمة أو لتجنب استبدال نمط من الشمولية ونمط آخر يحل محله ويستخدم نفس الأساليب وإن كان بلغة وخطاب آخرين. ويتعين أن يقوم هذا الجهاز البيروقراطي الحكومي على ثقافة تقدس وتعلي الخدمة المدنية العامة Public Civil Service، وهي الثقافة التي يتوجب غرسها في موظفي الأجهزة الإدارية وتدريبهم عليها. ويمارس هؤلاء الموظفين عملهم، كما أسلفنا، على أساس من الحيدة والاحتراف، فلا يدينون بالولاء لأي حزب أو تيار سياسي، وإنما يقومون بتنفيذ السياسات العامة التي تضعها الحكومة المنتخبة، بما تمليه عليهم ضمائرهم، وما يقتضيه الدستور والقانون. ويستلزم الأمر كذلك أن يدار الجهاز الإداري على أساس التعاون مع نظام الحكم المنتخب، وإسدال النصيحة المخلصة لمن هم في السلطة، ومعاونتهم على تنفيذ سياساتهم بإخلاص وتجرد، حتى لو لم تحظ تلك السياسات بمباركة الجهاز البيروقراطي. كما ينبغي أن تنشأ الآليات اللازمة لإخضاع عمل هذه الأجهزة الإدارية للرقابة الصارمة، وهي الرقابة التي يمكن أن تقوم بها أكثر من جهة. فللقضاء دور مهم في هذا الصدد، وخاصة فيما يتعلق بمخالفة القوانين واللوائح المنظمة لعمل أجهزة الدولة. ويمارس البرلمان هو الآخر دور مركزي في محاسبة الأجهزة الإدارية ومساءلتها عما تنفذه من سياسات، وذلك عن طريق محاسبة الوزراء المشرفين على القطاعات المختلفة في الدولة. وأخيراً، لا تكتمل مكونات الجهاز البيروقراطي للدولة وسيظل غير فعال إذا لم يلق موظفو الدولة التقدير والعائد المالي المجزي الذي يضمن لهم الحياة الكريمة ويحصنهم من الفساد الإداري وشروره.
وفي مصر، ستواجه الحكومات التي ستشرع إلى بناء الجمهورية المصرية الثانية تحد كبير يتمثل في كيفية إصلاح وتطوير ذلك الإخطبوط الضخم المسمى بالجهاز البيروقراطي المصري، والذي يبلغ عدد العاملين فيه وفق بعض الإحصاءات حوالي 5،5 مليون مواطن، حيث لا مفر من جعل مؤسسات الدولة المصرية أكثر مواكبة للعصر، ومراجعة مستويات الأجور فيها وضمان عدالتها وكفايتها، وإصلاح هياكلها التنظيمية والإدارية لإزالة حالات التضارب والتكرار بين الوظائف والمهام. والأهم من هذا وذاك هو إعادة تأهيل الموظف العام، وغرس وتنمية القيم والمبادئ التي لا غنى عنها في أي جهاز حكومي في الدول الديمقراطية، وفي مقدمتها مفهوم وقيمة "الخدمة العامة". وبطبيعة الحال، لا يمكن لنا أن نتعرض في هذه السطور القليلة لكل أوجه العوار التي شابت عمل الجهاز الإداري للدولة المصرية، ولا لكل الصعاب التي يواجهها العاملين بالدولة، فمشكلات البيروقراطية المصرية متفرعة ومتعددة، وبعضها يعود لعقود، بل وربما لقرون، من الزمن. ولا يقتصر الأمر على الأجهزة الحكومية المركزية، كالوزارات والدواوين الحكومية بالقاهرة، وإنما يمتد الأمر إلى المحليات التي عرفت بفسادها المستشري. وإنما ما نرمي إليه هو التنبيه للأهمية القصوى التي يجب أن توليها الحكومة المنتخبة لمسألة إصلاح البيروقراطية المصرية، وتمكينها من تلبية متطلبات الجمهور، والارتقاء بمستوى وكفاءة العاملين في أجهزتها، والتأكد من أنهم يمنحون القدر الكافي من الدخل الذي يوفر لهم ولأسرهم العيش الكريم.
كما نؤكد على أن الحكم الديمقراطي السليم لن يستتب في مصر دون المحافظة على كيان واستقلالية الدولة وحيدتها، واستمرار مؤسساتها في العمل، وتلبية حاجات الشعب، والدفاع عن مقدرات الأمة وأمنها في الداخل والخارج، دون أن يكون ذلك كله متوقفاً على أو مرهوناً بالتقلبات التي قد تعصف بالمسرح السياسي، فالأنظمة والأشخاص زائلون، والدولة والأمة باقيان. كما سيؤدي إعلاء وغرس قيمة استقلالية وحيدة الجهاز الإداري إلى تلافي إحدى أخطر الظواهر التي شهدتها مصر في عصر الحزب الوطني الحاكم قبل ثورة 25 يناير، ألا وهو استخدام التعيين في المؤسسات الحكومية كوسيلة لمجاملة الأشخاص وضمان ولائهم، وهو ما كشفت عنه دراسة حديثة حول معدلات التشغيل في الدولة، والتي تقول: "استمرت الزيادة [في المعينين] دون قواعد سوى عناصر الواسطة والمحسوبية، والأخطر من كل ذلك هو زرع فيروس "الحزبية"، فتحولت العلاقة الحزبية لقيادات الحزب الوطني وأعضاء مجلس الشعبي الشعب والشورى إلى نوافذ خلفية للتعيين والترقي وشغل وظائف المستشارين في الوزارات والأجهزة الحكومية جميعاً". وبالتحديد، ورغم أهمية جميع أجهزة الدولة المصرية ووزارتها وهيئاتها بمختلف تخصصاتها، إلا أننا نحذر بالأخص من تسلل داء التحزب والتسييس إلى قلب وعصب الدولة المصرية، وهي قواتنا المسلحة الباسلة، والتي يتعين أن نقيها شر التسييس ونذود عنها من سعي أي طرف سياسي إلى النفاذ إلى صفوفها والاستحواذ على ولاء أعضائها من الضباط والجنود. وينسحب الأمر ذاته على مؤسسات الأمن القومي المصري، وفي مقدمتها وزارتي الداخلية والخارجية وجهاز المخابرات العامة، والتي تعتبر كلها ثروة قومية سيصيب تسييسها أو المساس باستقلاليتها وحرفيتها إلى خسارة فادحة للأمة. فالخلاصة إذن، أنه بدون تطوير الجهاز الإداري للدولة والارتقاء به، ستُخفق أي حكومة منتخبة في تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها ثورة 25 يناير.
(7) الديمقراطية أهم ركائز الجمهورية الثانية:
قامت ثورة 25 يناير 2011 لتسقط نظاماً تسلطياً مستبداً ولتقيم جمهورية ثانية تطلق فيها الحريات وتصان في الحقوق، وهي آمال وأحلام لن تتحقق ولن ترى النور دون التأسيس لحياة ديمقراطية سليمة، يتمتع فيها الشعب بحقه في تقرير مصيره بنفسه، وهو لب فكرة الحكم الديمقراطي. ومن هنا، تنجلي أمامنا حقيقة أن الديمقراطية ما هي إلا نظام للحكم يقوم على إدارة الشعب لشئون مجتمعه وعلى كون شرعية السلطة الحاكمة نابعة من موافقة الشعب عليها وتفوضيه إياها لتولي مسئوليات الحكم وأعبائه. ورغم بساطة الفكرة الديمقراطية، إلا أن تنفيذها يظل مستعصياً على الكثير من المجتمعات، ذلك لأن الحياة الديمقراطية تتعدى بكثير حدود إجراء انتخابات دورية أو إطلاق حرية الانخراط في العمل السياسي، لتمتد إلى قائمة طويلة من المكونات الموضوعية والإجرائية التي تناولناها فيما سبق. وكما قلنا، وقعت العديد من الدول في خطأ التركيز على تلك الجوانب الجانب الإجرائية والشكلية دون أن تلتفت إلى حقيقة أن الديمقراطية ليست نظاماً سياسياً فحسب، وإنما ثقافة مجتمع ونظام حياة. فالديمقراطية يجب أن تسود بين الحاكم والمحكوم، وبين أرباب العمل والعاملين، وحتى داخل الأسرة الواحدة، وهو ما يتطلب كله أن تنغرس في وجدان الأمة مجموعة من القيم والمبادئ التي لا غنى عنها حتى تقوم حياة ديمقراطية سليمة. وفي مقدمة هذه المبادئ، والتي ناقشناها مطولاً، احترام التعددية الفكرية، ونبذ التمييز، وإعلاء قيمة المساواة بين أبناء الأمة الواحدة، بالإضافة لمجموعة من الحقوق والحريات الأساسية التي لن يتمكن الشعب بدونها من المشاركة في الحياة السياسية. أما المكونات الإجرائية للديمقراطية، فهي تمثل التروس والسيور التي تمكن ماكينة الديمقراطية من العمل بكفاءة، فإذا أصابها عطل أو خلل أصيبت المنظومة الديمقراطية كلها بالعطب والوهن. ويأتي شكل نظام الحكم وطبيعيته في مقدمة المكونات الإجرائية التي توافرها لقيام الديمقراطية، فيتعين أن ينشأ الدستور علاقة بين السلطات الثلاثة المكونة للدولة (السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية) تقوم على التوازن والفصل فيما بينها، فلا تداخل في الاختصاصات ولا تغول في الصلاحيات، وإنما تمارس كل هذه السلطات وظائفها وتراقب اضطلاع السلطات الأخرى بمهامها. كما تعد الانتخابات من المقومات الأساسية للديمقراطية، والتي يقوم الشعب من خلالها باختيار من يحكمه ويسير شئونه، إلا أنه يشترط أن تتوافر في الانتخابات مجموعة من الضمانات للتأكد من نزاهتها وحريتها. ثم تأتي الأحزاب السياسية لتصبح القناة والأداة التي يقوم الشعب عن طريقها بتحويل آماله وتطلعاته إلى برامج وسياسات محددة تتنافس على جذب الناخبين إليها، وبالتالي تصبح الأحزاب الآلية الرئيسية لدخول المواطنين إلى مضمار الحياة السياسية. ولكن لا تكفي هذه المقومات أبداً لإقامة ديمقراطية صحيفة وفتية، وإنما يحتاج الأمر إلى مجتمع مدني نشط ومبادر ليقوم الأفراد من خلاله بالدفاع عن مصالحهم والضغط على النظام السياسي لتلبية مطالبهم وللتعاون مع الدولة لسد الكثير من حاجات المواطنين. وهذا بجانب الإعلام الحر المستقبل الذي يتسم عمله بالحرفية والحيدة السياسية، والذي يتحمل مسئولية الكلمة ويعي خطورتها وهو يؤدي رسالته. ولن يكتمل البناء الديمقراطي وستظل أسسه مزعزعة وضعيفة دون وجود بيروقراطية حكومية محترفة ومخلصة للمجتمع، وتؤدي رسالتها بتجرد وحياد، دون أن تنحاز لطرف سياسي على حساب طرف آخر. والخلاصة إذن، أن الديمقراطية منظومة مجتمعية شاملة تتكون من مقومات عديدة يتعين وجودها حتى تستقيم الحياة وليمارس الشعب حق تقرير مصيره بحرية كاملة. كما يتضح أن الديمقراطية لا تأتي في قوالب جامدة ولا نماذج جاهزة يمكن أن تستوردها من دولة أخرى، وإنما سيقع على عاتقنا كأمة أن نصوغ معادلة ديمقراطية مصرية أصيلة تعبر عن هذا المجتمع، وموروثاته الثقافية، وتعكس تجربته التاريخية بحلوها ومرها، وتحقق آمال هذا الشعب العظيم وطموحاته. وبطبيعة الحال، لن نصل إلى هذه المعادلة بين ليلة وضحاها، وإنما سيطلب الأمر سنوات طولية من الممارسة الديمقراطية، وهي الفترة التي سنرتكب خلالها أخطاء كثيرة وسنحقق نجاحات مهمة وسنتعلم من تجربتنا إلى أن نصل إلى مرادنا.
المبحث الثاني
سيادة القانون
أولاً: تعريف سيادة القانون:
مثلما هو الحال بالنسبة للديمقراطية، تعددت التعريفات التي صاغها الفقهاء لمفهوم سيادة القانون، كما تباينت آراء الخبراء حول العناصر والمكونات اللازمة لكي يسود القانون في مجتمع ما، وتنوعت تطبيقات هذا المفهوم بحسب المكان والزمان والظرف التاريخي، واختلفت بحسب الأنظمة القانونية والقضائية القائمة في البلاد. فقد ركز البعض على استقلال القضاء ومنع السلطة التنفيذية من التدخل في أعماله باعتبارها عناصر كافية ليسود القانون في المجتمع، واعتبر آخرون أن سيادة القانون تتحقق بانصياع الدولة وأجهزتها للقانون وعدم مخالفتها لنصوصه وأحكامه، فيما عرّفت طائفة أخرى سيادة القانون بأنها المضاد لقانون الغاب، بما يعني أن القانون يسود حينما يتمكن المواطنون من اقتضاء حقوقهم بحرية.
ومن جانبنا، فإننا نميل – كما فعلنا في تعريفنا للديمقراطية – إلى تبني تعريف واسع وجامع يشمل مختلف جوانب مفهوم سيادة القانون. وفي نظرنا، فإنه "بمقتضى هذا المبدأ، يلتزم جميع أعضاء المجتمع وسلطات الدولة على السواء باحترام القانون كأساس لمشروعية الأعمال. إلا أن سيادة القانون لا تعني فقط مجرد الالتزام باحترام أحكامه، بل تعني سمو للقانون وارتفاعه على الدولة، وهو ما يتطلب أن تبدو هذه السيادة في مضمون القانون لا مجرد في الالتزام بأحكامه – فالقانون يجب أن يكفل الحقوق والحريات للأفراد".
وفق هذا التعريف، فإنه يمكن تقسيم سيادة القانون إلى شقين، الأول موضوعي والثاني شكلي. والغرض من هذا التقسيم هو إبراز أمرين. أولهما أن إيجاد المؤسسات اللازمة لكي يسود القانون في المجتمع – كالمحاكم والقضاة والمحامين – لا يكفي أبداً لأن تتحقق سيادة القانون، وثانيهما للتأكيد على أن القانون ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو وسيلة لإقامة العدل في المجتمع. فما أسهل أن يتحول القانون إلى أداة للظلم والطغيان إذا وقع في يد حاكم مستبد. ومن هنا، ينبغي أن يتنبه القارئ الكريم إلى هاذين الوجهين لسيادة القانون، واللذين لن ينصلح حال المجتمع المصري دونهما ولن ينعم هذا الشعب الأبي بالعدل إذا غاب أي منهما.
(أ) الجانب الشكلي لسيادة القانون:
ينطوي مفهوم سيادة القانون على مجموعة من العناصر والمكونات الشكلية التي يتوجب توافرها في أي نظام للحكم حتى يصح نعت هذا النظام بأنه يعلي قيمة سيادة القانون. ويأتي استقلال القضاء على رأس هذه الخصائص اللازمة ليسود القانون في المجتمع. ويساهم استقلال السلطة القضائية في توفير البيئة المواتية لقيام نظام ديمقراطي سليم لدوره في حماية وصون الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين وضمان عدم التعدي عليها من قبل السلطة الحاكمة أو من قبل أي فرد أو جماعة أو جهة في المجتمع. ويعد استقلال القضاء عنصراً ضرورياً لتفعيل الرقابة القضائية (Judicial Review) على السلطتين التنفيذية والتشريعية، والتأكد من عدم تجاوز أي من هاتين السلطتين لحدود صلاحياتهما المنصوص عليها في الدستور.
كما يلعب استقلال القضاء دوراً كبيراً في تحقيق الاستقرار السياسي في البلاد، ذلك لأن كافة القوى الفاعلة على المسرح السياسي ستمارس نشاطها وهي مطمئنة لوجود حكم مستقل ومحايد يشرف على إنفاذ القانون وتطبيقه في مواجهة الجميع على أساس من المساواة وعدم التمييز، ويستطيع الفصل في النزاعات التي تنشب نتيجة لممارسة العمل السياسي. كما سيردع القضاء الحر والمستقل السلطة الحاكمة من تجاوز حدود سلطاتها، وسيحاسبها إن افتأتت على صلاحيات السلطات الأخرى في الدولة، وهو ما يشكل درعاً منيعاً ضد استفحال الحكم الاستبدادي والشمولي. وثالثاً، يعتبر استقلال القضاء من المقومات الرئيسية لتحقيق التنمية المستدامة، فبدون سلطة قضائية حرة لن يأمن المستثمر المحلي والأجنبي على ماله وسيتحاشى الدخول في سوق تغيب عنه العدالة الناجزة المبنية على قواعد قانونية واضحة وشفافة وراسخة.
ويحتاج تحقيق استقلالية السلطة القضائية حماية القضاة من التدخلات في عملهم من أي جهة والتصدي لأي تأثير قد تمارسه أي جهة عليهم وهم ينظرون في القضايا المعروضة عليهم للبت فيها. ويمكن تقسيم هذه التدخلات بحسب مصدرها، فقد تأتي من خارج السلطة القضائية وقد تنبع من داخلها. ويعد تغول السلطة التنفيذية وتدخلها في عمل السلطة القضائية من أبرز وأخطر ملامح الدخل الخارجي في عمل القضاء. وقد يمارس ذلك من خلال الضغط المباشر على القاضي وإملاء أحكام معينة عليه، أو بوسائل غير مباشرة وأقل وضوحاً كتحكم السلطة التنفيذية في المخصصات المالية للقضاء أو الهيمنة على شئونهم الإدارية. كما يمكن للسلطة التشريعية أن تتدخل في عمل القضاء وتفتئت على اختصاصاته وولايته. أما التدخل من داخل السلطة القضائية، فيأتي في صور متعددة كأن يضغط القضاة القدماء على زملائهم الأحدث للتأثير على رأيهم أو لدفعهم للانتهاء إلى حكم معين.
وقد عانت الجمهورية الأولى في مصر من العديد من الممارسات والمظاهر التي أفقد القضاء قدراً لا يستهان من استقلاليته وحريته. فرغم أن الدساتير المصرية التي صدرت منذ قيام الجمهورية الأولى أعلت كلها قيمة ومبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء، إلا أن العديد من القوانين الحاكمة لعمل السلطة القضائية جاءت معيبة ومشوبة بعوار خطير تمكنت السلطة التنفيذية من خلاله أن تمارس نفوذ كبير على القضاء. وتعد الصلاحيات الممنوحة لوزير العدل بموجب مجموعة من القوانين المكملة للدستور من أبرز ملامح ومواطن العيب التي اعترت بنيان التشريع المصري المنظم لعمل مرفق القضاء. فعلى سبيل المثال، جاء ذكر وزير العدل 61 مرة في القانون رقم 46 لسنة 1972 بشأن السلطة القضائية، وهي النصوص التي منحته – رغم أنه ينتمي للسلطة التنفيذية بوصفه عضواً في الحكومة – صلاحيات واسعة ترتبط بإدارة وتسيير القضاء، من بينها الإشراف الإداري على المحاكم، والرقابة والإشراف الإداري على النيابة العامة، ترشيح قضاة للعمل بمحكمة النقض، وندب القضاة للعمل بالمحاكم الابتدائية، وإنشاء المحاكم الجزئية وتحديد دوائر اختصاصها، وطلب وقف القاضي الخاضع للتحقيق، وتنظيم الخدمات الصحية والاجتماعية للقضاة. وبالإضافة إلى هذه الصلاحيات كلف القانون وزير العدل بالإشراف على التفتيش القضائي وتعيين رئيس هذه الإدارة الخطيرة بوزارة العدل، والتي تتولى الرقابة على القضاة، وتقييم عملهم وأدائهم، وإعداد الحركة القضائية، وهي السلطة التي منحت وزير العدل ومن خلاله السلطة التنفيذية نفوذاً وسطوة كبيرتين على القضاة. ولم يتوقف القانون عند ذلك، وإنما منح ذات الاختصاصات لوزير العدل فيما يتعلق بالنيابة العامة وكلفه بتعيين مدير التفتيش بالنيابة.
وتكرر الأمر ذاته في القوانين المنظمة لعمل هيئات قضائية أخرى، كهيئة قضايا الدولة المعنية بالدفاع عن الحكومة أمام المحاكم المدنية، حيث يشرف وزير العدل على التعيينات، والترقيات، والانتدابات، وحركة التنقلات في الهيئة، فضلاً عن مراقبة أداء العاملين بها من خلال إنشاء إدارة للتفتيش تقوم بنفس المهام التي تضطلع بها إدارة التفتيش بوزارة العدل والمذكورة أعلاه. ولم تسلم النيابة الإدارية هي الأخرى من هيمنة وزير العدل على شئونها، فتمتع الوزير بحق إنشاء إدارة التفتيش الخاصة بهذا الجهاز، وحظي بسلطة الإشراف الإداري على عمله، وحاز على قوة التدخل في حركة تنقلات أعضائه.
ولا يقتصر الأمر على افتئات السلطة التنفيذية في عمل وشئون القضاء – رغم أنه النموذج الأكثر شيوعاً والأشد إضراراً بالقضاء – وإنما يمتد لما قد تمارسه السلطة التشريعية من تدخلات في عمل القضاة، أو محاولات للحد من حريتهم في الحكم بما يرون أنه ملائماً في القضايا المعروضة عليهم، أو التدخل في آليات تنظيم مرفق القضاء، وهو أمر تصدى له القضاء المصري في أكثر من مناسبة بكل حسم، وخاصة من خلال أحكام المحكمة الدستورية العليا. وتجدر الإشارة إلى أن المشرعين العاديين – أي أعضاء البرلمان – ليس وحدهم هم المخاطبين بهذا المبدأ، وإنما يسري كذلك في مواجهة المشرع الدستوري. فلا يجوز أبداً أن يتضمن الدستور نصاً يخالف مبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء، لما ينطوي عليه ذلك من مساس بأحد أهم أعمدة ومقومات المجتمعات الديمقراطية. وللأسف تضمن دستور 1971 مثل هذا العيب الخطير، ففي الوقت الذي نص في مادته 68 على أنه "يحظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء"، جاءت المادة 76 لتمنح قرارات اللجنة المشرفة على الانتخابات الرئاسية صفة النهائية وحظرت الطعن فيها أمام أي جهة. وقد ألحق هذا العيب تعارضاً وتناقضاً خطيراً في جسم الدستور يعتبر بمثابة افتئات من قبل المشرع الدستوري على سيادة القانون وسموه واستقلال القضاء وحريته، وهو ما نوصي بأن يتحاشاه المشرع الدستوري المصري عند إعداد الدستور الجديد.
ومن هنا، يتعين أن يلتفت القائمون على بناء الجمهورية المصرية الثانية إلى أهمية ضمان استقلال القضاء وإبعاده عن أي تدخلات أو تأثيرات قد تمارسها أي جهة أو سلطة أخرى بالدولة، والتأكد من أحكام القضاة لا تحكمها إلا ضمائرهم ونصوص وأحكام القانون المكلفين بتطبيقه. وسيتطلب ذلك أولاً مراجعة بعض نصوص الدستور لإبعاد رئيس الجمهورية عن رئاسة المجلس الأعلى للهيئات القضائية. إلا أن ما تناولناه آنفاً حول القوانين المكملة للدستور والمنظمة لمرفق القضاء يكشف مجدداً عن حقيقة ما ذكرناه في أكثر من مناسبة أن الدساتير لا تكفي بمفردها لإقامة نظام الحكم الديمقراطي السليم، فيمكن أن تنص الدساتير على استقلالية القضاء وحيدته، ثم تأتي القوانين والتشريعات لتفرغ هذا المبدأ من مضمونه وتحوله إلى شعار أجوف لا أثر له على الواقع. لذا، سيقع على عاتق البرلمان المصري بمجلسيه مراجعة وتعديل نصوص العديد من القوانين المنظمة لعمل القضاء، والتأكد من أنها خالية من تلك الأحكام التي تمكنت من خلالها السلطة التنفيذية أن تمارس نفوذاً كبيراً على السلطة القضائية وتؤثر على عملها، وهي أحكام يرتبط أغلبها بالصلاحيات الواسعة الممنوحة لوزير العدل للتدخل في إدارة وتسيير شئون القضاء.
لن يسود القانون في المجتمع ولن تستقم الديمقراطية في البلاد إذا لم تقترن استقلالية القضاء بمجموعة من الضمانات اللازمة لحسن سير عملية التقاضي والتأكد من نزاهتها وعدالتها. ويأتي في مقدمة هذه الضمانات – وهي في حقيقتها إحدى الحقوق المدنية المفترض أن يتمتع بها كل إنسان – مبدأ مثول المواطن أمام قاضية الطبيعي. والمقصود بهذا المبدأ هو أن يحاكم كل متهم بجريمة ما أمام المحكمة والقاضي المنصوص في القانون على اختصاصهما بالنظر في التهمة محل النظر، وليس أمام أي محكمة أخرى. وقد عانت الجمهورية الأولى في مصر من ظاهرة محاكمة مواطنين أمام محاكم وقضاة غير ما هو منصوص عليه في التشريعات واجبة التطبيق. فقد أحيل العديد من المدنيين للمحاكمة أمام محاكم عسكرية، كما أنشئت محاكم استثنائية في لحظات تاريخية مختلفة من عمر الجمهورية الأولى حوكم أمامها أناس اعتبرهم النظام الحاكم بمثابة معارضين ومنافسين له، كمحاكم أمن الدولة (طوارئ)، ومحاكم أمن الدولة، ومحاكم الغدر، ومحكمة القيم، ومحكمة الحراسات. ولا تقتصر تحفظاتنا على مثل هذه المحاكم الاستثنائية على كونها تمثل مخالفة لحق الإنسان في المثول أمام قاضيه الطبيعي، وإنما تمتد لكون هذه الهيئات القضائية تفتقر في الكثير من الحالات للضمانات اللازمة لاعتبار المحاكمة عادلة ومنصفة، كغياب حق الطعن في أحكام بعضها، وجلوس أشخاص من غير القضاة على منصاتها، وعدم علانية إجراءاتها وجلساتها.
ويقودنا هذا للحديث عن المقومات الأخرى المحاكمات العادلة والمنصفة بجانب مبدأ المثول أمام القاضي الطبيعي، والتي يتعين أن يوفرها النظام القضائي حتى يسود القانون في المجتمع. وفي مقدمة هذه الضمانات مبدأ المساواة أمام المحاكم، وهو المبدأ الذي اعتبره جانب من الفقه الدولي بمثابة حجر الزاوية لضمان عدالة ونزاهة المحاكمات، أولاً لأنه يلزم المحاكم بتطبيق أحكام القانون على كل من يمثل أمامها دون تمييز أو محاباة، وثانياً لكون العديد من الضمانات الأخرى للمحاكمات العادلة تتفرع من مبدأ المساواة أمام المحاكم. ومن هذه المبادئ: ضرورة توفير حق التقاضي، والذي يحظر أي عرقلة لحق المواطنين في التقدم بشكاوى أو دعاوى إلى المحاكم لاقتضاء حقوقهم. وقاعدة منح المتهم كافة الإمكانات والمعلومات والوقت الكافي للإعداد للدفاع عن نفسه أمام المحكمة. ويستتبع ذلك إلزام المحكمة بأن تتأكد من أن المتهم الماثل أمامها قد أخطر بالتهمة الموجهة إليه، وأنه تمكن من تكليف محام من اختياره للدفاع عنه، أو تم تكليف محام له في حالة عدم المقدرة المالية. ويضاف إلى تلك الضمانات، مبدأ علانية المحاكمات الذي يحقق مقصدين، أولهما صون حقوق المتهم من خلال السماح للمحامين ومنظمات المجتمع المدني من حضور المحاكمة والتأكد من أنها أديرت بشكل يحترم ويعلي مبادئ العدالة الجنائية، وثانيهما إتاحة الفرصة للمجني عليه أو ذويه لحضور المحاكمة والتأكد من أنه تم القصاص ممن جار على حقوقهم، وهو ما يسهم في إشاعة إحساساً بالعدالة والإنصاف في المجتمع.
ولا تكتمل ضمانات المحاكمات العادلة دون أن يكون النظام القضائي والقانوني برمته مبنياً على أسس ما يعرف بقواعد "الشرعية الجنائية"، وهي مجموعة من القواعد القانونية العامة التي ترسخت عبر سنوات وقرون من الكفاح من أجل إعلاء سيادة القانون والتصدي لبطش الحكام بشعوبهم. ويأتي في مقدمة تلك المبادئ قاعدتي أنه "لا جريمة إلا بقانون" وأنه "لا عقوبة إلا بقانون"، وهما القاعدتان اللتان تقيان المواطنين خطر قيام السلطة بإلقاء القبض عليهم ومحاكمتهم ومعاقبتهم دون وجه حق وبلا مبرر وهو ما يفتح الباب لسيادة الظلم والطغيان. وتطبيقاً لهاتين القاعدتين – والمنصوص عليهما في الدستور المصري الصادر في 1971– تلتزم المحاكم بعدم اعتبار أي أفعال أو أعمال بمثابة جرائم إلا إذا كان هناك نص قانوني يؤثمها، كما يحظر أن يحكم على شخص بعقوبة لم يتم النص عليها في القانون مسبقاً، فضلاً عن منع إصدار أحكام أو عقوبات بأثر رجعي. ومن هنا، تضفي هذه القواعد الشرعية على أعمال المحاكم، وتنفي عن أحكامها والعقوبات التي تحكم بها على المواطنين صفة التعسف أو وشبهة الاستبداد.
حتى إذا توافرت لدى المحاكم المصرية كل الضمانات آنفة الذكر، ستظل سيادة القانون منقوصة ومجتزأة إذا لم يتم التعامل في مستقبل الأيام مع إحدى أخطر الظواهر السلبية التي اعترت عمل مرفق القضاء في الجمهورية الأولى في مصر، ألا وهي طول فترة التقاضي، إلا أن شاعت بين المصريين مقولة: "المحاكم حبالها طويلة". فقد اتفق الفقه والقضاء الدوليين على اعتبار العدالة الناجزة من أهم مقومات وشروط سيادة القانون، وذلك تطبيقاً للمبدأ الراسخ بأن العادلة المتأخرة هي عدالة مهدرة. ولا يوجد تعريف محدد للعدالة الناجزة، ولم يتم الاتفاق دولياً على مدد معينة يتعين ألا تتجاوزها إجراءات التقاضي، إنما يعتمد الأمر على طبيعة القضية المعروضة على القاضي، ومدى تعقيدها، وظروفها الإجرائية. أي أن مبدأ العدالة الناجزة يلزم الدولة بالتأكد من أن المحاكمات تحقق اعتبارين في الوقت ذاته، أولهما سرعة التقاضي، بما يحفظ حقوق المجني عليهم، وثانيهما سلامة إجراءات التقاضي، بما يمنح المتهم كافة الفرص والإمكانيات للدفاع عن نفسه، واستنفاد جميع وسائل وطرق الطعن المتوفرة لديه.
وفي مصر، تتمثل العقبة الرئيسية لتحقيق سرعة التقاضي في قلة عدد القضاة مقارنة بالكم الهائل من القضايا والدعاوى المقامة أمام محاكمهم. فوفق إحصائيات وزارة العدل، رُفعت أمام المحاكم المصرية خلال السنة القضائية 2000/2001 أكثر من 14 مليون قضية، منها 2 مليون دعوى مدنية، وحوالي 11 مليون دعوى جنائية، ومليون ونصف المليون دعوى أحوال شخصية، وذلك في الوقت الذي لم يكن يعمل في مصر حينئذ سوى 3446 قاضياً موزعين على جميع محاكم الجمهورية، بواقع 219 مستشاراً بمحكمة النقض، و1569 مستشاراً بمحاكم الاستئناف، و1678 رئيس محكمة وقضاة بالمحاكم الابتدائية والجزئية. وتكشف هذه الأرقام عن أن متوسط عدد القضايا التي ينظر فيها القاضي سنوياً يتجاوز 4000 قضية بمعدل 520 قضية في الشهر. وبطبيعة الحال، يضطر القضاة لتأجيل القضايا المقامة أمامهم سنة تلو الأخرى نظراً للأعباء الهائلة الملقاة على عاتقهم ولرغبتهم في التأكد من أن أحاكمهم لا تشوبها شائبة ولا تطالها المطاعن. وتؤكد ذلك تقارير وزارة العدل حول معدلات ونسب القضايا التي تصدر بشأنها أحكاماً سنوياً، والتي وصلت في عام 2001 إلى 33% من الدعاوى المدنية والتجارية، و39% من قضايا الأحوال الشخصية، أي أن حوالي ثلثي الدعوى المنظورة أمام المحاكم المصرية يتم تأجيلها إلى السنة التالية. وتزداد نسب القضايا المؤجلة كلما ارتفعت درجة التقاضي نظراً لقلة أعداد القضاة الجالسين على منصة المحاكم العليا مقارنة بالمحاكم الدرجات الأدنى. وتتجلى هذه الظاهرة في محكمة النقض – وهي أعلى محكمة مصرية – التي عُرضت عليها أثناء السنة القضائية 2000/2001 أكثر من 100 ألف دعوى، منها 11 ألف قضية جديدة وحوالي 90 ألف دعوى مؤجلة من أعوام ماضية. ومن بين كل هذه الدعاوى، أصدرت المحكمة أحكام في 1531 قضية، أي بمعدل 1،5% من مجمل القضايا المعروضة على المحكمة.
كانت هذه إطلالة على ماهية ومضمون الجانب الشكلي لسيادة القانون، والذي يتمحور في مجمله حول الضمانات اللازمة لتحقيق العدالة في البلاد، والتأكد من إنفاذ القانون وتطبيقه، وإخضاع المجتمع بأسره إليه دون تمييز أو محاباة لأحد. وفي مقدمة هذه الضمانات إقامة سلطة قضائية تتمتع بالحرية والاستقلالية وتمارس مهامها بحرفية وحيدة وتجرد، بما يجعل من القضاء حصناً حصيناً للمستضعفين، ودرعاً منيعاً لحقوق والمواطنين وحرياتهم، وسداً قوياً يقي البلاد شر تغول السلطتين التنفيذية أو التشريعية وإساءة استغلال أي منهما لصلاحياتهما بما يهدد الديمقراطية والحرية. ولن تتحقق سيادة القانون ولن يكتمل ركنها الشكلي دون توافر ضمانات المحاكمات النزيهة وشروط حسن سير إجراءات التقاضي وامتثالها لمعايير العدالة، وهي قواعد ومبادئ تهدف لحماية حقوق المتقاضين أمام المحاكم.
(ب) الجانب الموضوعي لسيادة القانون:
تجمع كل قوى الطيف السياسي المصري على أن الجمهورية الثانية في مصر يتعين أن تكون دولة سيادة القانون، وذلك باعتبار أن من أهم نواقص نظام الحكم الذي سقط بقيام ثورة الشعب المصري يوم 25 يناير كان غياب سيادة القانون وسموه، وهو ما فتح الباب على مصراعيه لاستبداد السلطة، واستفحال الفساد، وشيوع الظلم. ومن جانبنا، فإننا نتفق مع ذلك ونؤمن عليه، بل أننا نعتبر سيادة القانون أحد الدعائم الثلاثة للجمهورية الثانية في مصر. ولكن ما نود التنويه إليه، وهو الغرض من هذا القسم، هو أن الظلم في مصر لم يكن ظلماً فوضوياً ولا عشوائياً، وإنما كان في جزء منه بقوة القانون وسلطانه، وهو ما يكشف لنا حقيقة أن القانون ما هو إلى أداة ووسيلة لتحقيق غاية أسمى وأنبل من سيادة القانون، ألا وهي العدالة. ومن هنا، فمن الأحرى بمن ينادون بإقامة "دولة القانون" في مصر أن يطالبوا بتأسيس دولة ومجتمع يعدل بين أبنائه، ويمنحهم حريتهم، ويساوي بينهم، ويصون كرامتهم.
إذن فالعدالة هي قلب وجوهر الجانب الموضوعي لسيادة القانون، والغاية التي يتوجب أن تسعى لتحقيقها الأنظمة القانونية والقضائية، والمعيار التي يجب أن تقيّم على أساسه تلك الأنظمة. فالدساتير والتشريعات واللوائح التي تشرعن القهر، وتحلل القمع، وتبيح الطغيان تفرغ مبدأ سيادة القانون من مضمونه، وتحوله إلى أداة تستغل في غير مقصدها، حتى ولو توافرت في هذه الأنظمة كل المقومات والضمانات التي تكوّن الجانب الشكلي لسيادة القانون، كوجود محاكم تحظى بقدر من الاستقلالية، وتراقب أعمال السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتراعي مبادئ المحاكمات العادلة والنزيهة.
وقد عانت مصر من هذه الظاهرة طوال عمر الجمهورية الأولى، فرغم وجود إطار دستوري يحكم البلاد، ونظام قانوني وتشريعي ينظم حركة المجتمع، ومنظومة قضائية متكاملة للبت في النزاعات التي تنشب بين المواطنين، إلا أن الكثير من المصريين أحسوا بالظلم وافتقدوا العدالة في حياتهم. ومن أهم أسباب شيوع الإحساس بالظلم لدى المصريين ما سبق وأن وصفناه في الفصل الأول من هذا الكتاب بأنه "تطبيع الاستثناء" من قبل نظام الحكم، أي سن قوانين وإنشاء أجهزة ووضع إجراءات تؤدي من الناحية الفعلية إلى إفراغ المبادئ الدستورية والتشريعية التي تحمي حقوق وحريات المواطنين من مضمونها. وقد تجسد هذا الأمر في فرض حالة الطوارئ على البلاد للأربعة وخمسين عاماً من الأعوام التسعة والخمسين التي مضت منذ قيام الجمهورية الأولى في مصر إلى انتهت في عام 2011، وهو القانون الذي فتح تطبيقه الباب لارتكاب مخالفات خطيرة لحقوق الإنسان، وأتاح للسلطة التنفيذية أن تتغول على حساب السلطتين التشريعية والقضائية، ومكن نظام الحكم من تجريف الحياة السياسية في البلاد. كما تجلى "تطبيع الاستثناء" في إنشاء أجهزة وهيئات قضائية غير عادية للنظر في تهم يتسم أغلبها بالطابع السياسي، كمحكمة الغدر، ومحكمة القيم التي تحدثنا عنها آنفاً، وهي المحاكم التي تعد بمثابة التفاف على القضاء العادي المكلف بمساءلة ومعاقبة المواطنين لما يقترفونه من جرائم منصوص عليها في القانون. وبذلك، يتضح لنا أن ظاهرة "تطبيع الاستثناء" في مصر لم تتم بطريقة عشوائية ولا تعسفية، وإنما تمت بموجب القانون وبقوته، إلى أن تحول مبدأ سيادة القانون إلى أداة للقمع والاستبداد بسبب ما تضمنته بعض القوانين من ظلم وانتقاص للحقوق والحريات الأساسية للمواطنين.
ولم يقتصر الأمر على القوانين والتشريعات، وإنما قام النظام السابق بالانقضاض على الدستور ذاته، ووظفه لتحقيق مآربه ومراميه، وهو ما تجلى في التعديل الذي أجري في عام 2005 للمادة 76 الخاصة بشروط انتخاب رئيس الجمهورية، وهو التعديل الذي استهدف تمهيد الطريق ليمتطي جمال مبارك نجل الرئيس السابق حسني مبارك كرسي الرئاسة. فبدل أن يصبح الدستور أداة لإقامة العدالة بين المواطنين، وإتاحة فرصة الترشح للرئاسة لكل المصريين على قدم المساواة ودون تمييز، أصبحت الوثيقة القانونية الأسمى في البلاد إحدى الأدوات التي ساهمت في إفساد الحياة السياسية. ومن جامع ما تقدم، يتضح لنا مجدداً أن سيادة القانون ليست غاية في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة لتحقيق وإعلاء العدالة في المجتمع، وإنه عندما يحيد القانون عن هذا المقصد السامي، فإن سيادة القانون تتشوه وتفقد معناها وتتلوث روحها. من هنا، يمكننا القول أن إقامة العدل في المجتمع تتطلب أن يكفل البنيان التشريعي في البلاد في مضمونه الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين، وهي مجموعة من المبادئ والقيم اللصيقة بآدمية الإنسان، والتي تؤمن الحد الأدنى من الحياة الكريمة في المجتمع. وسنتحدث مطولاً عن ماهية ومضمون حقوق الإنسان في القسم التالي الذي سنعرج فيه على الركيزة الثالثة من ركائز الجمهورية المصرية الثانية، ولكن يكفي أن نقول هنا أن الشق الموضوعي لسيادة القانون يُلزم المشرع بأن يضع نصب أعينه وهو يسن القوانين والتشريعات هدف حماية الحقوق الأساسية للمواطنين وصون حريتهم – وهي المبادئ التي تهدف في مجملها إلى تأمين الحياة الكريمة للمواطن بكل ما يحمله مفهوم "الكرامة" من معاني، بما في ذلك صون حياة الإنسان وسلامته الجسدية، وإتاحة الفرصة له للمشاركة في تسيير شئون المجتمع، والتمتع بمستوى لائق من العيش.
المبحث الثالث
حقوق الإنسان
تكتمل أضلاع المثلث المكوّن لدعائم الجمهورية الثانية باحترام وصون الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين المصريين. فالحقيقة الثابتة هي أن حقوق الإنسان عبارة عن مجموعة من القيم النبيلة اللصيقة بآدميته، فإذا حاز الإنسان كل حقوقه وتمتع بكامل حريته تكون إنسانيته قد اكتملت، وإذا طال هذه الحقوق أي انتقاص تُنتقص آدمية الإنسان بنفس قدر ما سلب من حقوقه وحرياته الأساسية. وتعد حقوق الإنسان عنصراً لا غنى عنه في بناء المجتمع الديمقراطي الذي نحلم به ونتطلع له لمصر، فالحقوق والحريات العامة تهدف في جوهرها إلى صون وإعلاء الكرامة الإنسانية وحماية النفس البشرية من كل فعل أو قول يعتدي على هذه كرامة المرء أو يمس بها.
كما تعتبر مبادئ حقوق الإنسان من القواعد المنظمة والحاكمة للحياة في المجتمعات الديمقراطية، ذلك لأن هذه القيم تفرض قيوداً على تصرفات السلطة الحاكمة وتمنعها من أن تبطش بالشعب، وتضع حدوداً لعلاقات المواطنين بعضهما البعض وتحول دون اعتداء شخص أو طائفة على غيرهما من أبناء الأمة الواحدة. وهو ما يعني أن الحقوق والحريات الأساسية تفتح الباب لمشاركة المجتمع بكل أطيافه وتياراته في تسيير شئون البلاد على قدم المساواة، فضلاً عن كونها سداً منيعاً يقي الأمة من شرور انحراف الديمقراطية وما قد تفرزه من أنظمة وأنماط للحكم تستبد بالبلاد والعباد.
والغرض من هذا القسم ليس شرح ماهية حقوق الإنسان ومضمونها وسرد تاريخ تطورها، فهذا ليس مقصدنا، وإنما نسعى من خلال هذه السطور لأن نعطي القارئ الكريم فكرة ونبذة عامة حول هذه المبادئ والقيم، ولنبين أهم الحقوق والحريات التي لا غنى عنها في المجتمعات الديمقراطية والتي يتوجب علينا ونحن مقبلون على بناء الجمهورية الثانية في مصر أن نحرص على إقامتها وإعلائها.
أولاً: الأجيال الثلاثة لحقوق الإنسان:
شاع بين الفقهاء تقسيم الحقوق والحريات العامة إلى ثلاثة أجيال، وذلك تعبيراً عن حقيقة أن منظومة حقوق الإنسان القائمة اليوم بمبادئها واتفاقياتها ووثائقها وأجهزتها الحكومية وغير الحكومية لم تظهر ولم تنشأ بين ليلة وضحاها، وإنما أخذت تتطور عبر سنوات طويلة، وبل وعلى مدار قرون من الزمن شهدت الإنسانية خلالها أحداث جسام أقنعت البشرية بضرورة الاتفاق على مجموعة من القواعد تقي الإنسان من شرور بطش الحاكم بشعبه.
وبعكس ما تقول به بعض المؤلفات، وخاصة الغربية منها، فإننا لا ندين بالفضل للغرب لظهور مبادئ حقوق الإنسان، فهذه القيم ليست حكراً على ثقافة أو حضارة بعينها، وإنما هي أفكار معبرة عن قيم إنسانية تتقاسمها وتتشارك فيها البشرية جمعاء، وساهمت في بلورتها كل الثقافات والحضارات والأديان التي عرفتها الإنسانية، بداية بالفلاسفة الإغريق، ومروراً بالإمبراطوريات الرومانية والفارسية والإسلامية، وبالعصور الوسطى في أوروبا الغربية التي تبعها عصر التنوير والنهضة، وحقبة الثورات الأوروبية كالثورة الفرنسية، وانتهاء ببزوغ أمريكا الشمالية كمركز ثقل حضاري وسياسي على المسرح العالمي المعاصر.
يضم الجيل الأول الحقوق التي عرفتها الجماعة الإنسانية من حقوق مدنية وسياسية، وهي طائفة من المبادئ تهدف بالأساس لحماية الإنسان من التعدي على نفسه أو عرضه. وتندرج ضمن هذه الطائفة من المبادئ أمور مثل: حق الإنسان في الحياة، والحق في الحرية والسلامة الشخصية، وحظر التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية، ومنع التمييز بين المواطنين على أي أساس، وحريتي العقيدة وممارسة الشعائر الدينية. ويضاف إلى هذه الحقوق مجموعة من الحريات المتعلقة بالمشاركة في الحياة العامة والانخراط في الشأن السياسي، كحق الرأي والتعبير، وحرية الاجتماع وإنشاء الجمعيات والأحزاب، وحق مخاطبة السلطات العامة والتصويت في انتخابات دورية حرة ونزيهة. وتندرج ضمن هذا الجيل الأول من الحقوق مجموعة المبادئ والقواعد المرتبطة بإعلاء سيادة القانون، كحق مثول المواطن أمام قاضيه الطبيعي، وتمتعه بسائر ضمانات المحاكمات النزيهة والعادلة.
أما الجيل الثاني من حقوق الإنسان، فسمّي كذلك لكونه بدأ يتبلور في نصف القرن التاسع عشر مع بزوغ تيارات الفكر الاشتراكي والشيوعي في أوروبا، حيث تبنى المنتسبون لهذه الإيديولوجيات قضايا حقوق العمال والفئات المستضعفة في المجتمع التي لم تجن ثمار الثورة الصناعية في أوروبا، وهو ما حدا بهؤلاء المفكرين اليساريين للمطالبة بالاعتراف بحقوق تضمن للمواطنين حد أدنى من مستوى المعيشة والدخل الذي يؤمن لهم العيش الكريم. واستمرت هذه الحقوق في التطور إلى أن وصلت إلى شكلها المعاصر، والذي يتكون من حقوق اقتصادية واجتماعية وثقافية.
وتهدف الحقوق الاقتصادية إلى تمكين المواطن من ممارسة النشاط الاقتصادي، بالإضافة إلى تنمية مهارات القوى العاملة لتتمكن من زيادة إنتاجيتها وكفاءتها. ومن بين هذه الحقوق: الحق في العمل، وحق العمل في ظروف وأماكن مناسبة، والحق في الحصول على مقابل مجز وملائم لطبيعة العمل، والمساواة في أماكن العمل، وكفالة التدريب المهني والفني لتطوير قدرات العمال، والحق في تنظيم النقابات العمالية والمهنية. أما الحقوق الاجتماعية، فترتبط بمقومات ضرورية للعيش الكريم والآدمي، كالحق في المأكل والملبس والمسكن، وضرورة توفير التعليم والرعاية الصحية للمواطنين، وإقامة نظام للضمان الاجتماعي. وتتصل الطائفة الثالثة من هذه الحقوق، وهي الحقوق الثقافية، بما يمكن أن نصفه بحق المواطن في التمتع بهويته الثقافية والحضارية بكل من تتضمنه من مكونات وعناصر، فتنص المواثيق الدولية ذات الصلة على ضرورة احترام التنوع الثقافي، ورعاية التراث الحضاري للبشرية، وتشجيع الإبداع الفكري والعلمي والفني.
ورغم أن هاتين الطائفتين من الحقوق والحريات لم تتطورا في نفس الفترة التاريخية ولا في ذات الظروف السياسية، إلا أن المجتمع والقضاء الدوليين اجمعا على المساواة بينهما، ورفض دعاوى بعض الدول وطائفة من المفكرين للتفريق بينهما أو تفضيل أي منهما على الآخر. فقد استقر الفقه العالمي على وجود علاقة تكاملية بين الحقوق المدنية والسياسية من جانب، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جانب آخر، وأن الكرامة الإنسانية لا تكتمل ولا تصان دون تمتع الفرد بكل هذه الحقوق والحريات. ولا ينفي ذلك وجود اختلاف بين هاتين المجموعتين من الحقوق من حيث طبيعتهما وآليات إنفاذهما والالتزامات التي تلقيهما على عاتق الدولة. فالحقوق المدنية والسياسية توصف بأنها "التزامات سلبية"، بمعنى أن الدولة ليست مطالبة باتخاذ خطوات ملموسة لكي يتمتع المواطنون بهذه الحقوق، وإنما تقتصر التزامات الدولة على الامتناع عن إتيان أفعال تعد بمثابة اعتداء على تلك الحقوق والحريات. أما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فتوصف بأنها "التزامات إيجابية"، ذلك لأن طبيعتها تلزم الدولة باتخاذ إجراءات عملية ومحسوسة لتحسين مستوى معيشة المواطن والارتقاء به، وهو ما يتطلب وضع خطط ورؤى تنموية تمس مختلف أوجه الحياة في المجتمع. لذلك، اتفق الفقهاء على أن الدول ملزمة بتنفيذ تعهداتها بموجب الحقوق المدنية والسياسية بشكل فوري، نظراً لكونها لا ترتبط بالمستوى الاقتصادي للدولة ولا وإمكانياتها المادية. وفي المقابل، يعتمد تمتع المواطنون بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على ما يتوافر لدى الدولة وللمجتمع عامة من قدرات مالية وموارد طبيعية يمكن استغلالها لتحسين مستوى معيشة المواطنين، وهو ما يعني أن هذه الحقوق سيتم تطبيقها وتلبيتها بشكل تدرجي حسب إمكانيات كل دولة، على أن تظل الحكومات ملزمة ببذل الجهد المناسب لتنفيذ الحد الأدنى من تلك الحقوق والعمل باستمرار لضمان كامل التمتع بها على المدى الطويل.
ما أن استقرت الحقوق والحريات أنفة الذكر في الفقه والقضاء الدوليين، إلا وظهرت طائفة جديدة من الحقوق والحريات تسمى بالجيل الثالث من حقوق الإنسان. ويعد الطابع المميز لهذه الحقوق أنها – وبخلاف الجيلان الأول والثاني – ليست فدرية وإنما جماعية، بمعنى أن هذه الحقوق ليست ممنوحة ولا مستحقة للفرد فحسب، وإنما هي حقوق يتمتع بها المجتمع – بل والجماعة الإنسانية بأسرها – ككيانات جامعة وحاضنة للبشر. ورغم أن الفقه الدولي لم يستقر بعد على قائمة موحدة ومحددة لهذه الحقوق، إلا أنه يمكن الزعم بأنه من ضمن الحقوق التي تنضوي تحت لواء هذا الجيل الحديث حقوق كالحق في التنمية، والحق في البيئة النظيفة، والحق في السلام. وتفتقد معظم هذه الحقوق لتعريفات محددة لماهيتها ونطاقها، كما لم تبرم اتفاقيات دولية ولم تنشأ منظمات ولجان دولية لمتابعة تنفيذ هذه الحقوق، وإن كانت هناك جهود مبذولة من قبل بعض المؤسسات الدولية لتعريف وتوضيح طبيعة هذه الحقوق ومضمونها.
وقد حرص المجتمع الدولي طوال القرن العشرين – وخاصة في نصفه الثاني – على صك معاهدات واتفاقيات دولية لتقنين هذه الحقوق والحريات وتحويلها إلى التزامات قانونية دولية ملقاة على عاتق الدول والحكومات. وجاء ميثاق الأمم المتحدة – والذي يعد الوثيقة القانونية الأهم على المستوى العالمي – في صدارة الصكوك القانونية الدولية التي تضمنت ضرورة صون الحقوق والحريات، حيث نص في الفقرة الثالثة من مادته الأولى على اعتبار "تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً والتشجيع على ذلك" من المقاصد الرئيسية للمنظمة الدولية. وتبع ذلك صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر 1948، والذي يحتوي على 30 مادة تعد بمثابة الحد الأدنى من الحقوق والحريات المستحقة للبشر أجمعين، ثم صدر في عام 1966 عهدين دوليين، الأول للحقوق المدنية والسياسية، والثاني للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتوضيح وتفصيل ماهية ومضموم هاتين الطائفتين من الحقوق والحريات الأساسية، ولتحويلها من مبادئ وقيم مجردة إلى التزامات قانونية محددة. ويكوّن كل من الإعلان العالمي والعهدين الدوليين معاً ما يسمى بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان (International Bill of Rights)، وذلك تعبيراً عن كون هذه الوثائق الثلاثة سوياً تشكل منظومة متكاملة من الحقوق والحريات التي تمس مختلف مناحي الحياة في المجتمعات، وتضمن للأفراد كرامتهم الإنسانية بمفهومها الشامل.
ونعود من هذا العرض المختصر لمسيرة تطور مفهوم حقوق الإنسان لما بدأنا به حديثنا، حيث قلنا أن حقوق الإنسان ما هي إلا مجموعة من المبادئ والقيم التي تهدف لصون كرامة الإنسان وإعلائها بكل ما تنطوي عليه الكرامة من معان، فحقوق الإنسان تمس كل أوجه حياة المواطنين، وتسعى لحمايتهم من بطش الدولة، وتضمن لهم الحد الأدنى من العيش الكريم، وتعمل على تطوير وتنمية المجتمع عامة كإطار ووعاء يحيى فيه الإنسان.
ثانياً: الديمقراطية وحقوق الإنسان:
كان ما سبق تقديماً نظرياً لمفهوم وفكرة حقوق الإنسان، ولكن ماذا عن تطبيق هذا المفهوم على أرض الواقع؟ وما هو الدور الذي تلعبه قيم ومبادئ حقوق الإنسان في المجتمعات الديمقراطية؟ وكيف ستساهم هذه الأفكار في بناء الجمهورية الثانية في مصر التي نطمح لها؟ سبق وقلنا أن الديمقراطية في جوهرها هي آلية لتمكين الشعب من ممارسة حقه في تقرير مصيره، وأن هذا يستلزم مشاركة الشعب في إدارة شئون المجتمع، وأن تتاح للأمة فرصة اختيار حُكامها ومحاسبتهم إن أخفقوا في تحقيق آمال وطموحات المجتمع. من هنا، يصبح لحقوق الإنسان دوراً رئيسياً في تنظيم الحياة السياسية في المجتمعات الديمقراطية، وهو الدور الذي ينقسم إلى شقين.
الشق الأول للدور الذي تضطلع به مبادئ حقوق الإنسان يتمثل في كون هذه القواعد توفر أسس العملية الديمقراطية، بمعنى أن حقوق الإنسان تثبت حق المواطنين في المشاركة في هذه العملية، وتمنحهم الأدوات والوسائل التي يستطيعون من خلالها أن يمارسوا حق تقرير مصيرهم. وكما قلنا في حديثنا حول الجانب الموضوعي للديمقراطية، يأتي في مقدمة تلك الحقوق التي تضبط الديمقراطية وتضع حدوداً لها مبدأ المساواة بين المواطنين وعدم التمييز بينهم على أي أساس، فالديمقراطية التي تفرق بين أبناء الأمة الواحدة تعد ضرباً من ضروب الاستبداد. كما لا غنى في المجتمعات الديمقراطية عن تمتع المواطنين والتيارات السياسية كافة بحريتي الرأي والتعبير، لما تمثلهما من أدوات حيوية للانخراط في العمل العام والنشاط السياسي. ويأتي الحق في التجمع وإنشاء الجمعيات كذلك ضمن الحريات اللازمة للاستتباب الحكم الديمقراطي، لكون هذه الكيانات – ومن أمثلتها الأحزاب السياسية – عنصراً أساسياً للمشاركة الشعبية في الحياة العامة. وبجانب هذه الحريات – والتي تندرج ضمن الجيل الأول لحقوق الإنسان – لا يجب أن نتغافل عن الدور المحوري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في تمكين المواطنين من ممارسة حقوقهم الديمقراطية، ذلك لأنه لا يمكن ممارسة الحقوق المدنية والسياسية والتمتع بها كاملة إذا لم يقترن ذلك يحظ المواطنون بكامل حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فبدون تمكين المواطنين اقتصادياً، وتأهيلهم تعليمياً وثقافياً، ودون توفير احتياجاتهم الأساسية من ملبس ومسكن وخدمات صحية واجتماعية، كيف نتصور أن تتمكن أمة من إدارة شئونها.
ويوصلنا هذا إلى الجانب الثاني للدور الذي تقوم به مبادئ حقوق الإنسان في العملية الديمقراطية، والذي يتلخص في أنها تضع الحدود التي لا يجوز للديمقراطية أن تتجاوزها، والإطار العام المنظم للتنافس بين التيارات السياسية الطامحة للوصول لسدة الحكم. فالديمقراطية ليست مرادفة للحرية المطلقة، والسلطة المنتخبة ديمقراطياً ليست مطلقة اليد لتفعل ما تشاء بالعباد والبلاد، وإنما تلتزم هذه السلطة بعدم تخطي حدود الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين، ويحظر عليها أن تؤتي أي فعل يعد بمثابة افتئات على هذه الحقوق الأساسية للمواطنين. ومن هنا، تعد حقوق الإنسان بمثابة ضمانة أساسية لا غنى عنها ضد أن يولد حكم شمولي استبدادي من رحم الديمقراطية، وأن تفرز العملية السياسية سلطة حاكمة تنقلب – بأي ذريعة كانت كالقومية أو الوطنية أو العقيدة – على الديمقراطية التي أوصلتها إلى سدة الحكم.
ويتطلب حماية وصون تلك الحقوق والحريات الأساسية في الجمهورية الثانية في مصر أن يتخذ المجتمع عدة خطوات وإجراءات في أكثر من اتجاه. ويعد وضع إطار دستوري يصون الحقوق والحريات بمثابة اللبنة الأولى لبناء درعاً يحمي المواطنين من بطش السلطة، وذلك لكون الدستور هو الوثيقة القانونية الأسمى في البلاد, وفي الحالة المصرية، والتي نناقشها مطولاً في الفصل الرابع، فإننا نقترح أن يتعامل المشرع الدستوري مع الباب الذي سيتضمنه دستور الجمهورية الثانية بوصفه "شرعة مصرية لحقوق الإنسان" Egyptian Bill of Rights تحاكي وتعكس المبادئ التي استقر المجتمع الدولي على اعتبراها بمثابة حقوق وحريات أساسية مستحقة للإنسانية جمعاء.
ولكن يخطئ من يتصور أن المصريين سيحظون بكامل حقوقهم وسينعمون بكل حرياتهم بمجرد النص عليها في دستور الجمهورية الثانية. فنحن نزعم أن دستور 1971، وهو آخر دساتير الجمهورية الأولى، تضمن في بابه الثالث مجموعة معقولة ومقبولة من الحقوق والحريات، وإنه كان – خاصة إذا ما قورن بما سبقه من دساتير مصرية – يعد دستوراً تقديماً ومتطوراً في مجال حقوق الإنسان، فقد نص على احترام أغلب الحقوق والحريات الرئيسية، وحظر الافتئات عليها من قبل الدولة، وأعلى – إلى حد ما – قيمة سيادة القانون. إلا أن إحدى أخطر الظواهر التي أعاقت استمتاع المصريين بحقوقهم وحرياتهم المكفولة بموجب دستورهم تمثلت في صدور قوانين من السلطة التشريعية – التي أضعفتها السلطة التنفيذية وهيمنة عليها – تفرغ المبادئ الدستورية من مضمونها، وتحولها إلى شعارات جوفاء، وتقوض كثيراً من الحقوق التي ورد ذكرها في الدستور. ومثال ذلك، نصوص قانون العقوبات المصري التي تحظر التعذيب، وقانون مباشرة الحقوق السياسية، وقانون الأحزاب السياسية، والقوانين المنظمة لانتخابات مجلسي الشعب والشورى، وهي كلها تشريعات جاءت مقيدة – بل ومقوضة – للحقوق والحريات التي أوردها الدستور. ومن هنا، سيقع على عاتق المشرع العادي أن يُنقي البنيان القانوني المصري من تلك النصوص والأحكام التي أفقدت دستور الجمهورية الأولى الكثير من أثره وقوته وسلطانه.
وحتى لو أعيد النظر في تلك القوانين وأصلح ما بها من عوار، سيبقى على الجمهورية الثانية أن تتغلب على عقبة كبيرة أعاقت الإنفاذ والتطبيق الكاملين لكافة الحقوق والحريات الأساسية في عهد الجمهورية الأولى، والمتمثلة في ممارسات بعض الأجهزة الحكومية، ولاسيما الأمنية منها، التي تخالف صريح نصوص وروح أحكام الدستور والقانون التي تكفل حقوق المواطنين، دون أن يكون لتلك الممارسات أي أساس في القانون. ولنا في الإطار القانوني المنظم لعمل المنظمات الأهلية في مصر مثال على هذه الظاهرة، فقد كفل الدستور حق تكوين الجمعيات الأهلية، وأحال إلى القانون لإصدار القواعد التفصيلية التي تحكم عمل هذه المنظمات والكيانات التي لا غنى عنها في المجتمعات الديمقراطية. وبالفعل، صدرت عشرات التشريعات على مدار القرن العشرين لتنظيم العمل الأهلي في مصر، وكان آخرها القانون رقم 84 لسنة 2002. ورغم ما اعترى هذا القانون من عيوب، إلا أن المعوق الرئيسي الذي حال دون اضطلاع المنظمات غير الحكومية بالدور المنوط بها لم يكن مرجعه أحكام القانون، وإنما تمثل في ممارسات بعض الأجهزة الأمنية – كجهاز مباحث أمن الدولة المنحل – التي تدخلت بشكل تعسفي في نشاط في المنظمات، وضيقت الخناق عليها، دون أن يكون لذلك أدنى سند قانوني. ويكشف لنا هذا المثال عن أن الأطر الدستورية والتشريعية التي تعلي وتحترم الحقوق والحريات الأساسية لا تكفي بمفردها لصون تلك القيم والمبادئ، وأن الأمر يحتاج لإجراءات وخطوات تتجاوز حدود الدستور والقانون وتمتد لتغيير أساليب عمل الكثير من الأجهزة الحكومية، وثقافة العاملين بها، وإخضاعها للرقابة القضائية التي تضمن التزام تلك الأجهزة بنص وروح القانون.
ولا تقتصر الرقابة على أداء الأجهزة الحكومية على الجانب القضائي، وإنما يقع على عاتق المجتمع المدني نفسه والإعلام عبء متابعة وتقييم أداء هذه الأجهزة، وانتقاد ما يستحق النقد واقترح الخطوات اللازمة للارتقاء بأداء هذه الجهات. كما يتعين أن يطور المجلس القومي لحقوق الإنسان من أدائه ليتحول إلى قاطرة تقود مسيرة تعزيز وترسيخ قيم حقوق الإنسان في المجتمع، ولكي يتعدى دوره حدود إصدار التقارير السنوية حول حالة حقوق الإنسان في البلاد، وتلقي الشكاوى التي تحال بعدئذ إلى الجهات الحكومية المعنية، وهو ما قد يتطلب مراجعة القانون المنشئ للمجلس بغرض تعضيد صلاحياته، للحد من التدخل الحكومي في عمله وفي اختيار أعضائه، ولتمكينه من لعب دور أكثر تأثيراً في عملية إعداد القوانين والتشريعات التي تمس الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين، ولمنحه سلطات أوسع في متابعة ما تتخذه الحكومة من إجراءات لتنفيذ توصياته ومقترحاته.
المبحث الرابع
العلاقة التكاملية بين الركائز الثلاثة للجمهورية الثانية
استعرضنا فيما تقدم الدعائم الثلاثة التي نرى أنه ينبغي أن تنبني عليها الجمهورية الثانية في مصر، ألا وهي الديمقراطية، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان. كما شرحنا ماهية ومضمون هذه المفاهيم الثلاثة، وحددنا الجوانب والعناصر والمبادئ المكونة لها، وتناولنا أهم التحديات الدستورية والتشريعية والسياسية والثقافية التي يتعين على الأمة المصرية أن تتغلب عليها في سبيل إقامة جمهورية ثانية تلبي طموحات وآمال الشعب المصري العظيم الذي ثار على نظام استبد بالبلاد وستباح كرامة العباد.
وبطبيعة الحال، لسنا الوحيدين من بين المهمومين بمستقبل وطننا الغالي مصر ممن فطنوا إلى أهمية إصلاح حال المجتمع المصري لجعله أكثر ديمقراطية، أو لتعزيز وإعلاء سيادة القانون، أو لحماية وصون الحقوق والحريات الأساسية. فقد اعتبر كثيرون أن الغاية التي قامت من أجلها ثورة 25 يناير هي إقامة الديمقراطية في بلاد عاشت لعقود تحت وطأة حكم سلطوي، ورأى آخرون أن أهداف ثورة الشعب المصري لن تتحقق سوى عن طريق إقامة "دولة قانون" تختفي منها المحسوبية والفساد ويكون الكل فيها سواسية أمام القانون، فيما شددت طائفة أخرى من المفكرين على الدور المحوري الذي يجب أن تضطلع به قيم ومبادئ حقوق الإنسان في مستقبل مصر بوصفها الضمانة الرئيسية لصون كرامة المصريين، وطالب البعض الآخر بالالتفات إلى محدودي الدخل ووضعهم على رأس أولويات المجتمع والاهتمام بهم والعمل على سد الفجوة بين أغنياء مصر وفقرائها والسعي لأن تسود العدالة الاجتماعية في البلاد.
من جانبنا، فنحن نتفق مع هذه الرؤى، ونرى صواب منطقها، إلا أننا نميل إلى القول بأن تحقيق أهداف ثورة 25 يناير والارتقاء بالمجتمع المصري يتطلب التقاء المقومات والعناصر الثلاثة التي تناولناها على مدار هذا الفصل، ألا وهي الديمقراطية، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان. فأي من هذه الركائز الثلاثة لا يكفي بمفرده لتحقيق الآمال التي يرنو إليها المصريون وثاروا من أجلها، وإنما يتعين أن تتأسس الجمهورية الثانية على هذه الدعائم كلها، والتي تربط بينها علاقة تكاملية تجعل من تحقيق غاية أي منها مرهوناً بتوافر الركيزتين الأخريين. فالديمقراطية دون سيادة قانون تضبط إيقاعها وحقوق للإنسان تقي من شططها يمكن أن تفرز حكماً ديكتاتورياً باطشاً، وسيادة القانون دون ديمقراطية تراقب تطبيقها وحقوق إنسان تضمن عدالتها قد تتحور لتصبح أداة للظلم والقهر، وحقوق الإنسان دون سيادة للقانون وديمقراطية في الحكم ستتحول إلى شعارات جوفاء ومبادئ صماء لا وقع لها ولا أثر على حياة المواطنين.
وتؤكد لنا تجارب الشعوب والأمم الأخرى هذه الحقائق. ففي ألمانيا تأسست في أعقاب الحرب العالمية الأولى جمهورية الفايمار التي أخذت شكل الجمهورية البرلمانية على النسق البريطاني بدلاً من الإمبراطورية الألمانية التي خسرت الحرب. وكان من المفترض أن هذه الجمهورية، والتي تميز دستورها بديمقراطيته وتمكينه للأحزاب والتيارات السياسية المختلفة للتنافس على الوصول للسلطة، ستفتح باب السلام والرخاء للأمة الألمانية، وستتيح لها التغلب على العوار الذي شاب الحكم الديكتاتوري للأباطرة الذي أودى بألمانيا إلى آتون حرب جلبت الخراب والدمار على أوروبا بأسرها. وللأسف لم تصل الديمقراطية بألمانيا إلى بر الأمان، وإنما اتسم الحكم في جمهورية الفايمار بانعدام الاستقرار، وتكررت الاضطرابات والتظاهرات التي عصفت بالبلاد وهددت تماسكها، وانهار الاقتصاد وارتفعت معدلات التضخم وشاعت البطالة، وعانى الشعب من وطأة العقوبات المفروضة على بلدهم من قبل الحلفاء المنتصرين في الحرب.
وتضافرت هذه العوامل – وغيرها من الظروف – لتمهد الطريق أمام الحزب النازي ليحقق خلال سنوات قليلة نجاحات كبيرة في الانتخابات مكنته من اعتلاء السلطة، فقد فاز الحزب بـ 2،6% من مقاعد البرلمان في انتخابات 1928، ثم زادت هذه النسبة إلى 18،3% من مقاعد البرلمان بعد انتخابات 1930، إلى أن حصل الحزب في الانتخابات النيابية التي أجريت في 1932 على نسبة 38% من مقاعد البرلمان ليصل زعيم الحزب النازي أدولف هتلر إلى رئاسة وزراء جمهورية فايمار، وليبدأ مجموعة من الإجراءات التي عُرفت في مجموعها باسم Gleichschaltung (وهي كلمة تعني: التناسق) للاعتداء على الدستور، ولتفكيك النظام الديمقراطي الذي قامت عليه جمهورية فايمار، وللافتئات على حقوق وحريات المواطنين الألمان، ولمنح نفسه وحزبه سلطات مطلقة حولت هتلر إلى ديكتاتوراً وقائداً لواحد من أفظع وأبشع النظم السياسية التي عرفتها البشرية. وبالتالي، أفرزت الديمقراطية في ألمانيا نظاماً أفسد الديمقراطية وانقلب عليها، وحول القانون إلى أداة للطغيان، وارتكب جرائم هزت ضمير الإنسانية، وجلب دماراً لم يسبق للبشرية أنها شهدته. ورغم أن المؤرخين يعزون وصول هتلر إلى سدة الحكم إلى عوامل متعددة، إلا أنه لو كان في ألمانيا نظام للحكم لديه المقومات الموضوعية للديمقراطية وليس فقط جوانبها الإجرائية كالانتخابات الدورية لما وصلت الأمور لما آلت إليه. كما أنه لو كانت سيادة القانون تحترم، ولو كان القضاء مستقلاً لما تمكن الحزب النازي من "تفصيل" القوانين التي تتلاءم وإيديولوجيته العنصرية والتي أتاحت له إقصاء التيارات الأخرى من المشهد السياسي، ولو كانت حقوق الإنسان مصانة لما ارتكبت الجرائم والفظائع التي شهدتها سنوات الحكم النازي في ألمانيا وفي أوروبا.
ومن هنا، فإننا نخلص إلى أن الديمقراطية القائمة على الانتخابات وصناديق لاقتراع فحسب لا تكفي بمفردها لإقامة مجتمع حر يتمتع فيه الشعب بحقوقه ويحظى بالرخاء ويتمتع بنهضة حقيقة مبنية على التنوير والتقدم والحداثة، وإنما يتطلب الأمر أن تقترن الديمقراطية بسيادة القانون التي تمثل درعاً منيعاً ضد تغول السلطة الحاكمة وانقلابها على الديمقراطية التي أوصلتها إلى الحكم، وألا يترتب على الحياة السياسية أي مساس بالحقوق والحريات الأساسية التي تقي المواطنين من شرور السلطة الديكتاتورية وتمنع تحولها إلى الاستبداد.
أما بالنسبة لسيادة القانون، فقد مرت الولايات المتحدة الأمريكية بتجربة مريرة أثبتت أن القانون يمكن أن يستخدم بشكل ملتوي يجعل منه أداة للظلم والقمع. فقد كانت القوانين الأمريكية لسنوات بل ولقرون تشرعن العبودية وتسمح لملاك الأراضي من البيض، خاصة في الولايات الجنوبية من البلاد، أن يمتلكوا ملايين الأمريكيين من أصول أفريقية للعمل في حقولهم الزراعية. وكان القضاء على الاسترقاق السبب الأبرز في نشوب الحرب الأهلية الأمريكية بين الولايات الشمالية التي سعت للقضاء على هذه الظاهرة، والولايات الجنوبية التي رغبت في الإبقاء عليها لكونها عماد اقتصادها. ورغم فوز الولايات الشمالية في هذه الحرب، إلا أن العبودية استبدلت بنظام لا يقل عنها ظلماً سمي Separate But Equal (منفصل ولكن متساو)، بمعنى أن يتم الفصل بين البيض والسود في مختلف مناحي الحياة، مع ضمان المساواة – من الناحية النظرية – في الخدمات المتاحة لهما وفي حقوقهما وواجباتهما القانونية. واستمر القانون الأمريكي على هذا الحال ودأبت المحاكم – بما فيها المحكمة العليا – في تطبيق وإنفاذ هذا النظام الظالم الذي أضر كثيراً بالأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية، وحولهم إلى طبقة مستضعفة ومهمشة في المجتمع. فرغم المساواة الاسمية والرسمية والقانونية، كانت الخدمات العامة المتوفرة للبيض تتفوق بكثير على تلك المتاحة للسود، الذي حرموا من تقلد الوظائف العليا في مختلف الهيئات الرسمية، وانتشرت العنصرية وجرائم الكراهية في ولايات ومدن كثيرة، وتعرضوا للاضطهاد والإهانة في حياتهم اليومية. وظل الأمر على حاله إلى أن سقط واندثر هذا النظام القبيح في منتصف القرن العشرين خلال ما عرف بحركة الحقوق المدنية Civil Rights Movement التي شهدت اضطرابات عنيفة في العديد من المدن والولايات الأمريكية بسبب ثورة السود على العنصرية التي كانوا يتعرضون إليها، وهو ما أرغم الحكومة والمحاكم الأمريكيتين على مراجعة القوانين التي أرست هذا النظام، ووضع برامج لإعادة تأهيل الأمريكيين ذو الأصول الأفريقية لتمكينهم من المشاركة بفاعلية وعلى قدم المساواة في الحياة العامة.
وتكشف معاناة السود في أمريكا والعنصرية التي تعرضوا لها لعقود طويلة عن أن القانون ليس بالضرورة ضمانة أكيدة لصون الحريات ولتوفير عيش كريم للمواطنين. فالسلطة الحاكمة والنخبة السياسية والمجتمعية يمكن أن يوظفوا القانون بشكل معيب يحوله إلى أداة للاستبداد بطائفة في المجتمع لصالح طائفة أخرى. كما تثبت التجربة الأمريكية أن وجود محاكم وقضاة مستقلين لا يضمن بمفرده صون الحقوق والحريات الأساسية، فقد كانت المحاكم الأمريكية بمختلف درجاتها وبكبار قضاتها تضفي الشرعية على عنصرية المجتمع وظلمه للمواطنين السود، وهو ما يعيدنا لما قلناه عند تناولنا للجانب الموضوعي لفكرة ومفهوم سيادة القانون، حين قلنا أن سيادة القانون ما هي إلا وسيلة تصل بنا لغاية أسمى وأنبل، ألا وهي العدالة. فالنظام القانوني والقضائي الذي يساهم في نشر واستشراء الظلم لا يصح أبداً أن نصفه بأنه نظام يسود فيه القانون، وإنما هو نظام يفرغ القانون من مضمونه ويستخدمه ويوظفه في غير مقصده.
ويظهر هنا دور كل من الديمقراطية وحقوق الإنسان في ضبط سيادة القانون وضمان تطبيقها بشكل قويم. فالمجتمع الذي يتمتع بالجانبين الموضوعي والإجرائي للديمقراطية، ويسمح فيه لكل أبناء الأمة الواحدة بأن ينخرطوا في العمل العام والسياسي على قدم المساواة، لن يقبل بحال من الأحوال بتطبيق نظاماً يفصل ويفرق بين طوائف وأعراق وشيع الشعب الواحد. كما سيقف النظام الديمقراطي السليم حائلاً دون أن يسن المشرع قوانين تنتهك الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين، وتنتقص من مواطنتهم وآدميتهم. أما مبادئ حقوق الإنسان فستكون بمثابة معيار تقاس عليه مدى عدالة النظام القانوني والقضائي، وتقيّم على أساسه التشريعات لضمان امتثالها لقيم الإنصاف والحرية والكرامة الإنسانية التي تمثل جوهر الجانب الموضوعي لسيادة القانون. وبذلك، تكون الديمقراطية وحقوق الإنسان بمثابة ركيزتين مكملتين لسيادة القانون، وضمانتين لا غنى عنهما في مجتمع يكفل للمواطنين كرامتهم وحريتهم.
وإذا انتقلنا إلى الركيزة الثالثة من دعائم الجمهورية الثانية، وهي حقوق الإنسان، فسنجد أنها ترتبط هي الأخرى بعلاقة تكاملية وعضوية بالركيزتين الأولى والثانية، فالحقوق والحريات العامة ستظل حبراً على ورق ومبادئ بلا أثر يذكر على المجتمع إذا غابت الديمقراطية عن الحياة السياسية وغيبت سيادة قانون التي تحمي حقوق المواطنين وتصون كرامتهم. وتعتبر الحالة المصرية مثالاً على ذلك، فرغم أن دستور 1971 – وحتى ما سبقه من دساتير الجمهورية الأولى – نص على العديد من الحقوق والحريات الأساسية، إلا أن التشريعات التي أصدرتها البرلمانات المصرية على مدار العقود الماضية كان لها أثر سلبي على تمتع المواطنين بحقوقهم التي كفلها الدستور. فقد قيدت بعض القوانين نطاق تطبيق العديد من الحقوق المنصوص عليها في الدستور، وفسرتها بشكل أفرغ أحكام الدستور من مضمونها. كما صدرت قوانين أخرى منحت السلطة التنفيذية صلاحيات مكنتها من الافتئات على حقوق وحريات المواطنين دون رقيب أو حسيب، وهو ما أوصل مصر إلى وضع سبق ووصفناه في أكثر من مناسبة بأنه "تطبيع للاستثناء"، وهي الحالة التي تجلت في تطبيق قانون الطوارئ لمعظم سنوات القرن العشرين من تاريخ مصر، وتجسدت في إنشاء العديد من الهيئات القضائية الاستثنائية التي استخدمها النظام الحاكم في حقب مختلفة للنيل من خصومه السياسيين. ولم تقتصر العقبات التي حالت دون أن يتمتع المصريون بكامل حقوقهم وحرياتهم على بعض القوانين والتشريعات المعيبة، وإنما تخطى ذلك وتجاوزه بكثير، فكانت بعض الأجهزة الحكومية – وخاصة الأمنية – تقوم بممارسات تنطوي على مخالفات جسيمة وانتهاكات خطيرة للحقوق والحريات الأساسية المكفولة للمصريين بموجب الدستور والقانون، دون أن تخضع للمحاسبة أو المساءلة.
ونرجع ذلك الواقع المرير وهذه الحالة المؤسفة التي آل إليها سجل مصر في حقوق الإنسان – ولو جزئياً – إلى ما وصفناه في الفصل الأول من هذا الكتاب بأنه "تجريف السياسة" الذي عانت منه مصر طوال سنوات عمر الجمهورية الأولى. فقد أدى غياب الديمقراطية والتنافس الحر على المسرح السياسي المصري لعقود طويلة إلى اتساع نفوذ وهيمنة السلطة التنفيذية على البرلمان المصري، وهو ما مكن النظام الحاكم من استخراج قوانين وتفصيل تشريعات تناسب سياساته وتلبي احتياجاته وتحقق مراميه المتمثلة في تضييق الخناق على القوى المعارضة له وتقييد الحريات المكفولة للمواطنين بموجب الدستور والقانون. كما أدى تغييب الديمقراطية عن البلاد إلى إضعاف الآليات الرقابية المكلفة بمتابعة نشاط وأداء الأجهزة الحكومية والتأكد من امتثالها لنص وروح القانون، وهو ما نشر ثقافة الإفلات من العقاب والمحاسبة (Impunity) في أروقة بعض هذه الأجهزة وجعل طائفة من العاملين بها يتصورون أنهم بمنأى عن يد القانون وأنهم يتمتعون بحصانة تجعلهم أعصياء على المساءلة.
ومن الأمثلة الأخرى للعلاقة التكاملية التي تربط بين حقوق الإنسان من ناحية والديمقراطية وسيادة القانون من ناحية أخرى فيما يمكن تسميته بـ "نسبية الحقوق والحريات العامة"، وهي عبارة نستخدمها للدلالة على واقع أن حقوق الإنسان ليست حقوقاً مطلقة لا حدود لها، فممارسة أي من الحقوق المكفولة للمواطنين لا يجوز أن تكون من خلال التضحية بغيرها من الحقوق والحريات. هذا فضلاً عن أنه لا يمكن الاعتراف بحرية عامة مطلقة وإنما حرية نسبية يتوقف نطاقها على مدى تعارضها مع متطلبات المجتمع، فيتعين التوفيق بين احتياجات المجتمع وحرية الفرد، والتوفيق كذلك بين الحريات العامة وبين مقتضيات صون النظام العام – أي أن الحرية المطلقة ما هي إلا وصفة لأن تسود لفوضى والدمار في البلاد. ومن هنا، تصبح الديمقراطية آلية لا غنى عنها للتوصل لهذا التوفيق المنشود بين الحقوق والحريات المكفولة للمواطنين ومتطلبات المصلحة العامة ومقتضيات الحفاظ على النظام المجتمع. فعلى سبيل المثال، يتطلب إنفاذ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وضع خطط تنموية وتصورات لكيفية إدارة الموارد المتاحة للدولة وللمجتمع ككل لتوفير مستوى ملائم من المعيشة للمواطنين. وبطبيعة الحال، ستكون هناك رؤى وأطروحات مختلفة لكيفية استغلال وتوظيف تلك الموارد المحدودة بحسب المشارب الإيديولوجية والتوجهات الفكرية التي يموج بها أي مجتمع، ولن يُحلُ هذا الاختلاف في وجهات النظر إلا عن طريق عملية سياسية ديمقراطية يتاح فيها للجميع التنافس على قدم المساواة لجذب تأييد ومباركة الناخبين لما يقدمه من برامج وأفكار تهدف لتحقيق آمال وطموحات الشعب. أما سيادة القانون، فيتمثل دورها في أنها ستظل الحصن الحصين الذي يلجأ إليه المواطنون ليقتضوا حقوقهم وليطعنوا في شرعية أي إجراء تتخذه الدولة أو سياسية تتبعها تعد اعتداء على حقوقهم وحرياتهم. أي أن القضاء سيظل الرقيب والحسيب الذي يضمن ألا تشط الديمقراطية عن مسارها وتفرز سياسات أو ممارسات تفتئت على حقوق المواطنين التي كفلها لهم الدستور والقانون.
ونخلص إذن مما تقدم إلى أن تحقيق أهداف ثورة الشعب المصري العظيم التي انطلقت شرارتها الأولى يوم 25 يناير 2011 يحتاج لتأسيس جمهورية مصرية ثانية تقوم على ركائز ثلاثة، هي: الديمقراطية السليمة، وإعلاء سيادة القانون، وصون الحقوق والحريات الأساسية. وهي ركائز ترتبط فيما بينها بعلاقة تكاملية وعضوية، بحيث سيعجز كل منها عن تأدية مهمته ورسالته دون الأخر. فالديمقراطية التي تغيب عنها سيادة القانون وتفتقر لاحترام حقوق الإنسان قد تنقلب إلى ديكتاتورية تبطش بالعباد. وسيادة القانون في ظل حكم شمولي واستبدادي لا تداول فيه للسلطة ستتحول إلى أداة لإضفاء الشرعية على الظلم والقهر ووسيلة لسلب الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين. أما حقوق الإنسان فستبقى مبادئ نظرية وقيم لا أثر لها إلا إذا قام في البلاد نظام ديمقراطي سليم وساد القانون وطبق في مواجهة الحاكم والمحكوم على حد سواء.
المبحث الخامس
الدستور والجمهورية الثانية
شهدت الأسابيع والأشهر التالية على نجاح ثورة 25 يناير في إسقاط نظام الحكم اهتماماً شعبياً غير مسبوقاً بدستور جمهورية مصر العربية، واستحوذ فقهاء القانون الدستوري على قسم عريض من النقاش العام، وتعددت الآراء والأطروحات حول تعريف وتكييف الحالة الدستورية التي خلفتها الثورة، وتنوعت الأفكار والتصورات بشأن المستقبل الدستوري للبلاد. ولم يكن هذا الاهتمام الذي حظيت به القضايا الدستورية مستغرباً، فقد كان من الطبيعي أن تطالب جماهير الشعب بمراجعة الإطار الدستوري الحاكم في مصر بهدف تأسيس نظام جديد للحكم يفتح المجال لتحقيق أهداف ثورتها. ومر النقاش العام المرتبط بالدستور المصري بعدة محطات مهمة خلال الفترة الانتقالية التي امتدت منذ تخلي الرئيس السابق حسني مبارك عن منصبه في 11 فبراير 2011 إلى أن أجريت الانتخابات البرلمانية في خريف نفس السنة. ومن أبرز تلك المحطات، النقاش الذي دار حول ما إذا كان الدستور "الدائم" لجمهورية مصر العربية الصادر في 1971 قد سقط بفعل ثورة الشعب، والتساؤلات التي طرحت عما إذا كان يجوز تعديل دستور سقط بسقوط نظام الحكم، والجدل المحتدم الذي شهدته البلاد حول التعديلات الدستورية المحدودة التي أجريت للدستور واستفتي الشعب بشأنها في 19 مارس 2011، والذي تبعه ظهور آراء تشكك في شرعية هذا الاستفتاء وفي نتائجه، والانتقادات التي وجهها بعض المعلقين والمراقبين السياسيين للإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 30 مارس 2011. ثم شهد المجتمع المصري استقطاباً حاداً بين القوى والتيارات المطالبة بالاتفاق على مبادئ سماها البعض "فوق دستورية" لتحكم عملية وضع الدستور المصري الجديد وبين أطراف أخرى تحفظت على هذا الطرح وأصرت على عدم التدخل في عمل الجمعية التأسيسية المكلفة بإعداد الدستور.
وبغض النظر عن هذه النقاشات والجدليات التي استنفذت وقتاً وجهداً كبيرين من المجتمع، فإن الثابت أن الأمة المصرية بمختلف طوائفها وتياراتها أجمعت على ضرورة طي صفحة دستور 1971 وإعداد دستور جديد يؤسس لجمهورية ثانية تلبي آمال وطموحات المصريين. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب لم يصمم لطلبة كليات الحقوق ولا هو إسهام فقهي في مجال القانون الدستوري، وإنما – كما قلنا من قبل – هو عمل تثقيفي في المقام الأول ويهدف لتعريف المواطن المصري بمجموعة من المفاهيم الأساسية التي لا غنى عنها في لحظة المخاض التاريخية التي تمر بها الأمة المصرية في أعقاب ثورة 25 يناير. لذا، لن نخوض هنا في التعريفات والنظريات المختلفة التي طرحها أساتذة القانون الدستوري من مختلف الأنظمة القانونية الموجودة في أنحاء المعمورة، وإنما سنسعى لتعريف المواطن العادي بالدستور والغرض منه والدور الذي يضطلع به في الجولة بشكل سهل ومبسط.
ويمكن القول أن الدستور هو وثيقة تحتوي على مجموعة من المبادئ العامة المجردة التي تضع الأسس الحاكمة للحياة في بلد ما. فهو يعرف طبيعة نظام الحكم القائم في البلاد، ويؤسس للسلطات الثلاثة التي تقوم عليها الدولة، وهي السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ويحدد مهام وصلاحيات كل منها، ويحدد شكل العلاقة التي تربط بينها. كما تشتمل الدساتير على الحقوق والحريات العامة المستحقة للمواطنين، والتي تشكل في مجموعها درعاً يقي الشعب من بطش السلطة وطغيانها. ومن هنا، يمكننا تشبيه الدستور بالعقد المبرم بين المجتمع بأفراده وجماعاته وأطيافه المختلفة لتحديد آليات وأدوات إدارة هذا المجتمع وتسيير شئونه.
وتجدر الإشارة إلى أنه، وبعكس ما يتصوره كثيرون، فإن الدستور لا يخاطب الدولة فحسب، ولا يقتصر نطاق إلزاميته على الأجهزة الرسمية، وإنما هو عقد يلزم ويخاطب الأمة بأسرها. فالدساتير لا تهدف لمجرد تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وإنما لوضع أسس حاكمة لمختلف أشكال العلاقات القائمة في المجتمع. فعلى سبيل المثال، لا يتوقف أثر أحكام الدستور المتعلقة بالحقوق والحريات العامة على إلزام الدولة بصون واحترام هذه الحقوق، وإنما يمتد إلى المخاطبون بأحكامه، وبالتالي، يمكننا أن نشبه الدستور بالرسم الهندسي الذي يعكس مصمم أي بناء معماري على رسمه قبل المضي في عملية البناء، وتشبيه الدستور بأنه عنوان للدولة، وبالتالي يمكن تعريف الدستور هو الذي يضع الأسس التي تقوم عليها القانون في كل فروعه، وتخضع له جميع قواعده القانونية بحكم وحدة النظام القانوني الذي يعلوه الدستور. وبهذه العلاقة العضوية بين الدستور والقانون، وتدرج القواعد القانونية من حيث المرتبة، فيتخذ منها الدستور موضعه الأسمى. إلا أن هذا الموضع المتميز للدستور لا ينفي أن المبادئ والقيم التي يحميها لها جذورها التي تسبق وجوده والتي تتفاعل في ضمير الأمة، وتعكس إرثها التاريخي والحضاري والثقافي، وتعبر عن واقعها السياسي وتطلعات أبنائها.
الفصل الثالث
التطور السياسي والدستوري في مصر
يتعين قبل أن تشرع الأمة المصرية في صياغة مستقبلها السياسي والاجتماعي من خلال صياغة دستور جديد للبلاد أن نتعرف – ولو باختصار – على تاريخها الدستوري ومراحل تطور النظام السياسي في مصر الحديثة. لذا، نسعى في هذا الفصل التمهيدي لإطلاع القارئ الكريم على نبذة لتطور الدساتير المصرية والحياة السياسية منذ تولي محمد علي باشا سدة الحكم في مصر يوم 17 مايو 1805 إلى يومنا هذا.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب ليس عمل في التاريخ السياسي ولا يطمح لسرد الوقائع والأحداث السياسية التي شهدها تاريخ مصر الحديث، فهذا أمر يتولاه المؤرخون، ونحن لسنا منهم. وإنما يسعى هذا الفصل لاستعراض تطور الأطر الدستورية التي أقيمت في البلاد على مدار القرنين الماضيين وأهم الأحداث السياسية محلياً وإقليمياً التي أثرت في مسار الحياة السياسية في البلاد. وبذلك نطمح لأن نوفر للقارئ خلفية مبسطة ومختصرة حول الظروف التاريخية التي سبقت ثورة 25 يناير 2011 بما يمكّن القارئ والمواطن المصري المهتم بالشأن العام من المشاركة في صياغة مستقبل البلاد على أساس من المعرفة والإدراك بالأحداث والخبرات التاريخية لمصر. وينبع هذا من أننا مؤمنين بصدق مقولة الفيلسوف الأسباني جورج سانتايانا بأن من لا يتعلمون من أخطاء التاريخ محكوم عليهم بالوقوع فيها مجدداً.
وبصفة عامة تتمتع مصر بتاريخ دستوري طويل يوفر مادة علمية تكفي لكتابة مجلدات من الدراسات حول مضمون هذه الدساتير بإيجابياتها وعيوبها. ولكن نظراً لكون الغرض من هذا الكتاب هو توفير خلفية تاريخية مختصرة للقارئ وإبراز أهم الدروس المستفادة التي يمكن أن نستلهمها من الخبرات التاريخية لمصر، فإننا سنركز في هذا الفصل على ثلاثة محاور، وهي: أولاً: الدساتير المصرية في الفترة التي عُرفت بالحقبة الليبرالية، وذلك للتعرف على أهم ملامحها والأسباب التي نرى أنها تسببت في إخفاق هذه الدساتير في خلق بيئة مواتية لإقامة حياة ديمقراطية سليمة ومتكاملة. ثانياً: دساتير الفترة من 1952 إلى 1971، حيث سنستعرض بإيجاز مقومات النظم الدستورية التي أقيمت خلال تلك السنوات، كما سنُبرز أهم العناصر التي وردت في مشروع دستور 1954 الذي لم يتم العمل به، وذلك لم عُرف عنه من نزعة ليبرالية قوية، كما سنتطرق للظروف السياسية التي أدت لتجاهل هذا المشروع الدستوري وأدت إلى الإعلان عن دستور 1956. وختاماً يستعرض هذا الفصل العناصر الرئيسية للدساتير والوثائق الدستورية التي شهدتها الحقبة الناصرية والتي انتهت بصدور دستور جمهورية مصر العربية الدائم لعام 1971.
المبحث الأول
الدساتير المصرية قبل عام 1923
أولاً: نظام الحكم قبل 1866:
يجمع المؤرخون على أن الحملة الفرنسة على مصر والتي حطت على شواطئها في الثاني من يوليو 1798 أذنت بفتح فصل جديد في تاريخ مصر المديد، وأن ما تركته من أثر على الأمة المصرية وما أفضت إليه من تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية، وفي مقدمتها تولي محمد علي باشا حكم مصر في عام 1805، ساهم في وضع أسس الدولة المصرية الحديثة. ومن هنا، فإننا سنتناول في هذا القسم تطور الحياة السياسية والأطر الدستورية التي سادت في مصر ابتداءً من الحملة الفرنسية وانتهاءً بإصدار دستور 1923، وذلك مروراً بعهد والي مصر محمد علي ومن خلفه من ولاة وحكّام.
أتى نابليون إلى مصر – التي وصفها بأنها أهم بلد في الدنيا – طمعاً في السيطرة على موقعها الإستراتيجي الفريد والذي يمثل معبراً بين شرق المعمورة وغربها، وتطلعاً لتضييق الخناق على بريطانيا العظمى التي كانت غريمته الرئيسية في صراعه من أجل الهيمنة على مقدرات القارة الأوروبية. وشأنه في ذلك شأن أي احتلال أجنبي، فطن نابليون إلى صعوبة حكم بلد محتل بقوة السلاح فحسب، وأدرك أنه يحتاج إلى تعاون طوائف من أهل مصر لإدارة شئون البلاد، فأسس الفرنسيون مجموعة من الهيئات والمجالس للإشراف على حكم البلاد بمشاركة أعيان ومشايخ المدن والقرى المصرية، وذلك لاسترضائهم من ناحية ولخلق مصلحة لهم في بقاء المحتل الفرنسي وللحفاظ على الاستقرار في أنحاء القطر المصري من ناحية أخرى. ومن أهم هذه المؤسسات التي قامت في ظل الاحتلال الفرنسي ما كان يعرف بالدواوين والتي تكونت من عدة أعضاء من المشايخ والأعيان والعلماء، والتي كانت تقدم المشورة والنصح للحاكم العسكري الفرنسي. ثم تأسس في سبتمبر 1798 ديوان عام بعضوية 180 من أعيان القاهرة ومختلف المديريات بالإضافة لكبار التجار والعلماء.
استمر حكم مصر على هذا النحو إلى أن هُزمت الجيوش الفرنسية على يد البحرية الملكية البريطانية وجيوشها البرية التي عقدت العزم على منع فرنسا من السيطرة على الموقع الجغرافي المتميز لمصر والذي يتيح لها تهديد درة التاج البريطاني في الهند. وبعد سلسلة من الهزائم العسكرية، انتهى الوجود الفرنسي في مصر بانسحاب الجنرال مينو قائد القوات الفرنسية في مصر من الإسكندرية في أواخر أغسطس 1801.
وبانسحاب القوات الفرنسية، عادت مصر إلى الولاية والسيادة العثمانية، فعُين سلسلة من الولاة العثمانيين على مدار السنوات القليلة اللاحقة على انتهاء الحملة الفرنسية، إلا أن هؤلاء الولاة فشلوا في فرض نفوذهم واستعادة الاستقرار في مصر بسبب تنافس طوائف وقوى، منها الأجنبي ومنها من كان مصري، على بسط هيمنتها على البلاد، فسعى أمراء المماليك لاستعادة المكانة التي كانوا يحتلونها قبل الحملة الفرنسية، وعملت الإمبراطورية العثمانية على الانفراد بحكم مصر دون الحاجة لاقتسام السلطة مع أي طرف آخر، وخططت قوى أجنبية – كبريطانيا – لتأمين مصالحها الجيوإستراتيجية في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط من خلال دعم حلفاء لها على المسرح المصري، فيما راود بعض القوى الشعبية المصرية حلم تحقيق قدر من الاستقلال لمصر والابتعاد بها عن نفوذ المماليك بفسادهم وبطشهم وهيمنة القوى الأوروبية بحلفائها وجيوشها. وبالفعل توحدت قوى الحركة الشعبية التي تصدت للحملة الفرنسية وتحالفت مع محمد علي، ذلك الضابط الألباني الأصل الذي قاد إحدى فرق الجيش العثماني في مصر، وقاما معاً بمحاصرة مقر الوالي المعين من قبل السلطان العثماني وأرغموه على تنحيته وتنصيب محمد علي والياً على مصر.
والمدهش في هذا المشهد التاريخي الفريد أنه يقارب في بعض ملامحه ما حدث خلال ثورة 25 يناير 2011، فقد انتصرت الإرادة الشعبية المصرية الرافضة لعودة شكل ونمط الحكم الذي كان قائماً قبل الحملة الفرنسية وفرضت – بتحالفها مع الجيش – على السلطان العثماني تعيين حاكماً جديداً اختارتها بإرادتها الحرة. واللافت أن القوى الشعبية المصرية لم تبايع محمد علي باشا والياً على مصر إلا بعدما أبرمت معه اتفاقاً يمكن أن نعتبره تعبيراً عن بدائياً عن فكرة الدستور المنظم للعلاقة بين الشعب وحاكمه، فجاء في هذا الاتفاق المؤرخ في 13 مايو 1805 أنه يحق لشعب مصر تعيين الولاة وعزلهم إذا انحرفوا عن الطريق القويم ولم يقيموا العدل.
استمر حكم محمد علي باشا حتى عام 1847، وهي حقبة شهدت تطوراً مشهوداً في شكل وطبيعة المجتمع المصري مما جعل المؤرخين يطلقون على محمد علي مؤسس مصر الحديثة. فقد شهدت العقود الأربعة التي حكم محمد علي مصر خلالها وضع اللبنة الأولى للدولة المصرية الحديثة، فقد أسس الدواوين الحكومية التي تحولت بعد ذلك إلى وزارات الدولة المصرية، وأنشئ جيشاً وطنياً قوياً جعل مصر قوة مؤثرة في إقليمها، وأسس اقتصاداً حديثاً مبنياً على قطاعي الزراعة والصناعة، وأحدث نقلة نوعية في التعليم بتأسيس المدارس الحديثة المتخصصة في الهندسة والطب وغيرها من العلوم، وأوفد بعثات علمية للغرب لتنهل من التقدم العلمي الذي حققته تلك الدول. أما على الصعيد السياسي، فقد اعتمد والي مصر في حكمه للبلاد على سلطته المطلقة وعلى سيطرته الكاملة على أجهزة الحكم وأدواته، فلم يَقم بخطوات بحجم ما قام به على الأصعدة العسكرية الاقتصادية لتأسيس حياة سياسية تتيح للشعب المشاركة في إدارة شئون مصر أو تقيم أي شكل من أشكال الرقابة على أداء الحاكم وتصرفاته. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه إذا كان وصف أسلوب حكم محمد علي باشا بأنه سلطوي وفردي يعد وصفاً دقيقاً، فإن هذا الوصف لا يجب أن يُقيّم وينظر إليه بمعايير اليوم ووفق القيم والأفكار السائدة حول نظم الحكم المعاصرة، وإنما يتعين تقييم محمد علي باشا وإرثه وأثره في إطاره وسياقه التاريخي الذي كانت معظم أنظمة الحكم في شتى أنحاء المعمورة تتسم بالسلطوية والمركزية في شخص ملك أو إمبراطور يعتمد في أغلب الأحيان في شرعنة حكمه على السلطة الدينية.
وكان الإجراء الأبرز الذي اتخذه محمد علي باشا نحو بذر نواة للحياة النيابية في مصر هو إنشاء "مجلس المشورة" في 1829 الذي ترأسه ولي عهده إبراهيم باشا وضم في عضويته 156 من مديري الدواوين الحكومية وبعض أعيان ومشايخ البلاد وذلك لاستشارتهم في المسائل الإدارية المرتبطة بأجهزة الحكومية وبإدارة المشروعات الضخمة التي أقامتها الدولة. كما أصدر محمد علي باشا في 1837 فرماناً عُرف بالـ "سياستنامة" لوضع أسساً لنظام الحكم في مصر ولتحديد صلاحيات الوالي والسلطات المخولة للدواوين الحكومية. وعكست هذه الوثيقة الطبيعة الفردية للحكم في مصر والقائم على تركيز السلطات في يد الوالي، وهو ما أرجعته السياستنامة إلى صعوبة نقل النظم السياسية القائمة في الدول الأوروبية إلى المجتمع المصري الذي يتطلب أن تكون كافة "المصالح المتعلقة بالأمور الداخلية مرجعها إلى ديوان واحد".
ثانياً: بداية الحياة الدستورية في مصر: اللائحة التأسيسية لعام 1866:
أستمر نظام الحكم الفردي الذي أرساه محمد علي باشا طوال عهود من خلفوه في ولاية مصر، وهم إبراهيم باشا وعباس الأول وثم سعيد. فلم تشهد مصر خلال هذه الفترة تطوراً يذكر في شكل الحكم و بنيان الدولة، باستثناء بعض التغييرات الطفيفة في مهام وصلاحيات الدواوين بتقليص صلاحيات بعضها أو بإنشاء بعض المجالس الاستشارية التي تضم مجموعة من الشخصيات والأعيان التي يختارها الوالي. ولم يتغير هذا الوضع إلا بتولي الخديوي إسماعيل حكم مصر في 18 يناير 1863 والذي جاء بمشروع حضاري متكامل بهدف إحداث نقلة نوعية في مختلف ميادين الحياة مثلما قام جده محمد علي باشا، فقام بتطوير كبير في مجالات التصنيع والتعليم والتعمير والبنية التحتية، وأشرف على مشروعات تنموية كبرى كان في مقدمتها شق قناة السويس التي افتتحت في عام 1869.
أما في ميدان السياسية ونظام الحكم، فقد شهد عهد الخديوي إسماعيل وضع اللبنة الأولى للحياة النيابية في مصر بإصدار وثيقتين هما "اللائحتين الأساسية والتنظيمية" والتي أنشئ بموجبهما "مجلس شورى النواب" الذي ضم 75 ممثلاً منتخباً من أعيان القاهرة والإسكندرية ودمياط ومشايخ الأقاليم المصرية الأخرى. وكانت مهمة المجلس "المداولة في المنافع الداخلية التي ترى الحكومة أنها من خصائص المجلس"، أي أن صلاحيات هذا المجلس ظلت استشارية ومقصورة على ما يرى الخديوي أنه يرغب أن يستطلعه في شأنه. ورغم ذلك، يمثل هذا المجلس واللائحتين الحاكمتين له المرة الأولى التي أقيمت فيها مؤسسات تشارك والي مصر في سلطاته الفردية والمطلقة، وهي السابقة الأولى في تاريخ مصر الحديث لمشاركة الشعب في إدارة شئون البلاد من خلال نواب منتخبين.
وقد استمر هذا التوجه نحو تقليص السلطات المطلقة للخديوي في السنوات التالية لإنشاء مجلس شورى النواب، وكان من أهم الخطوات المتخذة في هذا الاتجاه تأسيس أول وزارة في مصر – وكانت تسمى النظارة آنذاك – في 28 أغسطس 1878 برئاسة نوبار باشا بهدف مشاركة الخديوي في إدارة شئون البلاد، وهو ما اتضح بجلاء في الفرمان الصادر إلى نوبار باشا لتكليفه بتأليف ورئاسة مجلس النظار، حيث قال الخديوي: "أنني أروم القيام من الآن فصاعداً بالاستعانة بمجلس النظار والمشاركة معه، ويجب على مجلس النظار أن يتفاوض في جميع الأمور الملحة المتعلقة بالقطر ... وينعقد المجلس تحت رئاستكم لأني فوضت هذا التنظيم الجديد تحت عهدتكم وجعلت مسئولية الحكم عليكم".
وقد عدد المؤرخون الأسباب والعوامل التي ساهمت في إحداث هذا التطور في الحياة السياسية في مصر. وفي مقدمة هذه الأسباب الضغوط التي مارستها الشخصيات المصرية التي أرسلت في بعثات تعليمية التي لأوروبا وعادت إلى مصر وهي معبأة بمبادئ الثورة الفرنسية ومؤمنة بالعديد من نظريات وأساليب الحكم التي كانت قائمة في أوروبا وعملت على تطبيقها في مصر. فسعى العديد من هؤلاء المبعوثين، الذي كوّنوا النخبة العملية والمثقفة في المجتمع المصري، لنقل تجاربهم إلى مصر ولتطوير نظام الحكم في البلاد، وهو ما شكل عامل ضغط على الخديوي ساهم في دفعه إلى تطوير نظام الحكم. وتواكبت هذه الدعوات الإصلاحية للمثقفين المصريين مع ضغوط مارستها بعض القوى الأوروبية – وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا – على الخديوي إسماعيل للحد من صلاحياته ولإعادة صياغة أسلوب وأدوات الحكم في مصر. ولم تكن هذه الدعاوى الأوروبية مخلصة أو نابعة من رغبة صادقة في تأسيس حياة نيابية في مصر، وإنما ارتبطت أساساً برغبة تلك الإمبراطوريات في التوسع الاستعماري على حساب الإمبراطورية العثمانية المتهالكة، وأطماعها للسيطرة على مصر بموقعها الجيواستراتيجي، ولاهتمامها ببسط نفوذها على قناة السويس التي تعد أحد أهم الممرات المائية والنقاط الحيوية في العالم. وقد أخذت هذه القوى من ارتفاع ديون مصر تكأة للتدخل التدريجي في شئون مصر وبسط وصايتها على الحكومة المصرية، ففرضت على الخديوي إسماعيل وخلفه توفيق تعيين مستشارين بريطانيين وفرنسيين في النظارات المصرية، وألزمت النظار المصريين بالانصياع لتوجيهات هؤلاء المستشارين الذين كانوا ينفذوا الأوامر الصادرة لهم من حكومات بلادهم.
وبذلك تحولت مصر للمرة الأولى في تاريخها الحديث من حكم فردي مطلق تجمعت فيه كافة الصلاحيات في يد شخص واحد إلى نظام فيه مؤسسات أخرى تتقاسم مع الحاكم مسئولياته، حيث أصبح لمصر مجلساً للنواب – وإن كانت صلاحياته محدودة – يزاحم الخديوي في سلطته ويشاركه في إدارة الدولة المصرية. كما تأسست في مصر نظارة تُشارك الخديوي في تسيير دفة البلاد وتُشرف على إدارة الهيئات والمؤسسات الحكومية وتتمتع بقدر من الاستقلالية عن الخديوي. واستمر الحكم بهذا النظام إلى أن وقعت أزمة سياسية في يونيو 1879 بدأت بمطالبات من أعضاء مجلس شورى النواب بأن تكون لهم صلاحيات في مراقبة عمل النظارة ومساءلتها، مما أدى إلى استقالة نوبار باشا من رئاسة مجلس النظار ورفع لائحة بمطالب النواب إلى الخديوي إسماعيل لتعديل لائحتي 1866 لمنح النواب السلطات التي يبتغونها، وهو المطلب الذي استجاب له الخديوي جزئياً من خلال تعيين شريف باشا كناظر للنظار لإعداد مشروع لائحة تأسيسية جديدة تكون بمثابة دستور يرسي أسس الحياة الديمقراطية في مصر من خلال نظام برلماني يقوم تحت ولاية الخديوي الذي يحدد الدستور سلطاته. وفي هذه اللحظة تدخلت الدول الأجنبية التي لم ترد لمصر أن تُنشئ نظاماً سياسياً يمكنها من ملك زمام أمرها وأن تستقل بإرادتها بما يسمح للمصرين أن يتصدوا لنفوذ هذه القوى الأوروبية ويهدد مصالحها الاستعمارية في مصر، فعزل الخديوي إسماعيل ونصّب بدلاً منه نجله الأمير توفيق وألغي مشروع لائحة 1879.
وعادت مصر مجدداً إلى المنهج الفردي السلطوي في الحكم بتأييد من القوى الأجنبية، وهو ما ساهم في تأجيج غضب المصريين وأدى إلى ظهور حركات وتنظيمات سياسية معارضة لاستبعاد مجلس شورى النواب من السلطة والعودة لتركيز السلطات في يد الخديوي. ووصلت هذه الاحتجاجات إلى ذروتها مع ثورة أحمد عرابي التي طالبت بعودة الحياة الدستورية وزيادة حجم ومرتبات الجيش. وفرضت هذه الأوضاع والاحتقان المجتمعي الذي صاحبها على الخديوي أن يدعو مجلس النواب للانعقاد وفق لائحة 1866 على أن يتولى المجلس بحث تعديل اللائحة. وبالفعل صدق الخديوي توفيق على اللائحة المعدلة التي اتفق عليها النواب، والتي عُرفت بدستور 1882 والذي تضمن العديد من الأفكار التي حملها مشروع لائحة 1879 الملغاة كحق المجلس توجيه الأسئلة للحكومة واستفراد المجلس بحق تعديل الدستور وإقرار حرية الأعضاء في آرائهم. لذا، يعتبر الفقهاء دستور 1882 أول دستور مصري جاء كعقد اجتماعي وسياسي بين حاكم مصر والشعب، حيث أعد نواب الشعب المنتخبين الدستور ووافق عليه الخديوي. وأسس هذا الدستور لنظام برلماني حقق توازن نسبي بين السلطات وفتح الباب للرقابة الشعبية على عمل الدولة المصرية.
وللأسف، تدخلت القوى الأوروبية مجدداً لوأد التجربة الديمقراطية المصرية في مهدها، حيث بعثت بريطانيا وفرنسا بمذكرة إلى الخديوي لطلب إقالة النظارة والتي كان يرأسها محمود سامي البارودي وشغل فيها منصب ناظر الحربية أحمد عرابي. وعندما قبل الخديوي بتلقي المذكرة تقدمت الحكومة باستقالتها اعتراضاً على التدخل الأجنبي في شئون البلاد. ولم تمر سوى أسابيع حتى وقعت مصر تحت الاحتلال البريطاني بذريعة حماية الاستقرار في البلاد من تمرد الجيش الذي قاده أحمد عرابي ولصيانة المواصلات الإمبراطورية التي تعتمد على قناة السويس، وهو الاحتلال الذي ظل جاثماً على قلوب الأمة المصرية إلى أن تحقق جلاء كل القوات البريطانية عن مصر في 1956.
وقد شهدت حقبة الاحتلال البريطاني الكامل لمصر والممتدة من يوليو 1882 إلى فبراير 1922 عندما منحت مصر استقلالاً منقوصاً من بريطانيا بدء تكوين الأحزاب والجمعيات السياسية في مصر، وهي الكيانات التي ولد معظمها من رحم التنظيمات والتشكيلات المطالبة بتوسيع هامش الحرية السياسية في مصر التي تأسست في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، والتي أشرنا إليها آنفاً. وكان أبرز هذه الأحزاب الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل في 22 أكتوبر 1907 في الإسكندرية وخلفه إلى رئاسته محمد فريد في عام 1908. وكان الهدف الأساسي للحزب هو إنهاء الاحتلال ومقاومته من خلال تأليب الرأي العام على الوجود البريطاني وتنظيم المظاهرات والوقفات الاحتجاجية المطالبة بجلاء الإنجليز. كما طالب الحزب الوطني بإقامة حياة ديمقراطية على أساس دستور يقلص صلاحيات الخديوي وينشئ مجلساً نيابياً ويكلف الوزارة بإدارة شئون البلاد. وقد تمتع الحزب الوطني بشعبية ملموسة في أوساط المجتمع المصري، وخاصة بين الطلاب وأبناء الطبقة الوسطى لكونه المعبر الرئيسي عن حلمهم في استقلال بلدهم وإقامة نظام سياسي يتيح لهم المشاركة في الحكم.
في المقابل، ظهرت تشكيلات حزبية أخرى ترتكن لتأييد ودعم طوائف اجتماعية متعددة، وإن كانت تتفق كلها على معارضة الحزب الوطني وسياساته وطرح أفكار بديلة لمنهجه الداعي للتصدي للاحتلال البريطاني. ومن أبرز هذه الأحزاب حزب الأمة الذي تأسس في سبتمبر 1907 بإيعاز من المعتمد البريطاني (وهو اللقب الذي كان يطلق على السفير البريطاني آنذاك)، والذي كان في مقدمة قياداته المفكر الكبير أحمد لطفي السيد. وكان هذا الحزب معبراً وممثلاً للنخبة الاقتصادية وللصفوة الاجتماعية، وكان يرى أن السبيل لتحقيق الاستقلال ليس من خلال مواجهة المحتل والتصدي له، بل من خلال رفع مستوى التعليم والوعي لدى المصريين وإعدادهم لإدارة شئون بلادهم، حيث اعتبر أعضاء هذا الحزب أن الاحتلال جاء نتيجة لضعف الكفاءات الوطنية وهو ما يستلزم إعداد الكوادر القادرة على تولي مسئوليات الحكم قبل المطالبة بالاستقلال. وبجانب حزب الأمة، تشكلت أحزاب أخرى، كحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية، والذي تحالف مع الخديوي ودافع عنه في مواجهة الأحزاب المطالبة بالحد من صلاحياته، والحزب الوطني الحر الذي طالب بالتحالف مع المحتل البريطاني وعدم استعدائه لأن ذلك هو الطريق الأفضل لتحقيق التقدم في مصر.
والملاحظ من هذه الإطلالة السريعة أن المشهد السياسي والحزبي في مصر في مطلع القرن العشرين اتسم بعدة ملامح، أهمها أن الأحزاب انقسمت إلى قسمين، أولهما قائم على تأييد ومساندة من الطبقة الوسطى، وثانيهما ظهر بتأييد بل وفي بعض الأحيان بإيعاز من الاحتلال أو السلطة الحاكمة، وهي أحزاب اعتمدت بالأساس على دعم الطبقة الارستقراطية المتحالفة مع القصر. واستمر هذا النمط في الحياة الحزبية في مصر إلى منتصف القرن العشرين وحتى قيام ثورة يوليو 1952، حيث كان هناك حزب واحد رئيسي يمثل التيار الوطني الذي يتمتع بتأييد كبير وشعبية جارفة، وهو حزب الوفد، ويقابله على المسرح السياسي أحزاب وتيارات سياسية أخرى نشأ كثير منها بدعم من القصر أو من السفارة البريطانية. والسمة الأخرى التي اتسم بها المشهد السياسي المصري هو ثبات وعدم تغير الموضوعات المطروحة على الأجندة السياسية، حيث استأثر موضوعان رئيسيان على اهتمام كافة القوى السياسية، وهما أولاً كيفية التعامل مع المحتل البريطاني وموقف هذه القوى من الدستور، وثانياً شكل وطبيعة وملامح نظام الحكم الذي يجب أن يُقام في مصر. وقد تبنت القوى الوطنية الداعية للتصدي للمحتل البريطاني – كالحزب الوطني وبعده حزب الوفد – الرأي المطالب بتقليص صلاحيات الخديوي (أو الملك في حالة الوفد) وتأسيس نظام نيابي يقوم على برلمان منتخب من الشعب. وفي المقابل، دافعت الأحزاب الأخرى عن سلطة الخديوي والملك من بعده، ورأت أن الأسلوب الأمثل للتعامل مع الوجود البريطاني في مصر هو التعاون معه حتى تتمكن من مصر من إدارة شئونها بنفسها.
ومن هنا، يمكن أن نخلص إلى أن هذه الأحزاب والتشكيلات السياسية لم تولد من رحم الممارسة السياسية البرلمانية كما هو الحال في دول أخرى، وخاصة في أوروبا. كما أنها لم تكتسب شرعيتها وشعبيتها من خلال خوض الانتخابات ولا عن طريق طرح برامج سياسية واقتصادية واجتماعية شاملة تعكس رؤية متكاملة لكيفية إدارة شئون الأمة المصرية. وإنما اقتصرت مواطن الاختلاف والتمايز الرئيسية بين هذه القوى على مدى تهاونها مع الاحتلال البريطاني وقدر تحالفها مع الخديوي أو الملك. وبالتالي، لم تتولد خلال هذه العقود الأولى من الحياة الحزبية المصرية تلك الثقافة السياسية التي تعد أساس الحياة النيابة السليمة، ولم تكن هذه الأحزاب معبرة عن مناهج إيديولوجية متباينة، ولم تتنافس على ولاء وأصوات الناخبين المصريين من خلال طرح رؤى وبرامج سياسية واجتماعية شاملة، ولم يتعود المصريون على الانخراط في العمل السياسي، ولم تنتشر ثقافة المشاركة في الانتخابات النيابية. وبطبيعة الحال، فإننا لا نلقي باللائمة لما اتسم به المشهد السياسي المصري في السنوات العشرين الأولى من القرن العشرين على الأحزاب والقوى السياسية التي تأسست في تلك الفترة، وإنما هو أمر نراه طبيعي نظراً لحداثة التجربة الحزبية في البلاد، والإرث التاريخي الذي يرجع لأكثر من قرن منذ تأسيس الدولة المصرية الحديثة على يد محمد علي باشا وهو إرث اتسم بالهيمنة المطلقة للحاكم على مقادير البلاد، ونتيجة للتدخلات المتكررة والسافرة لقوى الاحتلال الأجنبي في شئون مصر.
ثالثاً: الدساتير المصرية من 1923 إلى 1952:
(أ) استقلال مصر ودستور 1923:
ظلت مصر قانوناً، رغم احتلالها من قبل بريطانيا، إقليم خاضع للإمبراطورية العثمانية، وظل السلطان العثماني نظرياً متمتعاً بحقوق السيادة على مصر، واعتبر خديوي مصر بمثابة والياً مكلفاً بحكم البلاد من قبل الباب العالي في القسطنطينية. أي أنه منذ 1882، كانت مصر إقليمياً عثمانياً محتلاً من قبل بريطانيا العظمى، وهو الوضع الذي استمر إلى أن اندلعت الحرب العالمية الأولى، حيث قررت لندن، نظراً لانضمام الإمبراطورية العثمانية إلى قوى المحور المعادية لبريطانيا، إنهاء العلاقة القانونية التي كانت تربط مصر بالإمبراطورية العثمانية من خلال إعلان الحماية على مصر يوم 17 ديسمبر 1914، وذلك للحفاظ على المصالح البريطانية في مصر وعلى رأسها السيطرة على قناة السويس.
واستمر الوضع على هذا الحال إلى أن وضعت الحرب أوزارها واستسلمت قوى المحور، وهو ما دفع العديد من السياسيين المصريين للمطالبة بإنهاء الحماية البريطانية وبأن تنال مصر استقلالها. وتولت مجموعة من الرموز السياسية – في مقدمتها سعد باشا زغلول – تنظيم وفد لتقديم هذه الطلبات إلى السلطات البريطانية ولعرضها على مؤتمر الصلح المنعقد في فرنسا. إلا أن هذه الطلبات قوبلت برفض بريطاني وبتجاهل من قبل القوى الكبرى المجتمعة في مؤتمر الصلح، وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي اعترفت بالحماية البريطانية على مصر. كما أقدمت بريطانيا على نفي سعد زغلول وقيادات الوفد المصري إلى مالطا في محاولة لكبح جماح الحركة الوطنية المصرية المنادية بالاستقلال، وهي المحاولة التي باءت بالفشل وأدت إلى إشعال فتيل ثورة 1919 الشعبية التي طالبت بعودة أعضاء الوفد المصري وأكدت إصرار الأمة المصرية على تحقيق الاستقلال الكامل.
وفي محاولة منها لاحتواء الأزمة المشتعلة في مصر في أعقاب ثورة 1919 أرسلت بريطانية مع عرف بلجنة ميلنر للتباحث مع الزعماء المصريين في مستقبل مصر السياسي، إلا أن مقترحات اللجنة لم تلق قبول الزعماء السياسيين المصريين، مما ازداد الموقف تعقيداً. ونظراً لتمسك قيادات الحركة الوطنية المصرية بحقوق مصر المشروعة في الاستقلال وإنهاء الاحتلال البريطاني أقدمت لندن على نفي سعد زغلول وعدد من قيادات الوفد إلى جزيرة سيشل، وهو ما أجج الغضب الشعبي. ولذلك اضطرت بريطانيا في النهاية للرضوخ – ولو جزئياً – للمطالب الوطنية وأصدرت إعلاناً أحادي الجانب يوم 28 فبراير 1922 للاعتراف باستقلال مصر كمملكة ذات سيادة. وقام اللورد أللنبي – وهو المعتمد البريطاني في آنذاك – بإبلاغ الملك فؤاد الأول بأنه فيما يتعلق "بإنشاء برلمان يتمتع بحق الإشراف على السياسة والإدارة في حكومة مسئولة على الطريقة الدستوري، فالأمر فيه يرجع إلى عظمتكم وإلى الشعب المصري".
لذا، دعا الملك فؤاد الأحزاب السياسية الرئيسية في البلاد للاجتماع لوضع دستور جديد للبلاد، إلا أن حزبا الوفد والوطني رفضا المشاركة في اللجنة المقترح تشكيلها، وطالبا بانتخاب اللجنة التأسيسية المكلفة بوضع دستور للبلاد مباشرة من الشعب، وذلك لأنهما – وخاصة الوفد – كانا سيحظيان بأغلبية كاسحة من مقاعد اللجنة إذا شُكلت بالانتخاب. ومن جانبه، أصر الملك فؤاد على أن تعين اللجنة بدلاً من أن تنتخب وذلك ليضمن أنها ستراعي مصالحه وستأخذ وجهة نظره بشأن الدستور الجديد بعين الاعتبار. وبالفعل، عيّن الملك لجنة لإعداد الدستور عُرفت بـ "لجنة الثلاثين" والتي ترأسها حسين رشدي باشا، ضمت في عضويتها 4 وزراء سابقين، وتسعة من أعضاء المجالس النيابية، ومفتي الديار المصرية السابق، وممثل للطرق الصوفية، وخمسة أقباط، وعضو يهودي، وممثل للقبائل البدوية، بالإضافة إلى بعض من كبار العاملين بالجهاز الإداري للدولة وممثلين عن حزب الأحرار الدستوريين.
وأمضت اللجنة 6 أشهر في إعداد مشروعاً للدستور وانتهت منه في 21 أكتوبر 1922 ورفعته للعرض على رئاسة الوزراء والملك فؤاد. وفور الإطلاع على مشروع الدستور، أبدى الملك تحفظات على ما ورد به من نصوص، كما أعربت بريطانيا عن عدم ارتياحها إزاء بعض المواد الواردة في الدستور، وذلك رغم أنها تعهدت بترك مسألة إعداد الدستور لإرادة ملك مصر وشعبها. ومن جانبه، طالب الملك بتوسيع السلطات الممنوحة إياه بموجب الدستور بما يمكنه من ممارسة نفوذ أكبر على السلطتين التنفيذية والتشريعية. أما بريطانيا، فاعترضت على اللقب الممنوح للملك في مشروع الدستور، وهو "ملك مصر والسودان". وبالفعل، قامت لجنة من الخبراء القانونيين التابعين للجهاز الإداري للدولة بتعديل نصوص الدستور وإعادة عرضه على الملك، الذي وافق عليه وقام بإصدار الدستور المعدل بموجب الأمر الملكي رقم 42 والمؤرخ في 19 إبريل 1923. لذلك، يرى جمهور الفقهاء الدستوريين في مصر أن دستور 1923 صدر بطريق المنحة الملكية وليس عن طريق العقد الاجتماعي بين الحاكم والشعب، حيث لم يتم استفتاء الشعب حول الدستور ولم تنتخب اللجنة التي أعدته من قبل الشعب.
وقبل أن نمضي في تناول نصوص دستور 1923 ونظام الحكم الذي أقامه، نود استرعاء انتباه القارئ إلى ظاهرة خطيرة ستتكرر في مستقبل الأيام وسنتناولها أثناء استعراضنا للدساتير التي صدرت في مصر بعد سقوط الملكية، وهي ظاهرة قيام السلطة الحاكمة بمراجعة وتعديل المشروعات الدستورية التي تعدها الجمعيات التأسيسية المكلفة بإعداد الدساتير المصرية، وذلك حتى يضمن من هم في الحكم أن هذه الدساتير لا تنطوي على إنقاص أو تقويض لصلاحياتهم. فعلى سبيل المثال، تصرف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في عام 1954 بنفس الأسلوب الذي تصرف به الملك فؤاد في عام 1923، حيث أدخل الرئيس عبد الناصر تعديلات جذرية على مشروع الدستور الذي أعدته الجمعية التأسيسية المكلفة بإعداد مشروع دستور لمصر بعد ثورة 23 يوليو 1952، كما أمر الرئيس السادات معاونيه بمراجعة بعض نصوص دستور 1971 بعدما كانت الجمعية التأسيسية قد أنهت عملها لمنح الرئيس المزيد من السلطات. وبالتالي، علينا أن نستوعب هذا الدرس التاريخي، وأن نتحسب من أن يعبث القائمون على الحكم في مصر في الفترة المقبلة بالدستور الجديد الذي ستعده الجمعية التأسيسية المفترض أن ينتخبها مجلس الشعب، وأن يتأكد المصريون أن الدستور الذي سيعرض عليهم للاستفتاء سيكون هو الذي أعدته الجمعية التأسيسية دون أن تعدله أو تمسه أي جهة في الدولة.
أما إذا انتقلنا إلى دستور 1923 ذاته واستطلعنا نظام الحكم الذي أقامه، سيتضح أنه أسس لنظام برلماني في ظل ملكية دستورية، فنص في مادته الأولى على أن "مصر دولة ذات سيادة، وهي حرة مستقلة، ملكها لا يجزأ ولا ينزل عن شيء منه، وحكومتها ملكية وراثية، وشكلها نيابي". ومن الناحية النظرية، يفترض أن يكون الملك في النظم الملكية الدستورية مجرد رئيساً رمزياً للدولة دون أن تكون له صلاحيات تنفيذية فعلية، فيما تباشر الحكومة المنتخبة من قبل الشعب مسئولية الحكم الفعلية تحت رقابة البرلمان. ورغم أن المشرع الدستوري المصري سعى لتطبيق هذه النظرية في دستور 1923، إلا أن شكل النهائي الذي صدر عليه الدستور أقام علاقة بين كل من الملك والحكومة والبرلمان تختلف بعض الشيء عن الشكل النموذجي للملكيات الدستورية. ويتجلى ذلك في الحقوق التي منحها الدستور للملك والمسئوليات التي أناطه بها، فبجانب جعل الملك رئيساً أعلى للدولة والتأكيد على أن "ذاته مصونة لا تمس"، وهو أمر طبيعي ويتفق مع المنهج الملكي الدستوري، وأناط به عدداً من المسئوليات السياسية المرتبطة بإدارة الدولة، ومنها قيادة القوات المسلحة وإعلان الحرب، وإعلان الأحكام العرفية، ومنح الرتب والنياشين وألقاب الشرف، ووضع اللوائح اللازمة لتنفيذ القوانين، وترتيب المصالح العامة. هذا بالإضافة إلى بعض المسئوليات المرتبطة بالعملية التشريعية، كإصدار القوانين، وحل مجلس النواب، والاعتراض على القوانين التي يقرها البرلمان بمجلسيه، وتعيين خمسي أعضاء مجلس الشيوخ. وتجدر الإشارة إلى أن مشروع الدستور الذي أعدته لجنة الثلاثين وعرضته على الحكومة والملك كان قد نص على قيام هذا الأخير بتعيين 30 عضواً من أعضاء مجلس الشيوخ، إلا أن الملك نجح في زيادة هذه النسبة إلى خُمسي أعضاء المجلس، وهو ما منحه واقعياً حق الاعتراض النهائي أو "الفيتو" على القوانين الصادرة من البرلمان، وذلك لأن دستور 1923 نص على أنه في حالة اعتراض الملك على قانون وافق عليه البرلمان، فإنه يعاد القانون إلى البرلمان ولا صدر إلى بموافقة ثلثي أعضاء مجلسي البرلمان، وهو ما كان سيصعب تصور حدوثه في ضوء تعيين الملك لخُمسي أعضاء مجلس الشيوخ.
أما مجلس الوزراء، فقد جعله الدستور – تماشياً مع النظرية التي يفترض أن تقوم عليها النظم الملكية الدستورية – "المهيمن على مصالح الدولة" ، وهو ما ترجم في اشتراط توقيع رئيس الوزراء والوزراء المختصين على توقيعات الملك الصادرة في شئون الدولة، بالإضافة إلى النص على أن يتولى الملك سلطاته بواسطة وزرائه. وفي مواجهة هذه المسئوليات والسلطات التي أوكلها الدستور لمجلس الوزراء، منح البرلمان مجموعة من الصلاحيات التي تمكنه من مراقبة أداء الوزارة ومساءلتها ومحاسبتها سياسياً. فأتيح لجميع أعضاء البرلمان بمجلسيه توجيه الأسئلة والاستجوابات للوزراء، وإجراء التحقيقات البرلمانية. كما أتاح الدستور لمجلس النواب أن يقرر مسئولية أي من الوزراء أو أن يسحب الثقة من مجلس الوزراء برمته. أما المسئوليات الأخرى التي أناط دستور 1923 البرلمان بها، فترتبط بسلطة التشريع وسن القوانين، بالإضافة إلى مجموعة من السلطات المتعلقة بالإدارة المالية للدولة، كالموافقة على إنشاء وجباية الضرائب، وإقرار ميزانية الدولة، واعتماد الحساب الختامي للدولة.
أما بالنسبة للحقوق والحريات الأساسية، فيلاحظ أنه خلافاً لما جرت عليه العادة في الدساتير المصرية الصادرة إبان العهد الجمهوري، فقد جاء باب "حقوق المصريين وواجباتهم" في مقدمة الدستور لا يسبقه سوى المادة الأولى التي تقرر استقلال الدولة وسيادتها. ويعتبر دستور 1923 أول وثيقة دستورية مصرية تتضمن كشفاً مفصلاً بالحريات العامة التي يتمتع بها الشعب والتي وجب على الدولة احترامها وصيانتها. ويسترعي الانتباه في نوعية الحقوق التي قررها الدستور تركزت بالأساس على الحقوق المدنية والسياسية، والتي تهدف إلى الحد من تدخل الدولة في حياة المواطنين ومنحهم هامش واسع من الحرية لتنظيم شئونهم. فقد نص الدستور على أن المصريين "متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، فيما عليهم من الواجبات والتكليفات العامة لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين". كما كفل الدستور مجموعة من الحقوق الأساسية، كحرمة المنازل، والملكية الخاصة، وإنشاء الجمعيات، وتضمن سلسلة من الحريات العامة، كحرية الرأي والتعبير، والعقيدة وممارسة الشعائر الدينية . أما بالنسبة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فلم تحظ بنفس القدر من الحماية الدستورية بالحقوق المدنية والسياسية، وهو ما يمكن أن نعزوه إلى أن الفكر الدستوري والقانوني في بداية العشرينيات من القرن الماضي لم يكن قد اعترف بعد بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كحقوق يمكن أن تترتب عليها مراكز قانونية وأن ينص عليها في الدستور، وإن كان دستور 1923 قد ألزم الدولة لتوفير التعليم المجاني للبنين والبنات في المدارس العامة.
ويتضح مما تقدم أن دستور 1923 كان تقدمياً إلى حد بعيد وأدخل إلى مصر العديد من خصائص نظم الحكم الديمقراطية الليبرالية القائمة على الفصل بين السلطات وإقامة التوازن بينها والحد من سلطات وصلاحيات رأس الدولة وإعلاء مبدأ الرقابة القضائية على عمل السلطتين التشريعية والتنفيذية. كما أرسى الدستور مبدأ مسئولية الوزارة ووضع أسس رقابة البرلمان بمجلسيه على عملها. ويضاف إلى ذلك الخطوات الهامة التي حققها دستور 1923 في سبيل حماية وصيانة الحقوق والحريات الأساسية للمصريين. حيث أسس لرقابة السلطة التشريعية على الحكومة ومنح أعضاء مجلس النواب الحق في توجيه الأسئلة إلى الحكومة واستجواب الوزراء وفق مبدأ المسئولية السياسية للحكومة وأكد على أن عضو مجلس النواب يعد ممثلاً للأمة كلها وليس الناخبين في دائرته فحسب. كما انعكست مبادئ الملكية الدستورية من خلال إقرار ممارسة الملك لسلطاته من خلال الوزراء وليس مباشرة، حيث نصت المادة 57 من الدستور على أن "مجلس الوزراء هو المهيمن على مصالح الدولة"، فضلاً عن اشتراط توقيع رئيس مجلس الوزراء على قرارات الملك المتعلقة بشئون الدولة حتى يسري مفعولها. كما تم تحديد السلطات التشريعية للملك في المصادقة على القوانين قبل إصدارها وليس سنها مباشرة، مع الاحتفاظ للبرلمان بمجلسيه بحق إصدار قوانين رفضها الملك بعد موافقة ثلثي الأعضاء بالمجلسين. كما أقر الدستور مبدأ استقلال القضاء وحصانته من تدخل السلطات التشريعية أو التنفيذية في عمله.
(ب) دستور 1930:
مع بدء العمل بدستور 1923 ظهرت الخلافات بين الأطراف الثلاثة الأبرز على المسرح السياسي، وهي القصر الملكي وحزب الوفد والسفارة البريطانية. فسعى القصر باستمرار للالتفاف على الدستور، وتدعيم نفوذه وبسط سطوته على المشهد السياسي، والتصدي للشعبية الجارفة التي تمتع بها حزب الوفد. ومن جانبه، حاول الوفد استثمار هذه الشعبية التي حظي بها للقباء في الحكم، ولتسيير دفة البلاد بالشكل الذي يراه مناسباً، وللتصدي للملفات السياسية الأهم المطروحة على الساحة، وفي مقدمتها كيفية إنهاء الوجود العسكري البريطاني في مصر. أما السفارة البريطانية، فقد عملت على صون مصالحها في مصر، وضمان عدم تهديد أي من القوى السياسية لمركزها العسكري ونفوذها السياسي في مصر. وقد أدى الصراع المحتدم بين هذا الثالوث السياسي إلى إفساد الحياة السياسية في مصر، وهو ما تجلى في عدد من الأزمات السياسية التي عصفت بالبلاد، والتي تطورت في بعض الأحيان إلى انقلابات على الشرعية الدستورية.
وتعتبر الأزمة السياسية التي وقعت بين القصر وحزب الوفد في منتصف عام 1930 هي الأخطر التي شهدتها البلاد خلال السنوات الأولى لتطبيق دستور 1923، حيث شب خلاف بين الملك فؤاد ورئيس الوزراء آنذاك وزعيم حزب الوفد مصطفى باشا النحاس حول عدة أمور كان من بينها إدارة المفاوضات مع الجانب البريطاني، وتعيين بعض أعضاء مجلس الشيوخ، وقانون محاكمة الوزراء المتهمين بمخالفة الدستور. ومع احتدام الخلاف بين القصر والوزارة، قرر الوفد الاستقالة يوم 19 يونيو 1930، وقام الملك في نفس اليوم بتكليف إسماعيل صدقي باشا بتأليف حكومة جديدة بغرض معاونته في تحقيق مآربه السياسية. وبالفعل انصاعت الوزارة للتوجيهات الملكية وأقدمت على فض الدورة البرلمانية في مخالفة صريحة لأحكام دستور 1923، وهو ما أغضب الوفديين وأثار سخط الرأي العام. ولذلك، ورغبة منه لتجاوز عقبة الدستور التي كانت تقف حائلاً أمام أطماعه في الإنفراد بالسلطة، أقدم الملك فؤاد على إلغاء دستور 1923 وإصدار دستور جديد في 22 أكتوبر 1930.
وجاء التبرير الملكي لإلغاء دستور 1923 ليحمل في طياته المزيد من الاستخفاف بالشعب المصري وقدرته على إدارة العملية الديمقراطية السليمة والإدعاء بأن الأحزاب السياسية فصلت في تحقيق آمال الشعب المصري، حيث أشار الملك فؤاد إلى أن "دستور 1923 يعتبر صورة سوية لما بلعته الديمقراطية في أوروبا في العصر الحاضر، مع أن الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في مصر – خصوصاً من حيث التعليم ونوع الثروة العامة وتوزيعها – لا تشبه كثير أحوال البلاد التي تنقل عنها، ومن ثم فلم يحقق ما عقد عليه من الآمال". وسيلاحظ القارئ أن الدفع بعدم استعداد الشعب لممارسة الديمقراطية وبغياب البيئة اللازمة لإطلاق حرية العمل السياسي وبنقص التعليم والثقافة من الحجج التي دوماً ما تسوقها النظم غير الديمقراطية لتبرير استمرارها في الحكم ولتباطئها في القيام بالإصلاحات السياسية اللازمة لإرساء حياة سياسية ديمقراطية في البلاد. وسيتذكر القارئ التصريحات الشهيرة للسيد اللواء/ عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية السابق بعد توليه منصب نائب رئيس الجمهورية أثناء ثورة 25 يناير والتي ذكر فيها – بشكل يكاد يطابق لهجة الملك فؤاد – أن المجتمع المصري ليس مستعداً بعد للديمقراطية، وهي التصريحات التي أساءت إليه وساهمت في الحد من شعبيته وأطاحت بفرص أن يقبل الشارع المصري به كبديل ولو بشكل مؤقت للرئيس السابق.
وكان الهدف الرئيسي الذي سعى إليه القصر من خلال إصدار دستور 1930 هو الحد من صلاحيات البرلمان بمجلسيه وتقويض حرية الحركة الممنوحة للوزارة وإعادة الكثير من السلطات المطلقة التي كان الملك يتمتع بها قبل سريان دستور 1923. ورغم أن الدستور 1930 تضمن العديد من مواد ومبادئ دستور 1923، إلا أنه أخل بالتوازن بين السلطات من خلال تقوية السلطة التنفيذية، وتعضيد صلاحيات الملك على حساب البرلمان. ومن أهم التعديلات التي أدخلها دستور 1930 على نظام الحكم تثبيته للحق المطلق للملك لتعيين خُمسي أعضاء مجلس الشيوخ، والتوسع في سلطة الملك لإصدار القوانين الاستثنائية في أوقات حل مجلس النواب أو عدم انعقاده دون إلزام الملك بدعوة المجلس للانعقاد لإقرار هذه القوانين كما كان الحال في ظل دستور 1923، وزيادة الفترة المنقضية بين حل مجلس النواب والدعوة لانتخابات جديدة لتشكيل مجلس جديد إلى 3 أشهر بعدما كانت شهرين في دستور 1923 . والخلاصة إذن أن دستور 1930 جاء بمثابة انقلاب ملكي على الدستور وعلى العميلة السياسية.
وأدى هذا الانقلاب الذي قاده القصر وأيدته الأحزاب والقوى السياسية المتحالفة مع الملك وباركته السفارة البريطانية إلى زعزعة الاستقرار في البلاد. وتعاقبت على الحكم وزارات ترتكن حصيراً إلى دعم القصر الملكي وليس على الشعبية أو الشرعية، وهو ما أثار الاستياء الشعبي وتسبب في انتشار الاحتجاجات المناهضة للحكومات، والتي توجت بسلسلة من المظاهرات في منتصف عام 1935 وصلت إلى حد الدعوة للإضراب العام في نوفمبر من نفس السنة. وقد دفعت هذه الأحداث الملك للرضوخ للمطالبات التي قادها حزب الوفد وغيره من القوى وأديتها الجماهير للعودة إلى دستور 1923، وهو ما تم في 12 ديسمبر 1935 بموجب مرسوم ملكي ألغى دستور 1930 وأعاد العمل بدستور 1923، وهو ما استمر إلى أن أسقط الدستور بعد قيام ثورة يوليو 1952.
رابعاً: تقييم التجربة الدستورية المصرية من 1923 إلى 1952:
في ضوء ما تقدم من عرض مختصر لنشأة ومضمون دستوريّ 1923 و1930 والظروف السياسية التي واكبت إصدارهما وأهم ملامح نظم الحكم التي قامت في ظل هذين الدستورين، يمكن أن ندوّن بعض الملاحظات على هذه الحقبة من تاريخ مصر الحديث ونرصد بعض الأخطاء التي وقعت إبان هذه الفترة والدروس المستفادة التي يتعين أن نعيها كمصريين ونحن مقبلون كأمة في تأسيس وتشييد الجمهورية المصرية الثانية.
من الناحية النظرية، كان دستورا 1923 و1930 أكثر الدساتير المصرية ليبرالية إذا ما قورنا بكل من الوثائق المنظمة لشكل الحكم في مصر منذ تبوء محمد علي باشا الولاية في مصر وبالدساتير التي صدرت منذ إعلان الجمهورية المصرية الأولى في أعقاب ثورة 23 يوليو 1952. ويتجلى ذلك في الأخذ بالنظام النيابي البرلماني القائم على التوازن بين السلطات – حتى وإن اختل هذا التوازن في ظل دستور 1930 – وإقرار المسئولية السياسية للحكومة، ورقابة السلطة التشريعية على أعمال السلطة التنفيذية، وإعلاء مبدأ سيادة القانون، وصون استقلال القضاء. كما كفل هذان الدستوران الحقوق والحريات الأساسية التي تضمن الحد الأدنى من الحياة الكريمة للإنسان المصري. إلا أن الخبرة العملية والتجارب التي مرت بها دول أخرى تُعلمنا أن الدساتير والقوانين لا تعمل بمعزل عن البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تنشأ فيها. فتقييم التجربة الدستورية المصرية في الفترة من 1923 إلى 1952 لا يمكن أن يعتمد حصرياً على مراجعة نصوص الدساتير وتقييمها من الناحية النظرية والقانونية. وإنما يتعين النظر إلى مجمل الحياة السياسية في مصر خلال هذه السنوات، ورصد الأثر الذي تركته هذه الدساتير على المجتمع، وتقييم مدى التطور الذي طرأ على العملية السياسية، وتحديد قدر نجاح النخبة الحاكمة في تلبية متطلبات واحتياجات الأمة بأسرها. ويستلزم التقييم الموضوعي والعلمي لهذه الحقبة المهمة من التاريخ المصري الحديث ألا نحكم عليها بمعايير اليوم أو بمعزل عن الظروف السياسية القائمة والواقع الاجتماعي السائد آنذاك، فالتاريخ، في نهاية المطاف، ما هو إلا "حركة متدفقة يرتبط فيها الماضي والحاضر والمستقبل برباط وثيق".
وفي هذا الإطار، فإنه يمكن أن نسجل عدداً من الإيجابيات والإنجازات التي حققها النظام الدستوري والسياسي القائم في مصر خلال السنوات الممتدة من 1923 إلى 1952. وفي مقدمة هذه النجاحات أن دستور 1923 والنظام الحكم الذي أسسه جاء كتتويج لمسيرة كفاح طولية خاضتها الأمة المصرية من أجل إقامة نظام سياسي لا يرتكن إلى السلطة المطلقة لحاكم لا تنازعه ولا تقاسمه جهة في حكمه للبلاد. فإذا كانت اللائحة الأساسية التي أصدرها الخديوي إسماعيل عام 1866 وما تبعها من تشكيل لأول نظارة في عام 1878 قد وضعا اللبنة الأولى لمبدأ الحد من السلطة المطلقة لحاكم مصر، فإن دستور 1923 أسس نظاماً سياسياً متكاملاً يقوم على مؤسسات دستورية تتقاسم فيها بينها سلطات الحكم. ورغم أن هذه أمور تبدو عادية وطبيعية لنا اليوم، إلا أنه لا يجب أن نستهين بحجم الإنجاز التاريخي الذي يمثله دستور 1923، فهو بمثابة صفحة جديدة في تاريخ بلد حكمه لأكثر من قرن ولاة وخديويين وسلاطين وملوك لم ينازعهم أحد في ملكهم، وهو إنجاز ما كان ليتحقق لولا ثورة 1919 التي قام بها الشعب المصري لانتزاع استقلاله وحريته.
ويحسب كذلك لسنوات ما يعرف بالحقبة الليبرالية أنها شهدت ترسيخ وتعميق روح الوحدة الوطنية بين المصريين، وعززت من قوة ومتانة بنيان الأمة المصرية من خلال توثيق العلاقة بين أقباط مصر ومسلميها، وهي الروح التي بعثتها ثورة 1919 التي شهدت انصهار المصريين في بوتقة الوطنية واتحادهم وراء الأهداف التي اجمع عليها الشعب، وفي مقدمتها تحقيق الاستقلال الكامل وجلاء المحتل البريطاني. وقد انطبعت روح ثورة 1919 على شكل الدولة التي أقيمت في أعقابها، فأعلي مبدأ الدولة المدنية وترسخت قيمة المساواة بين المصريين وعدم التمييز بينهم على أساس الدين أو العقيدة.
كما يتعين علينا الاعتراف أنه إذا نظرنا إلى النظام السياسي القائم خلال السنوات الممتدة من 1923 إلى 1952 في سياقه التاريخي وقارنه بما سبقه ولحقه من أنظمة حاكمه، فإنه سيتبين لنا أن المجتمع المصري تمتع بقدر كبير وهامش واسع من الحقوق الأساسية والحريات العامة التي ضمنتها دساتير تلك الحقبة. ولا ينفي هذا وقوع انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في هذه الفترة، وإقدام العديد من الحكومات على تضييق الخناق على معارضيها، إلا أنه يظل أن النخبة السياسية والمجتمعية استطاعت أن تنخرط في العمل العام بقدر كبير من الحرية، كما أنها مارست حريتي الرأي والتعبير بشكل يتجاوز بكثير ما كان قائماً في فترات تاريخية أخرى، وخاصة بعد قيام ثورة يوليو 1952.
وإذا كانت هذه أبرز الإنجازات التي تحققت خلال ما سميّ بالحقبة الليبرالية في التاريخ المصري الحديث، وأهم الإيجابيات التي شهدتها مصر خلالها، فإن الحقيقة التاريخية تظل أن النظام الذي تأسس في أعقاب ثورة 1919 والذي أقامه دستور 1923 أسقطه الجيش في حركة عسكرية تحولت إلى ثورة شعبية بعدما أيدتها جموع الشعب المصري. فلماذا سقط هذا النظام؟ وما هي أوجه القصور التي شابت بنيانه التي نزعت عنه الشرعية وأفقدته الشعبية؟ وفي نظرنا، فإن أهم الأسباب التي أودت إلى النظام الملكي في مصر إلى الهاوية – والتي يتعين علينا كمصريين أن نراعيها ونحن نرسم ونصوغ مستقبلنا – يمكن أن نوجزها فيما يلي:
(1) العوار الدستوري: رغم التقييم الإيجابي لدستوري 1923 و1930، إلا أن هذه الدساتير – وخاصة دستور 1923 الذي حُكمت البلاد بموجبه في معظم سنوات ما قبل ثورة يوليو – كان يشوب هيكلها وصياغتها بعض العوار الذي سمح بإساءة استغلال السلطة. فعلى سبيل المثال، كان النظام الدستوري يتبع منهج الدستورية الملكية التي يملك فيها الملك ولا يحكم، إلا أن السلطات التي مُنحت للملك جاءت مخالفة لذلك المنهج، فسمحت له صراحة بأن يدير بعض شئون البلاد، وان يتدخل في إدارة الدولة، وأن يعين بعض الموظفين العموميين. فيما جاءت بعض النصوص الأخرى الواردة في دستوري 1923 و1930 عامة ومبهمة بشكل مكّن القصر من تفسيرها وتطبيقها بشكل يوسّع من سلطاته ويغور على حقوق وصلاحيات السلطات الأخرى في الدولة، خاصة في السنوات التي تولت فيها الوزارة أحزاب مهادنة للملك ومتحالفة مع القصر.
إضافة لذلك، كان دستور 1923 يعاني من عيب أخطر وأعمق من غموض بعض نصوصه، والذي يتمثل في انفصامه عن الواقع السياسي للبلاد. فالدساتير ليست وثائق تعمل في فراغ، ولا يمكن أن تؤثر في حياة أمة إلا أذا كانت تعكس تاريخها وحاضرها، وهو ما أخفق دستور 1923 فيه. فقد كان هذا الدستور مستوحى من الدستور البلجيكي، إلا أن واضعو الدستور المصري لم ينتبهوا إلى أن نظام الحكم في بلجيكا وعلاقة الملكية بالمجتمع البلجيكي وموازين القوى بين الأحزاب والأقاليم المختلفة في بلجيكا لم تكن كنظيرتها في مصر. كما أن التجربة التاريخية في بلجيكا، والتي جعلت من دستورهم ملائم لبيئتهم، لم تكن قائمة في مصر. وبالتحديد، يعتبر أهم مواطن الاختلاف بين الحالتين البلجيكية والمصرية هو أن مصر لم يكن بها تعددية حزبية حقيقية في عام 1923، كما لم تكن رؤية المجتمع المصري للملك والملكية كمثيلتها في بلجيكا. فقد كان المطل على المشهد السياسي لا يجد سوى حزب أوحد يتمتع بشعبية جارفة وشرعية راسخة، وهو حزب الوفد، بالإضافة إلى قصر ملكي اعتاد لأكثر من قرن أن يحكم البلاد بشكل مطلق. وهذا كله تحت ضغط محتل أجنبي له مصالح حيوية في البلاد ويمارس نفوذ كبير على المسرح السياسي. لذا، فالظروف لم تكن مواتية في مصر للانتقال مباشرة إلى نظام حكم يملك فيه الملك دون أن يحكم، فيما تتركز السلطة الفعلية في يد سلطة برلمانية تقودها أحزاب تتبنى رُئى وإيديولوجيات متباينة تتداول السلطة فيما بينها.
لذا، حري بنا ونحن نعدُ دستوراً جديداً يقود مصر إلى نظام ديمقراطي سليم أن نحتاط من أن ندخل على الدستور عبارات أو نصوص تحتمل تأويل أو تفسير يتيح الالتفاف على أهداف ثورة 25 يناير 2011 أو يمكّن أي من السلطات أن تستأثر بصلاحيات الحكم. فالهدف الأسمى للدستور يتعين أن يكون حفظ الفصل والتوازن بين السلطات وإخضاعها كلها لرقابة القضاء المستقل وحماية الحقوق والحريات العامة.
(2) ممارسات الملك: كما أوضحنا فينا سبق، للتاريخ أثر كبير في تشكيل الحاضر ورسم ملامحه، وهو ما وضح بجلاء في تصرفات الملك فؤاد وابنه فاروق اللذان حكما مصر إبان الفترة الليبرالية. فقد وصلا إلى عرش مصر خلفاً لسلسلة طويلة ممن تمتعوا بسلطات مطلقة في حكم مصر. لذا، لم يكن من المستغرب أن يسعيا لان يحكما البلاد بنفس الأسلوب والصلاحيات التي حظي بها أبائهم وأجدادهم. وقد تجسد ذلك في تجاهل الملكين للدستور، وسعيهما الدءوب للالتفاف على أحكامه، ولمحاولاتهما المستمرة لإضعاف الحكومات التي تتمسك بنص وروح الدستور، ولإقدامهما المتكرر على حل مجلس النواب وتكليفهما أحزاب الأقلية بتشكيل الوزارات. وقد عانى حزب الوفد تحديداً من هذه الممارسات الملكية، والتي سعت لإضعاف الوفد ولتقليص نفوذه وشعبيته الطاغية في الشارع المصري. وقد فاقم من تغول القصر وافتئاته على صلاحيات السلطات الأخرى في الدولة وجود مجموعة من رجال الحاشية الذين عاونوا الملك فؤاد وبدرجة أكبر الملك فاروق على مخالفة الدستور والتوسع في صلاحياتهما.
(3) الأحزاب: رغم وجود عدد كبير من الأحزاب المصرية، وفي مقدمتها حزب الوفد، فإن واقع الحال أن هذه الأحزاب لم تكن تختلف عن بعضها البعض جذرياً، فمعظمها كان يعبر عن نفس الطبقة الاجتماعية والاقتصادية، كما أنها لم تكن تجسد توجهات إيديولوجية متعددة، فضلاً عن أنها كانت متفقة – ولو في مواقفها العلنية – على الهدف الرئيسي الذي اجتمع عليه المصريون في هذه الفترة، ألا وهو تحقيق الاستقلال الكامل. وكان التباين الرئيسي بين هذه الأحزاب يتلخص في ثلاثة نقاط رئيسية، أولها اختلاف الزعامات والقيادات، وثانيها في تكتيك وأسلوب تحقيق استقلال مصر، وثالثها علاقة هذه الأحزاب بالقصر الملكي ورؤيتها لكيفية تطبيق الدستور في البلاد.
فبالنسبة للاختلاف الأول بين أحزاب الحقبة الليبرالية، يتضح لنا أن معظم هذه الأحزاب كان المحرك الرئيسي وراء نشاطها يتمثل في الزعامات تاريخية والشخصيات القيادية الكاريزمية التي أسستها وقادتها، فعلى سبيل المثال لم يكن رئيس حزب الوفد مجرد رئيساً لأهم الأحزاب وأكبرها، وإنما لقُب سعد زغلول بـ "نبي الوطنية" وعُرف هو وخلفه مصطفى النحاس باشا بـ "زعيم الأمة" و"الرئيس الجليل". وفي المقابل، كانت الأحزاب الأخرى التي ظهرت في تلك الفترة مبنية أيضاً على قيادات معظمها منشق عن حزب الوفد بسبب خلافات أغلبها شخصي. فعلى سبيل المثال، انشق عدلي يكن باشا عن الوفديين وأنشئ حزب الأحرار الدستوريين، كما تأسست الهيئة السعدية في 4 يناير 1938 بعدما فُصلت مجموعة من قيادات الوفد على رأسها د. أحمد ماهر باشا والنقراشي باشا، فضلاً عن أن إنشاء الكتلة الوفدية المستقلة بزعامة مكرم عبيد باشا جاء نتيجة لفصله هو الآخر من الوفد في يوليو 1942. وبالتالي لم تكن هذه الأحزاب مبنية على ركائز مؤسسية متينة ولم تكن قائمة على دعائم إيديولوجية أو سياسية راسخة، وإنما شاب عملها المزيد من الشخصنة واتسم نشاط العديد من قيادتها بتغليب المصلحة الشخصية وضعف الالتزام الحزبي.
أما الجانب الآخر الذي ميز هذه الأحزاب عن بعضها البعض، فكان موقفها التكتيكي من كيفية تحقيق هدف استقلال مصر وجلاء القوات البريطانية. فقد تباينت مواقف هذه القوى إزاء شكل العلاقة بين مصر وبريطانيا وتوقيت وأدوات إخراج قواتها من مصر، فقد تراوحت هذه الواقف بين مهادن للوجود الأجنبي ومرحب بالتحالف مع بريطانيا (كالأحرار الدستوريين) وقابل بالتفاوض معها (تبنى الوفد هذا المنهج، وهو ما تجلى في إبرامه معاهدة 1936مع بريطانيا) وبين رافض له ومنادٍ بقتاله (ومن بينهم الحزب الوطني القديم والإخوان المسلمين).
ومما لا شك فيه أن التنافس الشخصي بين هذه الزعامات السياسية والتي طمحت كلها للوصول إلى سدة الحكم اختلط وامتزج مع تباين وجهات نظر هذه الزعامات إزاء كيفية التعامل مع القضايا السياسية الوطنية، فأثر العامل الأول على الثاني ووضح أنه في الكثير من الأحيان كانت النزعات الشخصية والتنافس فيما بين قيادات العمل السياسي في البلاد يحددان سياسات ومواقف هذه الأحزاب إزاء كافة القضايا المطروحة على الساحة السياسية آنذاك وفي مقدمتها كيفية التصدي للوجود البريطاني في مصر. ولذلك لم يكن من المستغرب أن يستغل كل من الملك والاحتلال البريطاني هذا المشهد السياسي لتحقيق أهدافهم وتعظيم نفوذهم في البلاد، فكان القصر يتحالف مع أحزاب لا تتمتع بشعبية تذكر للنيل من غريمة التقليدي حزب الوفد، فيما أقدم هذا الأخير في بعض المناسبات على التقارب من السفارة البريطانية للحد من نفوذ وسطوة القصر على الحياة السياسية.
هذا، وقد رصد المؤرخون كذلك كيف كانت الوزارات المتعاقبة تنقل خلافاتها وتنافسها من المسرح السياسي إلى أروقة مؤسسات الدولة المصرية، فكان من المعتاد أن تنكل الحكومات غير الوفدية بالمسئولين والموظفين المدنيين العاملين في أجهزة الدولة المنتمين أو المتعاطفين مع حزب الوفد، كما كان الوفد يعامل موظفي الدولة المحسوبين على أحزاب أخرى بنفس الشكل. هذا كله بالإضافة إلى التدخلات المتكررة للقصر لدعم من يدينون له بالولاء في الدواوين الحكومية. وبذلك أدى ذلك إلى ظاهرة خطيرة يتعين على القوى السياسية التي ستبزغ في الأعوام المقبلة أن تتجنبها، ألا وهي ظاهرة تسييس الجهاز الإداري والبيروقراطي للدولة. فعلينا كمصريين أن نعي أن الدولة ملك للشعب وخادمة له وأنها لا تمثل نظام أو حزب ولا تدين بالولاء لأحد سوى الوطن والأمة المصرية.
إضافة لما تقدم من ملاحظات عامة على أداء الأحزاب، فإنه يتعين أن نتناول باختصار أداء حزب الوفد وبعض الأخطاء التي وقع فيها والتي ساهمت في تهيئة الأجواء لسقوط النظام يوم 23 يوليو 1952. لم يكن حزب الوفد حزباً تقليدياً أسسته مجموعة من الأفراد جمعتهم إيديولوجية أو فكر أو مصالح وسعوا لتحقيقها من خلال العمل العام. وإنما كان الوفد عماد النظام السياسي القائم قبل قيام ثورة يوليو واعتبره المصريون تجسيداً للوطنية المصرية وتعبيراً عن تطوق المصريين للحرية ولتقرير مصيرهم. لذا، لم يكن غريباً أن يلتف المصريون حول لواء الوفد ويدعموه في مواجهاته مع القصر ومع السفارة البريطانية ويناصروه في الانتخابات التي خاضها. إلا أنه رغم هذه الشعبية والشرعية التي تمتع بها الوفد، فقد وقع الحزب في أخطاء أنقصت من رصيده في الشراع وأضعفته في مواجهة خصومه وساهمت في توفير المناخ المواتي لقيام الثورة. ومن هذه الأحداث إبرام معاهدة 1936 مع بريطانيا والتي رضي الوفد بمقتضاها أن تبقى قوات الاحتلال في قاعدتها العسكرية في منطقة قناة السويس. ورغم اقتناعنا بأن موازين القوى لم تكن لتسمح بعقد اتفاق مع بريطانيا يلبي كامل المطالب المصرية ويخرج القوات البريطانية عن الإقليم المصري، إلا أن المعاهدة وما نصت عليه من إضفاء للشرعية على الوجود البريطاني في مصر أدى إلى زوال الكثير من الفوارق بين الوفد وغيره من الأحزاب. فلم يعد الوفد يتميز بموقفه المبدئي الثابت المُطالب باستقلال البلاد والرافض للتفاوض على مبدأ سيادة مصر على كامل ترابها الوطني. ثم أتت أحداث فبراير 1942 وأضافت إلى تراجع مكانة الوفد لدى المصريين، فقد قبل "زعيم الأمة" مصطفى باشا النحاس بتشكيل وزارة بناء على إنذار بريطاني لملك مصر وحصار عسكري فرضته المدرعات البريطانية على قصر عابدين، وهو ما أهان المصريين وأصابهم في كرامتهم، فضلاً عما تركه ذلك من غصة وجرح عميق في نفوس رجال الجيش الذين طعنوا في كبريائهم لعدم تمكنهم من الذود عن مليكهم الذي أهانته قوات الاحتلال. ثم جاءت الانشقاقات المتعددة في صفوف الوفد، لتضيف إلى ضعفه وتخصم من رصيد زعيمه النحاس باشا. وأخيراً، يرى المستشار طارق البشري في مؤلفه المهم "الديمقراطية ونظام 23 يوليو" أن إقدام الوفد في أكتوبر 1951 على إلغاء معاهدة 1936 بعدما فشلت جولات التفاوض المتعاقبة بين الحكومات المصرية ونظريتها البريطانية بشأن إنهاء الاحتلال – رغم ما حظي به ذلك القرار من شعبية – ساهم هو الآخر في تهيئة الأجواء للإطاحة بالنظام وذلك لأن "الوفد بإلغائه المعاهدة وإقراره عدم شرعية الوجود البريطاني قد بلغ غاية ما يصل إليه الكفاح السلمي المشروع من مدى. ومع الاعتبار بأن هذه الصيغة كانت لصيقة بالنشاط الوفدي، وأن الحزب تكون بها وبنى مؤسساته وفقاً لها، فقد جاء إلغاء المعاهدة ليمثل عملاً يتخطى حدود الوفد وقدراته، لذلك تطورت الأحداث سريعة، تعبر عن أزمة الحكم والحياة السياسية كلها في مصر."
(4) الاحتلال البريطاني وسفارته: أما الطرف الثالث الذي ساهم في إفساد الحياة السياسية في مصر خلال هذه الفترة فكان الاحتلال البريطاني وسفارته التي تمتعت بنفوذ لا حدود له على المسرح السياسي المصري. فقد مارست السفارة البريطانية سياسة "فرق تسد" التي احترفها الإنجليز في مختلف مستعمرات إمبراطوريتهم، فكان قصر الدوبراة (مقر السفارة البريطانية في جاردن ستي) يسعى لمنع أي جهة أو حزب أو طرف سياسي مصري من الاستحواذ على ما يكفي من عناصر القوة أو الشعبية أو النفوذ بما يتيح له مناطحة أو تهديد الوجود والمصالح البريطانية في البلاد. فتارة تتحالف بريطانيا مع القصر ضد الوفد (كما حدث إبان إلغاء دستور 1923 وإصدار دستور 1930) وتارة تتآمر ضد القصر وتنحاز للوفد (والمثال على ذلك حادثة 4 فبراير 1942 الشهيرة التي أتت بالوفد للحكومة بناء على إنذار عسكري بريطاني للملك فاروق).
(5) عدم استقرار الحكم: أفضى كل ما تقدم من عوار دستوري، وممارسات أوتوقراطية لملكي مصر فؤاد وفاروق، وما اتسم به أداء الأحزاب السياسية من ضعف واختلال، والتدخل المستمر للمحتل البريطاني في شئون البلاد إلى اختلال أسس النظام السياسي وغياب الاستقرار عن الحكم في مصر. وقد تجلى ذلك في حقيقة أنه خلال السنوات التسعة والعشرين الممتدة من 1923 إلى 1952 تألفت 38 وزارة، أي أن متوسط عمر الوزارات المصرية كان حوالي 8 أشهر. وكما هو معروف، وصلت أحوال البلاد إلى أسوئها في الشهور الستة الأولى من عام 1952، حيث تولت الحكم 4 وزارات، بمعدل شهر ونصف لكل وزارة. ولم يختلف الحال فيما يتعلق بالسلطة التشريعية، فلم يكمل أي من مجالس النواب التي انتخبت خلال هذه الفترة – باستثناء المجلس الذي انتخب في 1945 – مدتها المقررة دستورياً. وبطبيعة الحال، أدت هذه الظاهرة إلى تآكل ثقة المواطن المصري في العملية السياسية في مصر، وأقنعت العديد من القوى السياسية – كالجيش – باستحالة انصلاح حلا المجتمع المصري في ظل النظام القائم، وأنه لا مناص من إسقاطه برمته وبكل عناصره وأطرافه وإعادة صياغة المجتمع والسياسية في مصر بشكل يلبي آمال وطموحات المصريين.
(6) حرب فلسطين: من المعروف للقارئ أن هزيمة الجيش المصري في حرب فلسطين التي امتدت لفترات متقطعة طوال عامي 1948 و1949 كان لها عظيم الأثر في الحكم على نظام ما قبل ثورة يوليو 1952 بالانهيار. فكان لهذه الحرب وما شهده ضباط الجيش المصري من سوء إدارة وضعف في التدبير من قبل قادتهم العسكريين والسياسيين ما دفعهم للاقتناع بأن النظام السياسي القائم في مصر برمته لم يعد قابلاً للإصلاح. كما كان لحرب فلسطين وما أحسه المصريين من إساءة استغلال وتلاعب بالجيش دور كبير في أثارة مشاعر وتعاطف جموع الشعب المصري مع الجيش عندما انقلب على النظام القائم. ويرجع ذلك لترسخ قضية فلسطين والدفاع عنها ضد المشروع الصهيوني في الوجدان المصري وارتباطها بتطلع المصريين للتخلص من المحتل البريطاني. فامتزج إحساس العداء للانجليز لاحتلالهم لمصر بالحنق تجاههم لمنحهم فلسطين لليهود بموجب وعد بلفور الشهير، وهو ما ترافق مع شعور عام بإخفاق وعجز النظام عن تحقيق أي من الهدفين: استقلال مصر والذود عن فلسطين.
(7) الإرث الثقافي للمجتمع المصري: يخطئ من يتصور أن الدساتير والقوانين هي الأساس الذي تقوم عليه النظم الديمقراطية الليبرالية. فالدساتير وغيرها من الوثائق ما هي إلا تعبير عن واقع سياسي واقتصادي وثقافي تعيشه الأمة التي صاغت هذه الصكوك القانونية. ومن هنا فإن ما حققته دول ومجتمعات غربية من تقدم على المسار السياسي ونجاحها في إرساء قواعد نظم سياسية تتسم بالانفتاح والتعددية وتعلي كلمة القانون وتقيم العدل بين الناس لم تأت من فراغ، وإنما جاءت نتاج صراعات طويلة ومريرة خاضتها هذه المجتمعات منذ العصور الوسطى فطنت في نهايتها إلى مجموعة من المفاهيم والمبادئ والقيم التي شكلت الأساس الفكري والإيديولوجي الذي قامت عليها النظم السياسية الموجودة الآن في أوروبا وأمريكا الشمالية.
ومن هنا، فإن أحد أهم أسباب سقوط الملكية في مصر ومعها النظام السياسي السائد خلال الحقبة الليبرالية في التاريخ المصري هو غياب هذا الإرث الثقافي والحضاري الذي شكل الأساس الفكري للنظم الحاكمة في الدول الغربية. فدستور 1923 ونظام الحكم البرلماني الذي أقامه جاءا إلى مصر في عملية استيراد مباشر لأفكار ومبادئ من دول غربية دون أن تكون الأرضية المجتمعية المصرية مستعدة أو مهيأة لاستقبال هذه المفاهيم والتفاعل معها. والأهم أن النخبة الفكرية والسياسية في مصر آنذاك لم تفلح في بذر بذور هذه القيم والمبادئ التي تشكل الإطار الفكري والنظري لنظم الحكم الديمقراطية، كما أخفقت تلك النخبة – رغم المحاولات والإسهامات المهمة لبعض المفكرين المصريين العظام – في جسر الهوة بين القيم السائدة في المجتمع المصري في مطلع القرن العشرين والمبادئ التي تتأسس عليها النظام الليبرالية في أوروبا.
وخلاصة القول إذن، أن وصف هذه الحقبة بالليبرالية لا يعكس بدقة وموضوعية واقع الحياة السياسية في مصر خلال الفترة من 1923 إلى 1952. فرغم وجود إطار دستوري يعتبر – مقارنة بما سبقه وما لحقه من دساتير – إيجابي إلى حد بعيد، إلا أنه لم يخلو من عيوب وثغرات سمحت لأطراف سياسية بالالتفاف حول مبادئه وتوظيفه لخدمة مآربهم. كما أن هذا الدستور المستورد من بلجيكا تعثر عند تطبيقه لارتطامه بالواقع السياسي والاجتماعي والفكري في مصر. كما أنه رغم إجراء انتخابات اعتُبر معظمها – مرة أخرى، مقارنة بما لحقها من انتخابات – نزيه إلى حد ما، إلا أن هذه الانتخابات لم تؤد إلى تداول السلطة بين أحزاب وقوى سياسية تعبر عن مواقف وتوجهات متعددة. وهذه الأحزاب نفسها لم يتسم عملها بالمؤسسية والمنهجية بما يسمح بإفراز قيادات سياسية فعالة. والأهم أن حزب الوفد والذي كان يمثل وعاءً وعباءة للحركة الوطنية المصرية أخفق – ومعه النظام السياسي برمته – في تحقيق الهدف الأهم والأسمى الذي كان يرنو له المصريون، ألا وهو الاستقلال الكامل جلاء المحتل البريطاني. وقد ساهمت كل هذه العوامل وتضافرت في عدم استقرار الحكم واهتزاز أسسه إلى حد عرقل مسيرة التنمية والتقدم في البلاد. ومن هنا جاءت مجمل نتائج هذه الفترة التي وصفت بالليبرالية مخيبة للآمال، فلا احتلال اجلي عن البلاد، ولا سيادة وطنية اكتملت، ولا عدالة اجتماعية سادت، ولا رخاء اقتصادي تحقق، ولا نهضة تعليمية شاملة حدثت، ولا تنمية مجتمعية انتشرت، ولا أهداف سياسية خارجية حُققت، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى سقوط النظام يوم 23 يوليو 1952.
المبحث الثاني
الدساتير المصرية من 1952 إلى 1971:
أما وقد انتهينا من استعراض مراحل التطور الدستوري والسياسي في مصر منذ تولي محمد علي باشا مقاليد الحكم في 1805 إلى أن سقطت الأسرة العلوية، ننتقل الآن لبحث ملامح الواقع الدستوري والسياسي لمصر منذ قيام ثورة يوليو 1952 إلى إصدار دستور 1971 الذي أسقطته ثورة 25 يناير 2011. وسنكتفي في هذا القسم بالتعليق على الطبيعة العامة للدساتير التي طبقت خلال السنوات الثمانية عشرة الفاصلة بين قيام ثورة الضباط الأحرار وإصدار دستور 1971 دون أن نتناول كافة الدساتير والوثائق الدستورية التي صدرت خلال هذه الفترة وذلك لتشابهها إلى حد بعيد ولأنها لم تختلف كثيراً من حيث النظام السياسي الذي أقامته وطبيعة العلاقة بين السلطات التي أسست لها. وسنركز كذلك في هذا القسم على مشروع الدستور الذي أعد في عام 1954 بتكليف من مجلس قيادة الثورة آنذاك، وهو المشروع الذي تم تجاهله ووضع بدلاً منه دستور 1956. والغرض من التركيز على مشروع 1954 هو الاهتمام الكبير الذي يحظى به في أوساط المثقفين والنخبة السياسية في مصر حالياً كنموذج يمكن أن يحتذى به لرسم المستقبل السياسي لمصر بعد ثورة 25 يناير.
أولاً: قيام ثورة 1952:
كما هو معلوم للقارئ، استولت "حركة الجيش" يوم 23 يوليو 1952 على مقاليد الحكم من خلال السيطرة على المواقع الحيوية في البلاد، واعتقال قيادات القوات المسلحة، وفرضت على الملك فاروق إقالة حكومة نجيب الهلالي باشا وتعيين علي ماهر باشا بدلاً منه، وثم فرضت عليه التنحي عن الحكم لصالح ابنه الأمير أحمد فؤاد ومغادرة البلاد يوم 26 يوليو 1952. ويرى أغلب المؤرخين، ونحن نتفق معهم، انه إذا كان الجيش قد انقلب على السلطة الشرعية في فجر 23 يوليو، إلا أن هذه الحركة ما لبثت أن تحولت إلى ثورة أيدها الشعب وباركتها أغلب طوائفه، خاصة في الريف المصري والقرى والنجوع.
وبعد نجاح حركة الجيش وسيطرتها على مقاليد الحكم في البلاد، بدأ مجلس قيادة الثورة في رسم ملامح الحياة الدستورية والسياسية في البلاد. والملاحظ أن البيان الأول للمجلس والذي وقعه الرئيس الراحل اللواء محمد نجيب وقرأه الرئيس الراحل أنور السادات جاء فيه أن الجيش "أصبح يعمل لصالح الوطن في ظل الدستور مجرداً من أي غاية"، وهو ما اعتبره البعض آنذاك بمثابة تلميح بأن الجيش سيحترم دستور 1923 بما ينطوي على ذلك من إشارة إلى عدم السعي لقلب نظام الحكم أو إعلان الجمهورية أو تعطيل الحياة السياسية أو حل الأحزاب.
ولكن سرعان مع تبدل الحال وتغير المسار، فأقدم الجيش على عدة خطوات أحدثت ثورة شاملة في طبيعة وشكل الحكم في مصر، وأهمها ما يلي:
1. إعلان سقوط دستور 1923 في 10 ديسمبر 1952.
2. تشكيل لجنة تأسيسية لإعداد دستور جديد في 13 يناير 1953.
3. حل الأحزاب السياسية ومصادرة أموالها في 16 يناير 1953.
4. إصدار إعلان دستوري لإدارة شئون البلاد لفترة انتقالية في 10 فبراير 1953.
5. إسقاط الملكية وإعلان الجمهورية في 18 يونيو 1953.
والملاحظ أن هذه الخطوات كانت قد ركزت قدراً كبيراً من السلطات في يد القوات المسلحة، من خلال منح رئيس مجلس قيادة الثورة ممارسة أعمال السيادة والرقابة على مجلس الوزراء الذي كان مسئولاً أمام مجلس قيادة الثورة. ويسترعي الانتباه كذلك أن هذه الإجراءات كلها جاءت استباقاً لمناقشات ومداولات اللجنة التأسيسية المكلفة بصياغة وإعداد دستور جديد في البلاد، حيث لم تكن هذه اللجنة قد فرغت بعد من أعمالها عندما فوجئت بتغيير نظام الحكم من ملكية إلى جمهورية. ورغم أن إسقاط الملكية كان متوافقاً مع لتوجه الغالب في اللجنة المكلفة بإعداد الدستور، إلا أنه عُدَ مؤشر لميل مجلس قيادة الثورة للاستئثار بالقرار السياسي ولنيته رسم الخريطة السياسية المستقبلية لمصر دون استشارة أي من الأطراف الفاعلة في المجتمع المصري أو إشراكهم في إدارة شئون البلاد.
وكما هو معلوم، شهد مجلس قيادة الثورة والجيش بصفة عامة خلال هذه الفترة انقسامات واختلافات في الرأي بين مؤيد لاستمرار تولي القوات المسلحة مسئولية الحكم ومطالب بعودة الجيش إلى ثكناته. كما عصفت بالمجلس أزمة كبرى، عرفت بأزمة مارس 1954، بين الرئيسين الراحلين محمد نجيب وجمال عبد الناصر، حيث يرى المؤرخون أن الرئيس عبد الناصر كان يسعى لتقليص صلاحيات وسلطات الرئيس نجيب الذي كان يحظى بشعبية في الشارع واحترام في الجيش، وذلك توطئة لإخراجه من المشهد السياسي. وبالفعل، تم إقصاء الرئيس نجيب في نوفمبر 1954 وانفرد الرئيس عبد الناصر برئاسة مجلس قيادة الثورة ورئاسة مجلس الوزراء بعدما تمكن – بمعاونة المشير عبد الحكيم عامر – من بسط نفوذه في الجيش. وقد استمر هذا الوضع طوال الفترة الانتقالية التي انتهت في 16 يناير 1956 بالإعلان عن دستور 1956 والذي وافق عليه الشعب في استفتاء أجري في 23 يونيو 1956.
وقبل استعراض دساتير هذه الفترة والتي سبقت العمل بدستور 1971، سنُطل سريعاً على مشروع دستور 1954 والذي لم يأخذ به مجلس قيادة الثورة. وكما سبق وأشرنا، فإننا نتناول هذا المشروع لما عرف عنه من انضباط في الصياغة ووضوح في الرؤية وإتقان في إقامة التوازن بين السلطات، الأمر الذي قد يعاون القارئ وهو يتأمل مستقبل السياسة في مصر ويستشرف شكل الحكم الذي ستفرزه سنوات الانتقال من حكم غابت عنه الديمقراطية إلى واقع جديد يسود فيه القانون وتصان فيه حقوق الإنسان وتعلو فيه الديمقراطية.
ثانياً: مشروع دستور 1954:
عُرفت اللجنة التي تشكلت لإعداد دستور جديد للبلاد في 13 يناير 1953 بلجنة الخمسين، حيث ضمت خمسون عضواً يرأسهم علي ماهر باشا وضمت في عضويتها ممثلين لأغلب القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة فضلاً عن نخبة من رجال القضاء والقانون والفقه. ونوجز فيما يلي أهم ملامح دستور 1954 والتي قد تمثل مادة لإثراء النقاش الدائر في مصر حول شكل الدولة المصرية ونظام الحكم الذي يتعين تشييده بعد ثورة 25 يناير:
1. الجمهورية البرلمانية: اقترحَ واضعو الدستور أن تتحول مصر من ملكية دستورية إلى جمهورية برلمانية، حيث نص الدستور في مادته الأولى أن الحكومة المصرية "جمهورية نيابية برلمانية". وقد انعكس ذلك على منح مجلس الوزراء صلاحيات واسعة وصلت إلى وصفه بأنه "المهيمن على مصالح الدولة ورئيسه هو الذي يوجه السياسة العامة للوزارة".
2. التوسع في صلاحيات البرلمان: تعد الأداة الرئيسية لتعضيد مركز وحصانة البرلمان من تغول السلطة التنفيذية وافتئاتها على صلاحياته هي تقويض إمكانية حل مجلس النواب. فنصت المادة 55 على أنه إذا حُل مجلس النواب لا يجوز حل المجلس التالي له لنفس السبب، كما اشترطت المادة 56 أن يتضمن طلب حل مجلس النواب دعوة لإجراء انتخابات جديدة خلال شهرين من حل المجلس وأن يجتمع المجلس المنتخب خلال 10 أيام من الانتخابات، وقررت اعتبار قرار الحل باطلاً إذا يلتزم بكافة هذه الشروط.
وكما هو مطبق في الأنظمة البرلمانية، منح مشروع الدستور جميع أعضاء البرلمان (بمجلسيه) حق توجيه الأسئلة والاستجوابات للوزراء، وألزم الحكومة بمناقشة الاستجواب خلال 7 أيام من تقديمه، ذلك فضلاً عن منح أعضاء البرلمان حق اقتراح القوانين، وإن كان خص أعضاء مجلس النواب وحدهم بحق إنشاء الضرائب أو تعديلها.
إضافة لذلك، فقد منح مشروع الدستور صلاحيات واسعة لمجلس النواب فيما تعلق بإدارة الشئون المالية للدولة، فنص على أن إنشاء الضرائب وتعديلها وإلغائها أو الإعفاء منها لا يكون إلا بقانون، كما حظر على السلطة التنفيذية إبرام عقود أو اتفاقات تقرر التزامات مالية لأعوام مالية مقبلة إلا بقانون، فضلاً عن تكليف مجلس النواب بمناقشة جميع أبواب الميزانية، وإلزام الحكومة بتقديم الميزانية الشاملة للدولة إلى مجلس النواب لفحصها واعتمادها، إضافة إلى اشتراط اعتماد البرلمان للحساب الختامي للإدارة المالية عن العام المنقضي.
ومن الضمانات التي قررها الدستور لحسن إدارة مجلس النواب هي اشتراط استقلالية رئيس المجلس ووكيليه وإلزامهم بالاستقالة من أي أحزاب ينتمون إليها، فضلاً عن الضمانات والحصانات التقليدية الممنوحة لأعضاء المجالس النيابية لتمكينهم من الإعراب عن آرائهم بحرية ودون الخوف من الملاحقة القضائية. أما بالنسبة للنظر في الطعون الانتخابية فقد أناط المشروع حق الفصل فيها إلى المحكمة الدستورية العليا، حيث نصت المادة 69 على أنه "لا يجوز إبطال انتخاب أو تعيين أحد أعضاء البرلمان أو إسقاط عضويته إلا بحكم من المحكمة الدستورية العليا".
3. مراجعة تشكيل مجلس الشيوخ: من أهم ما يستوقف القارئ في مشروع دستور عام 1954 هو التشكيل الخلاق والمتميز الذي اقترحته لجنة الخمسين لمجلس الشيوخ، حيث قسمته إلى ثلاثة أقسام: (1) تسعون عضواً منتخبين بالاقتراع السري المباشر؛ (2) ثلاثون عضواً منتخبين من بين "أعضاء النقابات واتحادات نقابات العمال والغرف والجمعيات والهيئات التي تنظم المشتغلين بالزراعة والصناعة والنجارة والتعليم والمهن الحرة وغيرها من الأعمال التي تقوم عليها مصالح البلاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"؛ (3) ثلاثون عضواً يعينهم رئيس الجمهورية من "أصحاب الكفاءات العلمية والفنية ويختارون من بين رؤساء الوزارات والوزراء الحاليين والسابقين، والنواب الذي قضوا فصلين تشريعيين في النيابة، وأعضاء مجالس الشيوخ السابقين، وكبار العلماء، والرؤساء الروحانيين، والمستشارين ومن في درجتهم من رجال القضاء الحاليين منهم والسابقين، والضباط المتقاعدين من رتبة لواء فأعلى، وأعضاء مجالس المديريات والمجالس البلدية الذي قضوا ثلاث مدد في مجالسهم، والموظفين بدرجة مدير عام فأعلى، وأساتذة الجامعات الحاليين منهم والسابقين. ويكون رؤساء الجمهورية السابقون أعضاء مدى الحياة".
4. الحد من صلاحيات رئيس الجمهورية: أضفى الدستور على الرئيس صفتي "رئيس الدولة" والرئيس الأعلى للقوات المسلحة، واشترط أن يكون مصرياً من أب وجد مصريين وألا يقل سنه عن 45 سنة. ويسترعي الانتباه أن رئيس الجمهورية في هذا المشروع لم يكن ينتخب مباشرة من قبل الشعب، وإنما من قبل هيئة تضم جميع أعضاء البرلمان بمجلسيه إضافة إلى "مندوبون يبلغ عددهم ثلاثة أمثال الأعضاء المنتخبين من المجلسين، فتنتخب كل دائرة من دوائر مجلس النواب وكل دائرة من دوائر مجلس الشيوخ وكل هيئة أو نقابة ممثلة في مجلس الشيوخ ثلاثة مندوبين عنها". وقد حدد الدستور مدة الرئاسة بخمس سنوات تجدد مرة واحدة، علماً بأنه لم يكون للرئيس نائباً، حيث نص الدستور على أن يتولى رئيس مجلس الشيوخ الرئاسة بالوكالة في حالة تعذر قيام الرئيس بمهامه مؤقتاً.
وتعتبر أهم ملامح تقويض صلاحيات الرئيس هو ما قررته المادة 111 بأن "يتولى رئيس الجمهورية جميع سلطاته بواسطة الوزراء وتوقيعاته في شئون الدولة يجب لنفاذها أن يوقع عليها رئيس مجلس الوزراء والوزراء المختصون، وأوامره شفوية كانت أو كتابية لا تعفي الوزراء من المسئولية بحال". كما أضافت هذه المادة انه يحق لرئيس الجمهورية أن يولي رئيس مجلس الوزراء أو إعفائه. أما الصلاحيات التي منحها الدستور للرئيس فيتمثل أهمها في حل مجلس النواب، وإن اقترن هذا النص بإلزام الرئيس بدعوة رئيس مجلس الشيوخ بتشكيل وزارة محايدة لإجراء انتخابات، وتطرح الوزارة الجديد على مجلس النواب المنتخب في أول اجتماعاته لنيل الثقة. كما سمح الدستور للرئيس بإصدار مراسيم تحوز قوة القانون، وإن ألزمه بالحصول على تفويض من البرلمان للقيام يتضمن تحديداً لمدة هذه المراسيم وموضوعها والمبادئ التي يتعين أن تلتزم بها. أما إذا وقعت أحداث طارئة فيما بين أدوار انعقاد مجلس النواب أو أثناء حله فإنه يجوز للرئيس إصدار مراسيم لها قوة القانون على أن تعرض هذه المراسيم على البرلمان في غضون أسبوعين من يوم صدور هذه المراسيم، وإذا كان المجلس منحلاً يدعا للانعقاد وتعرض عليه المراسيم في غضون نفس المدة. وفي كل الأحوال، نص الدستور على أنه إذا لم يدع المجلس للانعقاد أو لم تعرض علية القوانين في المواعيد المحددة أن إذا عرضت ولم يوافق عليها خلال 60 يوماً، فإن مراسيم الرئيس تعد لاغيه بأثر رجعي.
5. التوسع في الحقوق والحريات العامة: أفرد مشروع الدستور الباب الثاني لتحديد الحقوق والحريات العامة وذلك في 48 مادة تناولت مختلف أوجه الحقوق والحريات. وتضمن هذا الباب عدداً كبيراً من الحقوق يمكن تقسيمها على النحو الآتي: (1) الحقوق المدنية: إقرار تساوي المصريين أمام القانون ومنع التمييز بينهم على أساس "الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة أو الآراء السياسية أو الاجتماعية"، وإطلاق حرية العقيدة وممارسة الشعائر دون الإخلال بالنظام والآداب العامة، وإقرار حريتي الرأي والتعبير بكافة الوسائل وتأكيد حرية الصحافة، وإعلاء حرمة المنازل والمراسلات الشخصية وسريتها. (2) الحقوق السياسية: إرساء حقوق المصريين في الانتخاب، والاجتماع، وإقامة الأحزاب دون سابق إخطار أو استئذان ما دامت غاياتها ووسائلها سلمية مع تكليف المحكمة الدستورية العليا بالفصل في الطعون المتعلقة بالأحزاب والجماعات السياسية. (3) حقوق اقتصادية واجتماعية: صان المشروع الدستوري حق الملكية، وأرسى الحق في التعليم وجعله ملزماً ومجانياً في المرحلة الابتدائية، وأطلق حرية النشاط الاقتصادي بشرط ألا يضر بالمنفعة العامة أو الأمن، ونص على أن ينم اقتصاد الدولة بشكل يضمن العدالة الاجتماعية وينمي الإنتاج ويرفع مستوى المعيشة، وكلف الدولة بتوفير فرص العمل على أساس من المساواة، ومنح حق إنشاء النقابات، ودعا لتنظيم العلاقة بين العمال وأرباب العمل على أسس اقتصادية تتفق مع مبدأ العدالة الاجتماعية. (4) العدالة الجنائية: تضمن المشروع كذلك مجموعة من الضمانات التي تعلي سيادة القانون وسمو العدالة، ومنها: إقرار حق اللجوء للقضاء والذي لا يمكن تعطيله، وحق الدفاع أمام المحاكم، ومنع إلقاء القبض على ألمواطنين أو حبسهم بدون أمر قضائي، وتقرير مبادئ الشرعية الجنائية كشخصية العقوبة وأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون، وإرساء مبدأ عدم رجعية القوانين الجنائية. أما بالنسبة للواجبات، فلم يشر مشروع الدستور سوى للتجنيد الذي وصفه بأنه "واجب عام إجباري ينظمه القانون".
6. التوسع في اللامركزية: من السمات المميزة في مشروع دستور 1954 هو الاهتمام الذي أولته لجنة الخمسين لإرساء قاعدة اللامركزية في الحكم، وهو مت تجلى في الباب الرابع من الدستور والمعنون "هيئات لحكم المحلي". وتجدر الإشارة إلى أنه في الوقت الذي أفرد باب برمته يتضمن 13 مادة دستورية للحكم المحلي، فقد اكتفى دستور 1971 بتخصيص 3 مواد لهذا الموضوع ضمن الفصل الثالث الخاص بالسلطة التنفيذية من الباب الخامس المتعلق بنظام الحكم. وقد حدد مشروع دستور 1954 اختصاصات المجالس الحلية، حيث كلفها بإنشاء وإدارة الأعمال "الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية"، كما منحها قدراً من الاستقلالية في موضوعات التعليم في مراحله الأولى والتعليم الفني والطب العلاجي وشئون المواصلات والطرق المحلية والمرافق والخدمات الاجتماعية. ويلاحظ كذلك أن السلطة التنفيذية المركزية لم تكن تتمتع بنفوذ كبير على هذه المجالس التي اعتبرت قراراتها نهائية وغير قابلة للمراجعة إلا إذا كانت تتجاوز اختصاصاتها. كما أمعن الدستور في صيانة استقلالية هذه الهيئات من خلال منحها حق جباية الضرائب المحلية، وألزمها بوضع ميزانية سنوية شاملة لإيراداتها ومصروفاتها.
7. الأحكام العامة: نظراً للجدل الدائر حول دور الدين في الدولة ومدى ملاءمة نص المادة 2 من دستور 1971 والتي تجعل مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، فقد رأينا التنويه إلى أن واضعي دستور 1954 اكتفوا في هذا الشأن بمادة عامة تنص على أن "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية".
8. تقليص صلاحيات أجهزة الدولة في الحالات الاستثنائية: من أهم ملامح مشروع دستور 1954 هو تقليص صلاحيات وسلطات الدولة الاستثنائية، فكما رأينا آنفاً حد الدستور من الإجراءات التي يجوز لرئيس الجمهورية أن يتخذها أثناء الحالات الطارئة، كما حد من قدرته على حل البرلمان، فضلاً عن تقليص سلطته في إصدار مراسيم تحظى بقوة القانون. كما تضمن المشروع مادة نراها ذات أهمية كبيرة، وهي المادة 49 والتي نصت على أنه "في الأحوال التي يجيز فيها هذا الدستور للمشرع تحديد من الحقوق العامة الواردة في هذا الباب أو تنظيمه لا يترتب على هذه الإجازة المساس بأصل ذلك الحق أو تعطيل نفاذه". وتجدر الإشارة إلى أن هذا النص محوري أتى كخاتمة للباب الثاني المتعلق بالحقوق والحريات العامة، وهو ما يعني أنه يعتبر بمثابة قيد عام يحكم كافة الفقرات والمواد التي سبقته، فضلاً عن تأكيده على المبدأ العام القائل بسيادة الدستور – بوصفه أسمى الوثائق القانونية في البلاد – على كافة القوانين واللوائح والقرارات والإجراءات الأخرى التي قد تصدرها او تتخذها أي من سلطات الدولة.
وإضافة لذلك كله، جاءت المادة 199 من الدستور لتتناول سلطات وصلاحيات الدولة في حالات الطوارئ. ونظراً لما عانت منه مصر من سوء استخدام لقانون الطوارئ وتطبيقه بشكل تعسفي أدى للمساواة بين الطارئ والاعتيادي وحول الاستثناء إلى قاعدة، فإنه يجدر بنا أن نقتبس هذه المادة بأكملها لما لها من أهمية كبيرة في الظرف الراهن:
"في حالة الحرب أو وقوع إضرابات تخل بالأمن إخلالاً خطيراً يجوز لرئيس الجمهورية أن يطلب من البرلمان تفويض الحكومة في سلطات معينة لمواجهة الحال، وإذا كان البرلمان في غير أدوار الانعقاد دُعي للاجتماع فوراً وإذا كان مجلس النواب منحلاً وجبت دعوته ويظل البرلمان مجتمعاً تحقيقاً لكافة الحريات العامة وللرقابة البرلمانية الكاملة ما دام التفويض قائماً. وهذه السلطات تقدرها الضرورة، فيجوز أن تحدد بمنطقة معينة أو لمواجهة حوادث معينة ويجب دائماً توقيتها بزمن معين. وللحكومة عن الاقتضاء أن تطلب كذلك التفويض في سلطات جديدة، وللبرلمان أن يقرر في أي وقت إلغاء جميع السلطات التي منحها للحكومة أو بعضها أو الحد منها. وفي جميع الأحوال، تكون القوانين التي يقرها البرلمان بأغلبية الأعضاء التي يتألف منهم كل من المجلسين.
ولا يجوز المساس بمبدأ تحريم القبض على أعضاء البرلمان بغير إذن المجلس المختص، وتؤلف هيئة برلمانية على الوجه الذي يبينه قانون التفويض البرلماني تمثل فيها الجماعات السياسية في المجلسين وتستشيرها السلطة التنفيذية في ممارسة السلطات المفوضة فيها وتودع الحكومة البرلمان ما تصدره من الأوامر التنظيمية إثر صدورها. وتكون ممارسة هذه السلطات خاضعة للرقابة القضائية ولا يجوز بحال من الأحوال الإعفاء من المسئولية المترتبة عليها."
ويتضح مما تقدم أن المشرع الدستوري قد فطن لحقيقة أن حالات الطوارئ تعد من أهم الثغرات التي تنفذ منها السلطة التنفيذية وأجهزتها الأمنية للتوسع في سلطاتها ولفرض هيمنتها على الحياة السياسية، حيث تتذرع الحكومات بوجود تهديد ما للتحلل من القيود الدستورية والتشريعية الموضوعة على كيفية تأديتها لمهامها، كما توظف الحكومات هذه الظروف الاستثنائية كذريعة لاتخاذ إجراءات تهدف للفتك بخصومها السياسيين. لذلك، فقد أدخلت لجنة الخمسين على مشروع الدستور الذي أعدته ضمانات عديدة للحد من سلطات الحكومة والجهاز التنفيذي خلال أوقات الطوارئ. وبالتحديد، نجد أن أهم الضمانات الواردة في هذه المادة تتمثل فيها يلي:
1. النص صراحة في الدستور على الحالات التي يمكن فيها اتخاذ إجراءات استثنائية. وأهمية ذلك أن المشرع الدستوري لم يترك تحديد هذه الحالات للبرلمان لأنه من اليسر على البرلمان أن يعيد النظر في التشريعات، الأمر الذي قد يتيح لأغلبية نيابية أن تعدل القانون المنظم لكيفية التعامل مع هذه الحالات بشكل يلتف على الدستور ويخل بالتوازن بين السلطات ويسمح بانتهاك حقوق وحريات المواطنين. كما أن النص صراحة على الحالات التي يجوز فيها الالتجاء إلى هذه الإجراءات الاستثنائية يغلق الباب على إضافة حالات جديدة كلما اقتضت الحاجة.
2. لم يترك الدستور لرئيس الجمهورية اتخاذ الإجراءات التي يراها مناسبة لمواجهة الحالة الطارئة التي تمر بها البلاد، وإنما قصر دور الرئيس على طلب تفويض مجلس الوزراء. ومرد ذلك أن المشرع الدستوري رغب في وضع مسئولية التصدي للأحوال الاستثنائية على كاهل مجلس الوزراء، نظراً لكونه مسئولاً أمام البرلمان وخاضعاً لرقابته المستمرة، الأمر الذي سيكبح جماح السلطة التنفيذية إذا فكرت في توظيف هذه الظروف الطارئة لارتكاب مخالفات أو للتوسع في سلطاتها.
3. ألزم مشروع دستور 1954 الرئيس بالحصول على موافقة البرلمان وتفويضه للحكومة، حتى لو لم يكن البرلمان منعقداً أو إذا كان مجلس النواب منحلاً، مما يعني أنه لا مناص ولا فرار من رقابة البرلمان لأداء السلطة التنفيذية وتأكدها من أن الظروف التي تواجهها البلاد تستدعي فعلاً اللجوء إلى الظروف الاستثنائية وأن الإجراءات المقترح اتخاذها للتعامل مع هذه الظروف ملاءمة ومناسبة لها.
4. تعضيداً للرقابة البرلمانية على أداء السلطة التنفيذية خلال تعاملها مع هذه الظروف الاستثنائية، فقد مُنح البرلمان حق مراجعة التفويض الذي منحه للحكومة في أي وقت بالإلغاء أو التعديل، فضلاً عن إلزام البرلمان بالانعقاد بشكل دائم لاستمرار الرقابة النيابة على أداء وممارسات الجهات الإدارية.
5. وأتت الفقرة الأخيرة من النص الذي اقترحته لجنة الخمسين لتضيف ضمانة أخرى لا تقل أهمية عن المتابعة النيابية لأداء الحكومة، ألا وهي الرقابة القضائية لكافة الإجراءات المتخذة لمواجهة الظروف الاستثنائية.
وختاماً، وبعد استعراض ملامح مشروع دستور 1954 وما تضمنه من ضمانات للفصل بين السلطات وتحقيق التوازن فيما بينها، وما نص عليه من حقوق وحريات تضمن للمواطن المصري العيش الكريم، يمكننا القول أن معدي هذه الوثيقة كانوا على درجة عالية من الحس الوطني والوعي السياسي وبما مكنهم من إعداد إطار دستوري كان يمكنه أن يحدث نقله نوعية في واقع الحياة في مصر. ولعل أكثر ما يسترعي انتباهنا من واقع دراسة هذه الوثيقة هو أنها أخذت في الاعتبار ثلاثة عوامل تعد هي الحاكمة لمدى نجاح أي مشروع دستوري، وهي، أولاً الإدراك العميق بواقع الحياة السياسية في الفترة التي سبقت وضع الدستور، حيث كان واضحاً أن لجنة الخمسين سعت لسد الثغرات والعيوب التي شابت بنيان دستور 1923 والتي مكنت الملك من الالتفاف على الدستور والمساهمة في إفساد الحياة السياسية. أما ثانياً، فقد أدرك واضعو مشروع الدستور أن المشهد المصري قد تغير جذرياً بعد ثورة يوليو، فقد أضحى الجيش بما له من سلاح وعتاد وما يتمتع به من شرعية في الشراع لاعباً فاعلاً على المسرح السياسي، حيث سيطر الجيش بشكل يكاد يكون حصرياً على مقاليد الحكم واستأثر منذ قيام الثورة بكافة السلطات التنفيذية والتشريعية، الأمر الذي رأت معه اللجنة أن يتم الحد من صلاحيات السلطة التنفيذية وإحكام الرقابة البرلمانية عليها وتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، والذي كانت تدرك اللجنة أنه على الأغلب كان سيكون عسكرياً. أما ثالثاً، فقد استشرفت لجنة الخمسين آفاق المستقبل السياسي والاجتماعي في مصر برؤية وبصرية ثاقبة، حيث أحست أن الطبيعة النخبوية للحياة السياسية والحزبية في عصر ما قبل ثورة يوليو لم تعد ملائمة، وأن المستقبل سيتطلب الالتفات أساساً لاحتياجات ومتطلبات وأولويات الطبقات الكادحة في الشعب المصري، وفي مقدمتهم العمال والفلاحين. وهو ما انعكس على القدر الوفير من الحقوق والحريات التي أقرها مشروع الدستور والاهتمام الملحوظ بحقوق العمال وإبراز مسئولية الدولة في رعاية المواطن والارتقاء بحياته وظروفه المعيشية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
ومن جانبنا، نرى أن هذا هو الدرس الرئيسي الذي يمكن أن نستلهمه من تجربة دستور 1954، وهي منهجية وضع الدستور والفكر السياسي والاجتماعي الذي يعكسه. فليس المطلوب ونحن نقدم على بناء مصر جديدة في أعقاب ثورة 25 يناير أن ننقل نصوصاً من دساتير قديمة، وإنما أن نقتفي أثر لجنة الخمسين في إعدادها دستور مؤسس على عناصر ثلاث لا غنى عنها، وهي: معرفة التاريخ واستيعاب دروسه وقراءة الحاضر وفهم متطلباته واستشراف المستقبل وإدراك آماله.
المبحث الثالث
دساتير 1952-1971
للأسف لم يقدّر لمشروع دستور 1954 أن يرى النور، ففي الوقت الذي كانت لجنة الخمسين تعكف على دراسة نظام الحكم الذي ينبغي أن يقام في مصر وتتباحث حول شكل العلاقة بين السلطات العامة فيما بعد قيام حركة الجيش، كانت موازين القوى تتغير وتتبدل. فكان مجلس قيادة الثورة يفرض هيمنته على السياسية في البلاد ويعمق من سيطرته على مفاصل الدولة ويرسخ تواجده وسطوته على مقاليد الحكم، الأمر الذي مكنه من فرض رؤيته للمستقبل السياسي للبلاد دونما الالتفات لرأي لجنة الخمسين. وبالفعل، تقدمت اللجنة بمشروعها إلى رئيس مجلس الوزراء آنذاك جمال عبد الناصر في 17 يناير 1955، حيث تم إحالة المشروع إلى المكتب الفني لرئيس مجلس الوزراء لدراسته. وكانت نتيجة هذه "الدراسة" أن تقرر إعداد دستور جديد بالكامل وضع خطوطه العريضة رئيس الوزراء بنفسه، وهو دستور 1956، والذي عُرض للاستفتاء الشعبي في 23 يونيو 1956. ونتناول في هذا القسم ملامح الحياة الدستورية من إعلان دستور 1956 إلى أن صدر دستور 1971. وسنكتفي هنا بالتعليق بشكل عام على دساتير تلك الحقبة دون استعراض تفاصيلها، وذلك لأنها تشابهت إلى حد كبير من حيث النظام السياسي الذي أقامته في البلاد، فضلاً عن أن معظمها صدر كرد فعل لأحداث سياسية معينة ولم يستمر إلا لفترات قصيرة.
اصدر مجلس قيادة الثورة منذ توليه حكم البلاد في 23 يوليو 1952 عدة وثائق دستورية لتنظيم العمل بالدولة المصرية، وهي: إعلان دستوري صدر يوم 10 ديسمبر 1952 للإعلان عن سقوط دستور 1923 ولدعوة لجنة تأسيسية لوضع دستور جديد، وإعلان دستوري بتاريخ 17 يناير 1953 لتقرير حل الأحزاب السياسية، وإعلان دستوري بتاريخ 10 فبراير 1953 يتكون من 11 مادة لوضع الإطار العام لنظام الحكم خلال الفترة الانتقالية اللاحقة على قيام الثورة والتي استمرت حتى صدور دستور 1956، وإعلان دستوري بتاريخ يوم 18 يونيو 1953 اقتصر على ثلاثة مواد لإعلان سقوط الملكية وقيام الجمهورية. ثم تبع هذه الإعلانات صدور دستور 1956، والذي لم يُعمل به سوى لعشرين شهراً، حيث حل محله دستور 1958 المؤقت بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا. وما لبث أن انفصلت سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة في عام 1961 حتى صدر إعلان دستوري في 1962 تبعه دستور مؤقت آخر في 1964 وثم إعلان دستوري عام 1969، وهو آخر الوثائق الدستورية التي صدرت في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وآخر ما صدر قبل دستور 1971.
وبصفة عامة، تتفق هذه الدساتير كلها من حيث الشكل العام للدولة ونظام الحكم الذي أقامته، فرغم وجود بعض نقاط التباين بينها، إلا أن المنحى العام الذي انتهجته كان متطابقاً. ويمكن أن نوجز أهم ملامح هذه الدساتير والوثائق الدستورية فيما يلي:
a. هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية: أخلت هذه الدساتير إخلالاً جسيماً بمبدأي الفصل والتوازن بين السلطات. فالمفترض في الفقه والنظرية الدستورية أن تكون السلطات بمثابة رقيب على بعضها البعض، وأن تكبح السلطة التشريعية جماح السلطة التنفيذية وتراقب ممارستها لصلاحيتها، فيما تتمتع السلطة التنفيذية في مواجهة السلطة التشريعية بسلطات (يعد أهمها حق حل البرلمان) تؤدي إلى إحداث التوازن بين هاتين السلطتين. وقد تهاونت الدساتير الصادرة خلال الفترة 1952-1970 في تطبيق هذه المبادئ وشرّعت لهيمنة السلطة التنفيذية على نظيرتها التشريعية، وجعلت الثانية رهينة لأهواء ورغبات الأولى. وظهر ذلك بجلاء في طريقة انتخاب أعضاء مجلس الأمة في ظل دساتير هذه الحقبة. فرغم نص هذه الدساتير على اختيار أعضاء المجلس النيابي بالانتخابات الحرة المباشرة، إلا أنه قصر حق الترشح لعضوية المجلس على أعضاء التنظيم السياسي الوحيد في البلاد، والذي تغير أسمه من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي إلى الاتحاد الاشتراكي، والذي يتولى تعيين أعضائه رئيس الجمهورية. وبالتالي أصبح أعضاء مجلس الأمة فعلياً معينين من قبل السلطة التنفيذية، حيث كانت الترشيحات لعضوية مجلس الأمة تحدد من قبل التنظيم السياسي الوحيد في مصر والذي سيطرت عليه السلطة التنفيذية. وقد وصلت سيطرة السلطة التنفيذية على تشكيل وعضوية البرلمان إلى ذروتها في ظل دستور 1958 المؤقت الذي منح الرئيس حق تعيين جميع أعضاء مجلس الأمة في الجمهورية العربية المتحدة، على أن يتم يختارهم من بين أعضاء مجلسي الأمة في قطري دولة الوحدة المصري والسوري.
b. تقويض صلاحيات السلطة التشريعية: لم تكتف السلطة التنفيذية بالسيطرة على تشكيل وعضوية مجلس الأمة، وهو ما كان سيؤمن لها ضعف الرقابة التشريعية على أدائها، وإنما شرعت كذلك في الحد من سلطات المجالس النيابية. وانعكس ذلك، على سبيل المثال، في عدم إقرار دستور 1956 مبدأ المسئولية التضامنية للوزراء أمام مجلس الأمة، وإنما السماح فقط بسحب الثقة من وزراء بمفردهم دون أن يتم سحب الثقة من الوزارة بأكملها. هذا، بالإضافة إلى حق الرئيس في حل مجلس الأمة، دون أن يكون للمجلس أي حق مواز في محاسبة الرئيس أو حتى الوزارة.
c. المركزية الشديدة في الحكم: إضافة لما انطوت عليه هذه الدساتير من إضعاف شديد للسلطة التشريعية وفرض لسطوة السلطة التنفيذية عليها، توّجت دساتير هذه الحقبة نزعتها السلطوية بخلق مركزية شديدة في إدارة الدولة عن طريق منح رئيس الجمهورية صلاحيات هائلة تمتد لجميع أجهزة الدولة وهيئاتها. فأصبح الرئيس هو الذي يضع السياسية العامة للدولة، ويوجه الوزراء في تنفيذهم للسياسيات التي يضعها. وبالتالي تحوّل الوزراء في هذا النظام إلى مجرد معاونين للرئيس في تنفيذ رؤيته للبلاد، فعلى سبيل المثال، ذكرت المادة 131 من دستور 1956: "يضع رئيس الجمهورية بالاشتراك مع الوزراء السياسة العامة للحكومة في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية ويشرف على تنفيذها". وتعتبر هذه الصلاحيات من سمات نظم الحكم الرئاسية، إلا أنها أتت دون ما يقابلها ويوازيها في النظم الرئاسية من ضمانات تمنع تغول مؤسسة الرئاسة واستئثارها بالسلطة وفي مقدمتها وجود برلمان حر وقوي منتخب مباشرة من الشعب يقوم بمراقبة أعمال الرئيس والحكومة. وقد غاب هذا العنصر كاملة عن الحالة المصرية، فلم يقرر الدستور أي وسائل لمحاسبة الرئيس أو متابعة أعماله.
d. إقامة تنظيم سياسي أوحد في البلاد: أضمر ضباط حركة 23 يوليو 1952 قدراً كبيراً من العداء للأحزاب السياسية التي كانت قائمة في العهد الملكي. فقد ألقى الضباط الأحرار بقسط من اللائمة على النخبة الحاكمة وفي مقدمتها الأحزاب لما آل إليه حال المجتمع المصري قبل قيام ثورة يوليو، واعتبروا أن إعادة فتح الباب للعمل السياسي والسماح للأحزاب للعودة للهيمنة على المسرح السياسي سيقوض فرص نجاح الثورة. ومن هنا قرر مجلس قيادة الثورة إلغاء الأحزاب في 17 يناير 1953 وإنشاء "هيئة التحرير" لتكون التنظيم السياسي الوحيد في البلاد. وامتد وجود هيئة التحرير إلى أن صدر دستور 1956 الذي أنشأ الاتحاد القومي بموجب مادته 192 والتي نصت على أن "يكوّن المواطنون إتحاداً قومياً للعمل على تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة ولحث الجهود بناء الأمة بناء سليماً من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية". كما أناط الدستور بالاتحاد القومي التقدم بمرشحين لعضوية مجلس الأمة، فيما كلف رئيس الجمهورية بتحديد طريقة الانضمام إلى هذه الاتحاد. وبطبيعة الحال، أفضى هذا الوضع إلى سيطرة شبه مطلقة للسلطة التنفيذية عامة، ورئيس الجمهورية خاصة، على السلطة التشريعية، حيث كان أعضاء مجلس الأمة يصلون إلى البرلمان بناء على ترشيح التنظيم السياسي الوحيد في البلاد والذي يتولى الرئيس تعيين أعضائه. وفي أعقاب انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة وما أحدثه ذلك من هزة عنيفة للنظام، أحس الرئيس الراحل عبد الناصر بضرورة مراجعة الأسس الفكرية والنظرية التي يقوم عليها النظام، وهو ما تجسد في وثيقة عرفت بالميثاق الوطني والتي أعدت لتكون بمثابة رؤية شاملة جديدة للدولة وإطار عام لكافة أوجه النشاط في المجتمع. ومن ضمن ما أفرزته هذه الفترة إلغاء الاتحاد القومي واستبداله بالاتحاد الاشتراكي العربي كالتنظيم السياسي الوحيد في البلاد. وقد وُصف الاتحاد الاشتراكي أنه بمثابة سلطة عليا تعلو السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، حيث أنه وعاء عام ومظلة واسعة تحوي مختلف طبقات الشعب وأطيافه، وهو المفهوم الذي كان يعبر عنه بأن الاتحاد الاشتراكي يجسد تحالف قوى الشعب العامل. وقد مارس الاتحاد الاشتراكي العديد من الصلاحيات والسلطات التي كانت موكلة للإتحاد القومي، كترشيح أعضاء مجلس الأمة والتباحث حول السياسية العليا للدولة وتحديد أولويات العمل العام.
e. تقليص الحقوق والحريات العامة: عكست نصوص الباب الثالث من دستور 1956 والمعنون "الحقوق والواجبات العامة" والأبواب المماثلة في دساتير تلك الفترة روح هذه الحقبة. فقد انعكست الأولويات الاقتصادية والاجتماعية للنظام على طبيعة الحقوق المنصوص عليها في الدستور، فكان التركيز على حقوق العمال، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وضمان التوزيع المنصف للثروة. وفي المقابل أغلفت الدساتير بعض الحقوق المدنية والسياسية الرئيسية، وفي مقدمتها حق تكوين الأحزاب، والذي لم يأت ذكره في هذه الدساتير. كما يلاحظ أن العديد من الحريات العامة جاء النص على ممارستها مقترناً بعبارة "في حدود القانون"، وهو ما أتاح لجهة الإدارة التي كانت – كما رأينا فيما سبق – تهيمن على السلطة التشريعية أن تقيد ممارسة الحقوق والحريات الأساسية كيفما تشاء. كما أدخلت على الدستور عبارات غامضة وفضفاضة تتيح للسلطة التنفيذية تضيق من هامش الحرية المتاح للمواطنين. فعلى سبيل المثال، اقترنت حرية ممارسة الشعائر الدينية بالـ "عادات المرعية في مصر"، دونما أي تحديد لهذه العادات أو الجهة التي يحق لها تعريفها، وهو ما كان يفتح المجال لجهة الإدارة أن تتحكم في ممارسة المصريين لشعائرهم الدينية كيفما تشاء.
وخلاصة القول فيما يتعلق بهذه الدساتير التي صدرت في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أنها لم تتبن نظام سياسي من ضمن تلك التي عرفها وصنفها فقهاء القانون الدستوري وأساتذة العلوم السياسية، فالجمهورية المصرية الأولى التي تأسست في أعقاب ثورة يوليو لم تكن بحال من الأحوال جمهورية برلمانية أو رئاسية أو الرئاسية/البرلمانية المختلطة، بل اقتطفت من كل بستان زهرة وخلقت كيانات لا يمكن وضعها ضمن أي من الأنظمة السياسية المعروفة عالمياً. وتجسد ذلك في الأخذ ببعض خصائص النظام الرئاسي والمتمثلة في منح الرئيس سلطات واسعة في إدارة شئون البلاد، إلا أن ذلك لم يقترن برقابة السلطة التشريعية على الرئيس وأدائه كما هو معمول في الأنظمة الرئاسية. كما أخذت دساتير هذه الحقبة من النظام البرلماني حق السلطة التنفيذية في حل مجلس الأمة، إلا أنها لم تقرر للسلطة التشريعية صلاحيات تذكر في مجال الرقابة على السلطة التنفيذية. كما امتد الخلل الشديد في التوازن بين السلطات إلى شكل وهيكل السلطة التنفيذية، فقد تركزت السلطات في يد مؤسسة رئاسة الجمهورية وتحولت الحكومة إلى مجرد تابع مطيع ينفذ أوامر الرئيس وتوجيهاته، بل أن الرئيس عبد الناصر تولى بنفسه منصب رئيس الوزراء في أكثر من مناسبة بما يعد إخلال بمبادئ نظم الحكم الرئاسية/البرلمانية المختلطة.
وبالإضافة لذلك حالت هذه الدساتير دون قيام أي حياة سياسية في البلاد، فالأحزاب مُنعت، والاشتغال بالسياسة قُصر على تنظيم شعبي أوحد، وجميع أشكال المعارضة السياسية أقصيت عن المسرح السياسي. واقترن ذلك بتضييق الخناق على منظمات المجتمع المدني والحد من فعاليتها، وفرض سيطرة الدولة على الصحافة ومختلف وسائل الإعلام. والأخطر من هذا وذاك أن هذه الدساتير تجاهلت النص على العديد من الضمانات والحقوق الأساسية التي تصون كرامة الإنسان وتضمن للمواطن أبسط حقوق وحرياته الأساسية. وبالتالي، تعد هذه الفترة في تاريخ مصر الحديث من أكثر الحقب التي غابت عن مصر دعائم الدولة الحديثة، فقد اقتلعت الديمقراطية والسياسة من المجتمع المصري، كما استبيحت سيادة القانون واندثرت تحت سطوة السلطة التنفيذية، وتهاوت قيم حقوق الإنسان واستباح النظام الحريات الأساسية للموطنين.
الفصل الرابع
الدستور المصري والانتقال من الجمهورية الأولى إلى الجمهورية الثانية
مقدمة وشرح للمنهجية:
أمْا وقد استعرضنا على مدار الفصل السابق ملامح الدساتير المصرية المتعاقبة وأبرز محطات مسيرة التطور السياسي في مصر منذ مطلع القرن التاسع عشر، نتحول في هذا الفصل من الماضي إلى الحاضر، وننتقل إلى دراسة وشرح النظام الدستوري الذي قامت ثورة 25 يناير 2011 في ظله، وهو النظام الذي أقامه وجسده الدستور الدائم لجمهورية مصر العربية الصادر في 11 سبتمبر 1971. ولن يقتصر هذا الفصل على استعراض ملامح دستور 1971 مثلما فعلنا في عرضِنا للدساتير المصرية السابقة، وإنما سنقدم للقارئ كذلك رؤية نقدية لهذا الدستور وللمبادئ التي قام عليها ولنظام الحكم الذي أسس له، وذلك لنبيّن المثالب التي شابت هذا الدستور وأوجه العوار التي أتسم بها هيكله وبنيانه.
تنبع أهمية التعرف على دستور 1971 ونصوصه من حقيقة أن إعداد دستور جديد ينقل مصر وشعبها من الجمهورية الأولى التي سقطت بقيام ثورة 25 يناير إلى الجمهورية الثانية يستلزم إلماماً وثيقاً بالواقع الدستوري القائم والتعرف على أدق تفاصيله واستيعابه بكل أبعاده. ذلك لأن بناء المستقبل ليس عملية نظرية بحتة ولا تحدث في فراغ، وإنما تتم في إطار واقع قائم وملموس، وعلى خلفية إرث دستوري وسياسي وثقافي ينبغي أخذه في الاعتبار، وفي ظل مؤسسات دستورية وسياسية موجودة وفاعلة. ومن هنا، فإن مرادنا في هذا الفصل هو تعريف القارئ بالنظام الدستوري المصري القائم بمختلف عناصره ومكوناته، وإبراز أوجه الاعوجاج التي شابت بنيانه، ومن ثم تقديم توصيات واقتراحات محددة حول المستقبل الدستوري لمصر ورسم الملامح العامة والخطوط العريضة للدستور الجديد الذي نحلم به لبلادنا، والذي نرى أنه يمكن أن يسهم في تلبية طموحات الشعب المصري.
كما أشرنا في الفصل الثاني من هذا الكاتب، والذي تناولنا فيه رؤيتنا للدعائم الثلاثة للجمهورية المصرية الثانية، وهي الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان، فإن الدساتير ليست إلا عنصراً واحداً من بين مكونات عديدة تشكل في مجموعها أسس الحياة الديمقراطية السليمة في أي مجتمع. فالدساتير والمبادئ التي ترسيها لا تعمل في فراغ، وإنما تأتي على قمة هرم من القوانين والتشريعات المنظمة لمختلف مناحي الحياة في البلاد. ومن هنا، يتحتم علينا، حتى تكتمل رؤيتنا للمستقبل الدستوري لمصر، أن نتناول بالشرح والتعليق مجموعة من أهم الأطر القانونية والتشريعية المكلمة للدستور والتي تشكل آلية وضع مبادئ الدستور ومواده موضع التنفيذ وتحدد شكل وأسلوب تطبيق نصوصه وأحكامه.
وسنستهل هذا الفصل بتناول الوضع الدستوري الذي خلفته الثورة الشعبية التي قامت يوم 25 يناير 2011، والأثر الذي أحدثته تلك الثورة على الإطار الدستوري المنظم للحياة في مصر، حيث نتعرض للجدل الفقهي والمجتمعي الذي ثار حول ما إذا كان الدستور الدائم لجمهورية مصر العربية الصادر في عام 1971 قد سقط بنجاح الثورة وبتخلي الرئيس السابق محمد حسني مبارك عن رئاسة الجمهورية.
وسننتقل بعد ذلك إلى تناول دستور 1971 بالشرح والتحليل والنقد، وهو ما سنبدؤه بعرض الظروف التاريخية التي واكبت صدور الدستور، وثم نستتبعه بمناقشة أبواب هذا الدستور كل على حده، بداية بالباب الأول الذي يحدد طبيعة وهوية الدولة، حيث سنطرح رؤيتنا بشأن إشكالية علاقة الدين بالدولة وبالسياسية. ثم نتحول إلى الباب الثاني الخاص بالمقومات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع المصري، ومنه ننتقل إلى الباب الثالث المخصص للحقوق والحريات والواجبات العامة، والذي سنحاول من خلال تناولنا لما ورد به من أحكام أن نبرز ملامح العوار الدستوري والقانوني التي ساهمت في تهيئة البيئة لارتكاب انتهاكات منهجية لحقوق الإنسان في ظل النظام الحاكم قبل ثورة 25 يناير 2011.
نتصدى بعد ذلك لأحد أهم الأسئلة التي سيتعين على المشرع الدستوري المصري أن يتناولها وهو مقبل على إعداد ووضع الدستور المصري الجديد، ألا وهو نظام الحكم الذي ستتبناه الجمهورية المصرية الثانية. وسنعرض على القارئ الكريم في مستهل حديثنا حول هذا الموضوع خصائص أنظمة الحكم المختلفة التي عرفها العالم وإيجابيات وسلبيات كل منها، وسنطرح رؤيتنا للنظام الأنسب لمصر والأكثر تماشياً مع واقعها السياسي والثقافي والاجتماعي. وسنقوم بعد ذلك باستعراض نظام الحكم الذي أقامه دستور 1971 وسنلقي الضوء على أوجه العوار التي شابت هذا النظام وهيكله، وسنقترح الخطوات التي يمكن اتخاذها لبناء نظام الحكم الذي نرى أنه الأصلح لمصر في هذه اللحظة التاريخية الفارقة. وكما أشرنا آنفاً، سنطرح على مدار هذا الفصل وعند تناولنا لأحكام دستور 1971 ولنصوص الوثائق الدستورية التي صدرت منذ قيام ثورة 25 يناير 2011، أفكارنا ومقترحاتنا بشأن شكل وهيكل الدستور المصري الجديد، وهي المقترحات التي نأمل أن تسهم، ولو بالقدر القليل، في رسم ملامح الجمهورية الثانية في مصر والتي نحلم بأن ينعم فيها أبناء هذا الشعب العظيم بحقوقهم وحرياتهم وعزتهم وكرامتهم.
المبحث الأول
النظام الدستوري المصري القائم بعد ثورة 25 يناير 2011
طالب الشعب المصري على مدار الأيام الثمانية عشرة لثورة 25 يناير 2011 بإسقاط النظام الحاكم في مصر بكل عناصره ومكوناته. وبطبيعة الحال لم يقتصر هذا المطلب الشعبي على إسقاط رأس النظام فحسب، وإنما امتد كذلك إلى غيره من رموز النظام وأركانه. كما فطن الشعب المصري إلى أن إبعاد رئيس الجمهورية وأقطاب نظامه السياسي عن السلطة لن يفي بمتطلبات التغيير الشامل الذي قامت الثورة من أجله، وإنما يستلزم الأمر كذلك تغيير الإطار القانوني المنظم للحياة في البلاد، ألا وهو الدستور. وبالفعل خرجت العديد من الدعوات خلال الثورة لإسقاط الدستور الدائم لجمهورية مصر العربية الصادر في عام 1971، والشروع في كتابة دستور جديد يعكس روح العصر ويلبي طموحات وأمال الشعب المصري.
رغم وجود ما شابه الإجماع الشعبي خلال الثورة على مطلب سن دستور جديد للبلاد، واجه تحقيق هذا المطلب عقبة كبيرة تتمثل في مواد دستور 1971 ذاته، والتي تنظم عملية تعديل الدستور أو مراجعته. فبادئ ذي بدء لم يرد في الدستور أي مادة تسمح بالدعوة لكتابة دستور جديد، وإنما اقتصرت الأحكام المتعلقة بمراجعة الإطار الدستوري القائم في مصر على المادة 189، والتي منحت كل من رئيس الجمهورية ومجلس الشعب حق طلب تعديل الدستور وليس إلغائه أو إعداد بديل له. وهنا برزت إشكالية سياسية ودستورية عويصة أمام قوى الثورة المصرية، فمن ناحية كان الثوار يطالبون برحيل الرئيس عن سدة الحكم، ومن ناحية أخرى كانوا يدعون لإصلاحات دستورية شاملة تُقيم حياة ديمقراطية سليمة في البلاد، وهما المطلبان اللذان اتضح استحالة تنفيذهما في آن واحد في ظل دستور 1971، وذلك لأن جميع مواد الدستور المنظمة لعملية انتقال السلطة في حالة خلو منصب رئيس الجمهورية حظرت ومنعت أي محاولة لتعديل الدستور أو مراجعته إلا بعد انتخاب رئيس جديد للبلاد.
وحتى تتضح المعضلة الدستورية التي واجهت مصر أثناء الثورة، يتعين أن نتعرف على السيناريوهات المختلفة التي وضعها دستور 1971 للتعامل مع حالات غياب رئيس الجمهورية عن منصبه، وعلاقة تلك الأحكام بآليات تعديل أو مراجعة الدستور:
السيناريو الأول: المادة 82: "إذا قام مانع مؤقت يحول دون مباشرة رئيس الجمهورية لاختصاصاته أناب عنه نائب رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء عند عدم وجود نائب لرئيس الجمهورية أو تعذر نيابته عنه. ولا يجوز لمن ينوب عن رئيس الجمهورية طلب تعديل الدستور أو حل مجلس الشعب أو مجلس الشورى أو إقالة الوزارة".
ويتبين من هذا النص، أنه كان سيستحيل على الرئيس السابق حسني مبارك أن يوكل إلى السيد اللواء/ عمر سليمان رحمه الله الذي شغل منصب نائب رئيس الجمهورية في 29 يناير 2011 (أنظر قرار تعيين سيادته في الملحق الوثائقي) مهمة الدعوة لتعديل الدستور لأنها من الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية وحده دون غيره، والتي لا يجوز أن يفوض أي شخص آخر فيها، بمن فيهم نائب رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء اللذين يمكن أن ينيبهم لأداء مهام رئاسة الدولة عند وجود مانع مؤقت يحول دون تأدية الرئيس لمهامه. أي أن إجراء إصلاحات دستورية كان يتطلب بقاء الرئيس في منصبه، وهو خيار لم يكن مأمون الجانب بالنسبة للثوار 25 يناير لخشيتهم من ترك ميدان التحرير وتعقبهم أمنياً، ولتحسبهم لاحتمال التفاف النظام على مطالبهم وتراجعه عن وعوده بالإقدام على إصلاحات دستورية شاملة في حالة فضهم لاعتصامهم وتركهم لميدان التحرير. ورغم ذلك، أعلن في 8 فبراير 2011 عن تشكيل لجنة قضائية برئاسة السيد المستشار/ سري صيام رئيس مجلس القضاء الأعلى لاقتراح تعديل بعض أحكام الدستور، وهي اللجنة التي لم تكمل عملها لتخلي الرئيس عن منصبه في 11 فبراير وتشكيل لجنة بديلة لهذه اللجنة في 14 فبراير 2011 (أنظر الملحق الوثائقي).
السيناريو الثاني: المادتان 83 و84: تنص أولى هاتين المادتين على ما يلي: "إذا قدم رئيس الجمهورية استقالته من منصبه، وجه كتاب الاستقالة إلى مجلس الشعب". أما المادة 84، فتقول: "في حالة خلو منصب رئيس الجمهورية أو عجزه الدائم عن العمل يتولي الرئاسة مؤقتاً رئيس مجلس الشعب، وإذا كان المجلس منحلاً حل محله رئيس المحكمة الدستورية العليا، وذلك بشرط ألا يرشح أيهما للرئاسة، مع التقيد بالحظر المنصوص عليه في الفقرة الثانية من المادة 82. ويتم اختيار رئيس الجمهورية خلال مدة لا تتجاوز ستين يوما من تاريخ خلو منصب الرئاسة".
أما هذا السيناريو، فيتصدى لحالة خلو منصب رئيس الجمهورية لأي سبب، بما في ذلك الوفاة أو الاستقالة أو عجز الرئيس بشكل دائم عن أداء مهام عمله. وفي أي من هذه الحالات، تنتقل السلطة إلى رئيس مجلس الشعب، الذي يتولى الرئاسة مؤقتاً إلى أن تُجرى انتخابات جديدة لاختيار رئيساً جديداً للبلاد. وقد اصطدم هذا الخيار بعقبتين حالتا دون اللجوء إليه، أولهما أن مجلس الشعب القائم آنذاك كان مطعوناً في شرعيته بسبب التجاوزات الفادحة التي شهدتها الانتخابات التشريعية التي أجريت في نوفمبر 2010، وثانيها، أن المادة 83 حظرت على رئيس المجلس الشعب طلب تعديل الدستور خلال توليه رئاسة الجمهورية مؤقتاً، وهو ما يعني أنه حتى لو كانت قوى الثورة على استعداد للقبول بتولي رئيس مجلس الشعب الرئاسة مؤقتاً إلى أن ينتخب رئيساً جديداً، فإن هذه الانتخابات الرئاسية كانت ستُجرى وفق أحكام المادة 76 من دستور 1971، والتي كانت تضع شروطاً مجحفة وتقصر الترشيح واقعياً على مرشحي الحزب الوطني الحاكم آنذاك، وهو ما كان الثوار يرفضونه رفضاً باتاً.
وتعددت المقترحات والتصورات طوال أسابيع الثورة لكيفية الخروج مع هذا المأزق الدستوري والوضع السياسي المعقد الناجم عن المطالب الشرعية لجموع الشعب المصري برحيل الرئيس وتغيير الدستور، فطرح البعض فكرة نقل كافة صلاحيات الرئيس إلى نائبه، مع بقائه كرئيس شرفي للتوقيع على طلب إجراء تعديلات دستورية بما يسهل الانتقال السلمي للسلطة، إلا أن الثوار تحفظوا على أي حل للأزمة يبقي الرئيس في منصبه لتخوفهم من بطش الأجهزة الأمنية بهم في حالة إنهاء المظاهرات في ميادين مصر المختلفة. كما اقترح آخرون أن يقرر الرئيس حل مجلس الشعب وثم يستقيل من منصبه لتجنب أن يتولى رئيس المجلس المطعون في شرعيته الرئاسة مؤقتاً، وهو الحل الذي كان سيأتي برئيس المحكمة الدستورية العليا إلى منصب الرئاسة بشكل مؤقت لحين إجراء انتخابات رئاسية، إلا أن هذا الطرح اصطدم هو الآخر بنص المادة 84 من الدستور الذي حظر على رئيس المحكمة الدستورية تعديل الدستور خلال توليه الرئاسة مؤقتاً، أي أن الانتخابات الرئاسية كانت ستجرى وفق المادة 76 بعوارها القائم ودون أن يطالها أي إصلاح.
واستمر الحال على ما هو عليه إلى أن باءت كافة محاولات النظام لاحتواء الأزمة وامتصاص غضب الجماهير بالفشل، وقرر رئيس الجمهورية محمد حسني مبارك يوم الجمعة الموافق 11 فبراير 2011 "تخليه عن منصبه كرئيس لجمهورية مصر العربية، وتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة مقاليد البلاد"، وهو القرار الذي أذاعه على الأمة المصرية نائب رئيس الجمهورية اللواء/ عمر سليمان في بيان مقتضب. واللافت أن قرار الرئيس السابق لم يأت في كتاب مذيّل بتوقيعه أو استقالة وجهها إلى مجلس الشعب مثلاً، وإنما ورد في خطاب مرسل إلى السيد المشير/ محمد حسين طنطاوي القائد العام للقوات المسلحة ورئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة من السيد/ عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية لإبلاغه بقرار الرئيس (أنظر الملحق الوثائقي).
وتستوقفنا هنا ملاحظتين، أولهما استخدام عبارة "تخلي" الرئيس السابق عن منصبه، فهي عبارة لم ترد في دستور 1971 الذي نص على إمكانية أن يقدم الرئيس "استقالته" بموجب كتاب يوجه إلى مجلس الشعب. وأغلب الظن أنه رئي عدم استخدام عبارة "الاستقالة" لما يستوجبه ذلك من أن يبعث الرئيس بخطاب الاستقالة إلى مجلس الشعب الذي يفترض أن يتولى رئيسه منصب رئيس الجمهورية مؤقتاً، وهو الأمر الذي كان سيُقابل برفض شعبي عارم. أما الملاحظة الثانية، وهي الأهم، فتتمثل في قيام الرئيس بتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد، وهو إجراء لم يرد ذكره في دستور 1971 ويعد متجاوزاً لكافة الأطر والوسائل الدستورية لانتقال السلطة. ويمكن تفسير هذا الإجراء بأنه جاء لتجنب التعقيدات الدستورية التي كان سيحدثها نقل السلطة وفق نصوص الدستور والتي ناقشناها آنفاً. والأهم من هذه الاعتبار القانوني، فإن هذا التصرف يعكس واقع موازين القوى على المشهد السياسي المصري وحقيقة أن المؤسسة العسكرية المصرية – بموقفها المشرف المنحاز لثورة الشعب المصري، والإجماع الشعبي الذي حظيت خلال الثورة، وبما تكنه لها الأمة المصرية من إجلال وتقدير واحترام – كانت الأقدر للتصدي للتحديات الجسيمة التي واجهت الأمة المصرية في تلك الأيام العصيبة ولتحمل مسئولية العبور بمصر إلى بر الأمان بعد الثورة التي قادها الشعب المصري وانحازت لها قواته المسلحة.
استيقظت مصر على واقع جديد يوم 12 فبراير 2011، فقد رحل الرئيس، وكُلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد، وهو الكيان – أي المجلس الأعلى – الذي لم يرد ذكره في دستور 1971. فلم يكن أحد يعرف ما هي صلاحيات هذا الجهاز الذي بات يحكم مصر، وما هي الخطوات السياسية المزمع اتخاذها في الأيام والشهور التالية لنجاح ثورة 25 يناير في إسقاط نظام الحكم. وكانت أولى الخطوات الدستورية التي اتخذها المجلس الأعلى للقوات المسلحة هي إصدار إعلان دستوري يوم 13 فبراير 2011 لوضع الملامح العامة لخارطة الطريق السياسي التي ستمضي عليها مصر خلال الشهور القليلة التالية للثورة (أنظر الملحق الوثائقي). وجاء هذا الإعلان الدستوري، والذي ذيّل بتوقيع المشير/ محمد حسين طنطاوي القائد العام للقوات المسلحة ورئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، مكوّناً من تسع مواد، كان أولها إعلان تعطيل العمل بأحكام دستور 1971، وثانيها التأكيد على تولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة مسئولية إدارة شئون البلاد لمدة مؤقتة تمتد إما لستة أشهر أو إلى أن تجرى الانتخابات البرلمانية والرئاسية. كما تم بموجب الإعلان الدستوري حل مجلسي الشعب والشورى، ومنح المجلس الأعلى للقوات المسلحة سلطة إصدار مراسيم لديها قوة القانون خلال فترة توليه مسئولية إدارة شئون البلاد، والتأكيد على التزام مصر بكافة المعاهدات الدولية التي هي طرف فيها. أما على الصعيد الإصلاحيات الدستورية، نص الإعلان على تشكيل لجنة لتعديل بعض مواد دستور 1971 والإعداد لاستفتاء الشعب المصري في هذه التعديلات.
وبالفعل، بدأ المجلس الأعلى للقوات المسلحة في تنفيذ ما ورد في هذا الإعلان الدستوري من إجراءات، فأعلن يوم 14 فبراير 2011 عن تشكيل لجنة من الفقهاء القانونيين برئاسة المستشار/ طارق البشري لإعداد تعديلات لمجموعة من مواد دستور 1971 (أنظر الملحق الوثائقي للإطلاع على قرار تشكيل اللجنة والتكليف الصادر لها)، وهي المواد 76 و77 و88 و93 و179 و189، بالإضافة لما ترى اللجنة أنه يتعين مراجعته من أحكام لتتواءم من التعديلات التي ستجريها على المواد التي كُلفت بمراجعتها. واستمر عمل اللجنة أثنى عشر يوماً خلصت بعدها إلى اقتراح لتعديل تسع مواد من دستور 1971، يمكن إيجاز أهم ما ورد فيها يلي: (أنظر الملحق الوثائقي للإطلاع على نص التعديلات)
1. المادة 75: عدلت الشروط الواجب توافرها فيمن يترشح لمنصب رئيس الجمهورية ليحظر ترشح من حمل هو أو أي من والديه جنسية غير مصرية أو من هو متزوج من غير مصري.
2. المادة 76: عدلت إجراءات انتخاب رئيس الجمهورية لتجعلها أكثر يسراً، فاشترطت حصول المرشح على توقيع 30 ألف مواطناً في 15 محافظة كحد أدنى لقبول الترشيح، أو توقيع 30 من أعضاء مجلسي الشعب والشورى، أو أن يكون مرشحاً من قبل حزب سياسي له مقعد واحد على الأقل في أي من مجلسي الشعب والشورى.
3. المادة 77: خفّضت مدة الرئاسة من 6 سنوات إلى 4 سنوات.
4. المادة 88: أقرت الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات.
5. المادة 93: جعلت المحكمة الدستورية العليا هي الجهة المختصة بالفصل في الطعون المقدمة في نتائج انتخابات مجلسي الشعب والشورى.
6. المادة 139: ألزمت رئيس الجمهورية بتعيين نائباً لرئيس الجمهورية بعدما كان هذا الإجراء جوازياً.
7. المادة 179: تقرر إلغاء هذه المادة والتي كانت تختص بإجراءات مكافحة الإرهاب.
8. المادة 148: تعديل إجراءات وآليات إعلان ومد حالة الطوارئ.
9. المادة 189 والمادة 189 مكرر: وضع آليات لإلزام أول مجلس الشعب المنتخب بعد إقرار هذه التعديلات لانتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد.
أثارت هذه التعديلات الدستورية جدلاً واسعاً وأحدثت استقطاباً شديداً في المجتمع المصري بين مؤيد لها ومنادياً بالتصويت لصالحها ورافضاً لها وداعياً للتصويت ضدها. وتعددت الآراء والدفوع التي ساقها جانبي هذا النقاش المجتمعي المحتدم الذي شهدته مصر على مدار الأسابيع التي فصلت بين الإعلان عن هذه التعديلات والاستفتاء الذي أجري عليها يوم 19 مارس 2011. فقال البعض أنه من الناحية النظرية لا يمكن أن تجرى تعديلات على دستور أسقطته الثورة ونزعت عنه الشرعية، فضلاً عن أن انتقال السلطة من الرئيس السابق إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 11 فبراير 2011 هو إجراء غير دستوري يؤكد سقوط دستور 1971 وعدم قابليته للإصلاح أو التعديل. ورأى آخرون أن سقوط النظام الحاكم في مصر يعني بشكل تلقائي سقوط الدستور بالكامل وعدم إمكانية تعديله أو ترميمه، وأن البلاد تحكمها طوال الفترة الانتقالية "شرعية الثورية" إلى حين صدور دستور جديد يعيد مصر إلى الشرعية الدستورية، ودفع آخرون بأن التعديلات المقترحة من قبل اللجنة لا تعدو كونها عملية "ترقيع" لدستور شابه الكثير من العوار، وأن منطق الثورة يقتضي تجاوز دستور 1971 برمته والانتقال فوراً إلى إعداد دستور جديد للبلاد من خلال انتخاب أو تعيين جمعية تأسيسية تتصدى لهذه المهمة، فيما انتقد بعض المعلقين مضمون التعديلات لما اعتبروا أنها عيوب اعترت بعض موادها.
وقد اقترنت المواقف المعلنة إزاء هذه الحزمة من التعديلات الدستورية بتباين ملحوظ في تصورات القوى السياسية المختلفة لكيفية إدارة الفترة الانتقالية والإجراءات التي يتعين اتخاذها للتحول نحو الحياة الديمقراطية، فقد أعرب العديد من السياسيين عن تحفظات على خريطة الطريق السياسية التي وضعها المجلس الأعلى للقوات المسلحة والقاضية بإجراء انتخابات تشريعية يتم بعدها وضع دستور جديد، ودعوا لإعادة النظر في هذه الخطة وطرحوا عدة بدائل لها، كتعيين مجلس رئاسي مدني يحكم مصر لفترة انتقالية يتم خلالها وضع دستور جديد، أو الإسراع بالانتخابات الرئاسية وثم وضع دستور جديد يتبعه إجراء الانتخابات التشريعية، فيما رأت قوى سياسية أخرى أن الوسيلة الأنجع للانتقال السريع إلى الحكم الديمقراطي تكمن في الموافقة على التعديلات الدستورية بما تشمله من إجراءات وخطوات طرحها المجلس الأعلى للقوات المسلحة. والملاحظ في هذا النقاش الذي دار في مصر أن جميع أطراف المعادلة السياسية أجمعت على مبدأ إسقاط دستور 1971 وعلى المطالبة بإعداد دستور جديد يحكم مصر بعد ثورة 2011، إلا أنها اختلفت في كيفية الوصول إلى هذا الهدف وآليات تحقيقه.
توافد المصريون على صناديق الاقتراع يوم السبت الموافق 19 مارس 2011 للإدلاء بأصواتهم في استفتاء على التعديلات الدستوري، حيث شارك في الاستفتاء الذي أجمعت القوى السياسية وكافة المراقبين على نزاهته أكثر من 18 مليون مواطن، أي بنسبة 41% ممن يحق لهم التصويت في مصر. وجاءت النتيجة بموافقة 77% مما شاركوا على التعديلات في مقابل 23% رفضوها. وكان المتوقع أن يتم في أعقاب الاستفتاء على هذه التعديلات الدستورية إعادة تفعيل دستور 1971 المعطل منذ يوم 13 فبراير 2011، إلا أن العكس هو الذي حدث. ففور الإعلان عن نتيجة الاستفتاء أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة بياناً يفيد بأنه تقرر إعداد إعلان دستوري جديد "لتنظيم السلطات في المرحلة الانتقالية القادمة يتضمن أحكام المواد التي وافق عليها الشعب للعمل بمقتضاها وذلك لحين انتخاب السلطة التشريعية وانتخاب رئيس الجهورية". وبالفعل، صدر يوم 30 مارس 2011 إعلان دستوري مكون من 63 مادة موقع من قبل القائد العام للقوات المسلحة ورئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهو الإعلان الذي يضع الأسس العامة لنظام الحكم ويوضح صلاحيات السلطات العامة ويقرر المهام الموكلة للمجلس الأعلى خلال الفترة الانتقالية (أنظر الملحق الوثائقي للإطلاع على الإعلان الدستوري).
ومن التفسيرات التي طرحت لأسباب إصدار هذا الإعلان الدستوري هو أن النتيجة المنطقية التي كان يتعين أن يفرزها كل من الإعلان الدستوري الصادر يوم 13 فبراير 2011 (الذي أعلن تعطيل – وليس إسقاط – دستور 1971)، والاستفتاء على تعديلات بعض مواد الدستور، هي إعادة إحياء دستور 1971 والعودة للعمل بمقتضى أحكامه. وكان سيعني ذلك نقل السلطة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى رئيس المحكمة الدستورية العليا، وذلك بموجب المادة 84 التي تنص على أنه إذا خلا منصب رئيس الجمهورية تنتقل السلطة إلى رئيس مجلس الشعب أو إلى رئيس المحكمة الدستورية العليا إذا كان المجلس منحلاً، وذلك بشكل مؤقت لحين إجراء انتخابات رئاسية في غضون 60 يوماً. وبالتالي، يرجح البعض أن يكون المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد لجأ إلى إصدار الإعلان الدستوري الثاني المؤرخ في 30 مارس 2011 لتعضيد شرعية توليه مقاليد إدارة البلاد، ولتحديد مهامه وسلطاته والتي أوردها الإعلان الدستوري بالتفصيل، وهو ما سيسهم كله في إضفاء الشرعية بشكل كامل على خارطة الطريق السياسية للفترة الانتقالية التي تبناها المجلس الأعلى والقاضية بإجراء الانتخابات التشريعية أولاً ثم قيام مجلسي الشعب والشورى بانتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد.
وجه بعض المراقبين انتقادات لهذا الإعلان الدستوري وما احتواه من أحكام وما نص عليه من خطوات سياسية يتعين اتخاذها خلال المرحلة الانتقالية. فتساءل البعض عن مدى مشروعية قيام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتعديل بعض النصوص التي وافق عليها الشعب في استفتاء 19 مارس 2011، حيث وردت، مثلاً، المادة 60 من الإعلان الدستوري مختلفة بعض الشيء عن المادتين 189 و189 مكرر من دستور 1971 التي وافق الشعب المصري على تعديلهما، فتم دمج المادتين المعدلتين في نص واحد، وأصبح اجتماع مجلسي الشعب والشورى المخصص لانتخاب جمعية تأسيسية لإعداد الدستور الجديد للبلاد بدعوة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة. كما تحفظ مراقبون وسياسيون آخرون على ما نص عليه الإعلان الدستوري بشأن انتخاب مجلسي الشعب والشورى أولاً ثم انتخاب جمعية تأسيسية لوضع الدستور الجديد، وذلك بحجة أنه لا يجوز لإحدى السلطات العامة – التي يفترض أن شرعيتها وصلاحياتها تنبع أصلاً من الدستور – أن تهيمن على عملية إعداد الدستور. فالدستور، وفق هذا الرأي، هو الأساس الذي تنبني عليه مؤسسات الدولة، بما يعني أنه لا يستقيم أن تنتخب إحدى هذه المؤسسات قبل وجود دستور للبلاد. وقال آخرون أن انتخاب السلطة التشريعية أولاً ثم وضع دستور جديد سيحتم إجراء انتخابات تشريعية جديدة فور إقرار الدستور الجديد، وذلك لأن الدستور سيؤسس نظاماً سياسياً جديداً وقد يغير في صلاحيات وسلطات وتشكيل مؤسسات الدولة، بما يتطلب حل مجلسي الشعب والشورى و إجراء انتخابات جديدة على أساس الدستور الجديد. كما خشي بعض السياسيين من أن تفرز الانتخابات التشريعية برلماناً لا يعبر عن التيارات السياسية المختلفة في الشارع المصري، وإنما يعكس القدرات التنظيمية المتفاوتة للقوى الفاعلة على المسرح السياسي، وهو ما يهدد – وفق هؤلاء – باستئثار تيار معين بعملية إعداد الدستور.
في مواجهة هذه الآراء، أيدت طائفة من القوى السياسية وفريق من الخبراء إجراء الانتخابات التشريعية قبل وضع الدستور، وذلك على أساس أن قيام مجلسي الشعب والشورى المنتخبين من قبل الشعب المصري باختيار الجمعية التأسيسية سيعني أن الدستور الجديد سيأتي كنتاج لعملية ديمقراطية حقيقية تعبر عن آراء وتوجهات الشعب المصري، وأن طريقة أخرى لتعيين الجمعية التأسيسية ستفتقد للشفافية وللديمقراطية. هذا، بالإضافة إلى تمسك أصحاب هذا الرأي بأن إعداد الدستور الجديد قبل الانتخابات التشريعية سيعد التفاف على إرادة الشعب الذي قال كلمته في استفتاء يوم 19 مارس 2011، ووافق على خارطة الطريق القاضية بانتخاب السلطة التشريعية أولاً ثم إعداد الدستور الجديد. كما قال آخرون أن التعديلات التي أدخلها الإعلان الدستوري على النصوص التي وافق عليها الشعب في الاستفتاء لم تكن جوهرية، وإنما اقتصرت على مراجعات في الصياغة لتجعل هذه النصوص متوائمة ومتناسقة مع الإعلان وما أورده من أحكام.
ولن نتعرض هنا لما جاء به الإعلان الدستوري المطول الصادر من مواد ونصوص لأننا سنتناول الأحكام الواردة به كل على حدة بالشرح والنقد في معرض تعليقنا على مدار هذا الفصل على دستور 1971 ونظام الحكم الذي أقامه، علماً بأنه صدر في 17 يونيو 2012 أثناء إعداد هذا المؤلف للطباعة والنشر إعلان دستوري مكمل عَدل بعض نصوص أحكام الإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس 2011 (انظر المحق الوثائقي). ولكن يظل التساؤل الذي يتعين الإجابة عليه هو: هل سقط دستور 1971 بفعل الثورة التي قامت يوم 25 يناير 2011؟ وما هي الوضعية الدستورية القائمة في مصر في الفترة الممتدة من 11 فبراير 2011، وهو تاريخ تخلي الرئيس السابق حسني مبارك عن منصبه، إلى أن صدر الدستور الجديد للبلاد؟
احتل هذا التساؤل موقع الصادرة في النقاش العام الذي ساد في مصر خلال الأسابيع التي تلت ثورة 25 يناير وبالذات في الفترة السابقة للاستفتاء على التعديلات الدستورية الذي أجري يوم 19 مارس 2011، حيث انقسم الشارع المصري، كما أوضحنا سابقاً، بين مؤيد لهذه التعديلات ومعارض لها. ومن بين الدفوع التي استند إليها معارضي التعديلات الدستورية أنه لا يجوز تعديل دستور سقط بفعل الثورة، وأنه لا مفر من المضي في إعداد دستور جديد للبلاد. وفي المقابل، قال آخرون أن دستور 1971 لم يسقط، وانه مازال الدستور الساري في مصر، وأنه يجوز إدخال تعديلات عليه، وذلك لأن الثورات لا تؤدي بالضرورة إلى إسقاط الدساتير.
ومن جانبنا، فرغم إننا نرى وجاهة هاذين الرأيين، إلا أننا نميل للقول أن كليهما لا يعبرا بشكل دقيق وكامل عن الوضع الدستوري السائد في مصر في الفترة الممتدة من 11 فبراير 2011 إلى تاريخ صدور الدستور الجديد للبلاد، وهو الوضع الذي نرى أنه يتسم بقدر كبير من الضبابية والالتباس وعدم الوضوح. وبالتحديد، نرى أن هناك أسباباً ودفوعاً منطقية وقوية تؤيد القول بأن دستور 1971 سقط بسقوط النظام الحاكم في مصر، في مقدمتها أن ما شهدته مصر منذ اندلاع المظاهرات والاحتجاجات يوم 25 يناير 2011 إلى أن تخلى الرئيس السابق حسني مبارك عن الحكم كان ثورة شعبية نجحت في إسقاط نظام الحكم برمته بمختلف أركانه وعناصره، بما في ذلك الدستور القائم في البلاد، والذي يمثل العقد المبرم بين الشعب وحاكمه، فبسقوط الحاكم سقط العقد وانتفى أثره. ويعضد من هذا الدفع أن دستور 1971 أكد في مادته الثالثة على المبدأ الراسخ والثابت بأن "السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات"، أي أن الشعب يحق له، بوصفه المتمتع بالسيادة والمهيمن عليها، أن يسقط النظام والدستور، وأن يلغي العقد الذي مارس الحاكم موجبه سلطاته وصلاحياته. وبالإضافة إلى تلك الدفوع، فإنه ما من شك أن طريقة انتقال السلطة من الرئيس السابق حسني مبارك إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة تعد إجراء يتجاوز الدستور ويخالف نصوصه وأحاكمه التي نظمت آليات انتقال سلطات رئيس الجمهورية وتصدت لكافة السيناريوهات الممكنة لخلو هذا المنصب، الأمر الذي يعني ضمنياً أن الدستور سقط وانتهت صلاحيته يوم 11 فبراير 2011 نتيجة لانتقال السلطة بشكل تنتفي عنه الشرعية الدستورية، وإن كان يتمتع بقدر كبير من "الشريعة الثورية" نظراً للتأييد الشعبي الجارف لهذه الخطوة ومباركته لتولي القوات المسلحة مسئولية إدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية.
وفي مواجهة هذه الدفوع التي تدعم الرأي القائل بأن دستور 1971 سقط بسقوط النظام، لا يمكننا إنكار أو تجاهل الشواهد والوقائع التي تجعلنا نتمهل في الجزم والقطع بشكل حاسم بأن دستور 1971 لم يعد له أثر على المشهد المصري. فقد جاءت نصوص الإعلانين الدستوريين اللذين أصدرهما المجلس الأعلى للقوات المسلحة منذ توليه مسئولية إدارة البلاد لتومئ بأن دستور 1971 لم يسقط. فالمادة الأولى من الإعلان الدستوري الصادر في 13 فبراير 2011 نصت صراحة على "تعطيل العمل بأحكام الدستور"، أي أن الدستور مازال قائماً، وثم جاء الإعلان الدستوري الثاني الصادر في 30 مارس 2011 الذي لم يُشَر فيه إلى إسقاط دستور 1971، بل جاء مؤسساً على الإعلان الدستوري الأول من خلال الإشارة إلى ذلك الإعلان المؤرخ في 13 فبراير 2011 في الديباجة. وثالثاً، فإن إجراء تعديلات لمجموعة من مواد دستور 1971، واستفتاء الشعب بشأنها، وإقرارها بأغلبية 77% من الناخبين، يعد دليل وشاهد لا يمكن تجاهله أو تناسيه على أن الدستور لم ينحى جانباً ولم يوارى الثرى بعد سقوط النظام. وأخيراً، فإن من يطالع المواد الثلاثة والستين للإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس 2011 سيكتشف أن معظم أحكامه نقلت مباشرة من دستور 1971، وأن بقية فقراته أخذت من الدستور بعد أدخل تعديلات طفيفة عليها، وأضيف إليها المواد التي استفتي الشعب بشأنها يوم 19 مارس 2011 (وإن كانت بعض أحكامها قد عدلت). أي أن الإعلان الدستوري لم يكتف بوضع المبادئ الدستورية العامة لحماية الحقوق والحريات الأساسية ولتنظم الحياة السياسية في البلاد خلال المرحلة الانتقالية والتي عادة ما تقتصر عليها الإعلانات الدستورية الصادرة في مصل هذه الظروف، وإنما امتدت مواد الإعلان الدستوري إلى تفاصيل مهام ومسئوليات المؤسسات الرئيسية في الدولة وهي رئاسة الجمهورية والحكومة، والسلطتين التشريعية والقضائية، كما حددت شروط الترشح لرئاسة الجمهورية ولعضوية البرلمان، وهي كلها أمور أتى أغلبها مطابقاً لأحكام دستور 1971.
ومن هنا، فإننا نعود لما قلناه آنفاً بأن الوضع الدستوري القائم في مصر في الفترة بين تخلي الرئيس السابق مبارك عن منصبه وإلى صدور دستور جديد اتسمت بالالتباس وعدم الوضوح الشديدين. فمن ناحية، يستوجب قيام الثورة ونجاحها في إسقاط النظام أن يسقط الدستور، ومن ناحية أخرى صدرت إعلانات دستورية وإعلانات مكملة لتلك الإعلانات وأجري استفتاء شعبي على تعديلات دستورية تؤشر في مجملها إلى أن دستور 1971 مازال له أثر وبصمة على الإطار الدستوري المنظم للحياة في مصر. ومما سبق، فإننا نخلص إلى أن الحالة الدستورية في مصر خلال الفترة الممتدة من 11 فبراير 2011 إلى صدور الدستور الجديد، يمكن تشبيهها بأن دستور 1971 قد مات إكلينيكياً ولكنه لم يتوف ولم يوارى الثرى بعد، وأنه يمثل جزءاً من "نظاماً دستورياً" يتكون من دستور 1971 والإعلانين الدستوريين الصادرين في 13 فبراير 2011 و30 مارس 2011.
المبحث الثاني
دستور 1971: ظروف النشأة وطريقة الإعداد
يستلزم بناء المستقبل وتخيل ملامحه واستشراف آفاقه أن نلم بالواقع وحقائقه، فلا يمكن أن نصوغ المستقبل الدستوري لمصر دون أن نطل على حاضرها ونتعرف عليه بكل أبعاده وعناصره. لذلك، سنتناول على مدار بقية هذا الفصل دستور 1971 وسنشرح نظام الحكم الذي أقامه وطبيعة العلاقة التي أسسها بين السلطات العامة، كما سنبين ما نرى أنها أهم العيوب واخطر المثالب التي اعترت بنيان هذا الدستور الذي حكمت مصر بموجبه لأربعين عاماً وقامت في ظله ثورة 25 يناير، وسنتناول أيضاً أهم التعديلات والتغيرات التي أدخلت على هذا النظام الدستوري بموجب الإعلانات الدستورية التي صدرت منذ سقوط النظام الحاكم في مصر يوم 11 فبراير 2011. هذا، وسنطرح خلال تناولنا لأحكام الدستور ومواده مقترحات لكيفية معالجة أوجه العوار التي عانى منها الدستور، بالإضافة إلى بحث مجموعة من التعديلات التشريعية التي نرى أهمية النظر في إجرائها حتى توضع مصر على أول الطريق للتحول إلى الحياة الديمقراطية السليمة.
الفرع الأول: ظروف وضع دستور 1971:
رحل الرئيس جمال عبد الناصر عن دُنيانا في 28 سبتمبر 1970 والبلاد دون دستور متكامل يحكمها، وإنما كانت الدولة المصرية تعمل في ظل الدستور المؤقت لعام 1964 والذي نصت ديباجته على أنه يعتبر وثيقة مؤقتة إلى حين انتهاء مجلس الأمة من وضع دستور دائم لمصر. وقد حالت ظروف العدوان الإسرائيلي على مصر وعلى الدول العربية المجاورة لها في يونيو 1967 دون قيام مجلس الأمة بإعداد دستور جديد للبلاد، الأمر الذي دفع الرئيس الراحل عبد الناصر إلى إصدار بيان 30 مارس 1968 والقاضي بتأجيل وضع دستور جديد للبلاد على حين إزالة آثار العدوان. ومع وصول الرئيس الراحل أنور السادات إلى سدة الحكم تغيرت المعادلة السياسية وتبدلت موازين القوى على المسرح السياسي بشكل جعل إصدار دستور جديد لمصر من أولويات النظام الحاكم.
وتتلخص أهم هذه العوامل في ظروف وملابسات ما عرف بأزمة "مراكز القوى"، والتي كان أطرافها الرئيس السادات من ناحية ومجموعة من قيادات المؤسسات الحكومية والسياسية النافدة آنذاك من ناحية أخرى. وبالتحديد سعت مجموعة من الشخصيات التي كانت مقربة من الرئيس الراحل عبد الناصر إلى تقليص صلاحيات الرئيس السادات وتحويله إلى رئيس شرفي ورمزي في حين يتحكمون هم فعلياً في القرار السياسي ويسيطرون على مقاليد الحكم في البلاد. وكان من أبرز الشخصيات التي تآمرت على الرئيس الراحل أنور السادات نائب رئيس الجمهورية الأسبق وعضو اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي السيد / علي صبري، والسيد / سامي شرف والذي شغل لفترات طويلة منصب وزير شئون رئاسة الجمهورية، ووزير الحربية الفريق / محمد فوزي، ووزير الداخلية / شعراوي جمعة. ويتضح من تلك المناصب أن هذه الشخصيات كانت تتحكم في المؤسسات الأقوى والأهم في الدولة المصرية وأنها كانت تتمتع بنفوذ هائل في جميع أركان النظام. لذا، قام الرئيس السادات بإزاحتهم جميعاً عن الحكم في مايو 1971 وقدمهم للمحاكمة فيما عرف آنذاك بثورة التصحيح، وذلك كإشارة إلى تصحيح مسار ثورة 1952.
ولم تقتصر "ثورة التصحيح" على إبعاد رموز الحقبة الناصرية عن الحكم، وإنما اقترنت بمجموعة من الإجراءات والتحركات السياسية الأخرى، كرفع شعار دولة المؤسسات وسيادة القانون، والابتعاد عن حكم الفرد والـ "شللية"، وترسيخ حكم المؤسسات، فضلاً عن إطلاق الحريات العامة ومنع وضع أشخاص تحت المراقبة والتصنت على مراسلاتهم واتصالاتهم الشخصية دون إذن قضائي. وبطبيعة الحال، كان من المنطقي أن تشتمل هذه الخطوات الإصلاحية على الدعوة لإعداد دستور جديد ليحل محل الوثائق المؤقتة التي كانت قائمة آنذاك.
كان الإعلان عن إعداد دستور جديد لمصر وغيرها من الإجراءات السياسية التي اتخذت في مطلع السبعينيات جزءاً من خطة شاملة للرئيس السادات تهدف لإعادة إنتاج النظام الحاكم في مصر منذ ثورة 23 يوليو 1952 وترميم شرعيته التي اهتزت في السنوات الأخيرة لحكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. فقد تعرضت مصر خلال تلك الفترة لعدة أزمات وانتكاسات أصابت شرعية النظام الحاكم بشرخ جائر وألقت بظلال من الشك على كفاءته. وكانت أولى هذه الأزمات انهيار الجمهورية العربية المتحدة وما أحدثه ذلك من صدمة قوية للمشروع القومي العربي الذي قادته مصر وتبناه ورعاه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ولم تقتصر آثار انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة على الانتكاسة التي تعرض لها المشروع الوحدوي العربي، وإنما كشف الانفصال والطريقة التي تم بها والمظالم التي عبر عنها السوريون والتي أدت إلى انقلاب جيشهم على دولة الوحدة عن مدى الفساد الذي تغلغل في بنيان الدولة، وقدر الاعوجاج الذي اتسمت به طريقة إدارة شئون الحكم الذي اعتمد بالأساس على أهل الثقة ممن يدينون بالولاء المطلق لمن هم في السلطة بدلاً من اللجوء لأهل الخبرة القادرين على إدارة شئون المجتمع بكفاءة واقتدار.
وإذا كان انهيار الجهورية العربية المتحدة قد أحدث صدعاً في المشروع الإقليمي العربي لنظام 23 يوليو 1952، فإن حرب يونيو 1967 والهزيمة القاسية التي تلقتها مصر خلالها كانت بمثابة ضربة قاسمة للنظام الحاكم ومشروعه الوطني. فقد أظهرت الحرب فشل القيادة السياسية المصرية في الذود عن الوطن وكرامته، وإخفاقها في إدارة المجتمع، وذلك لأن الحروب ليست مجرد مواجهة بين جيشين تحسمها موازين العدد والعتاد، وإنما هي صدام شامل بين شعبين وأمتين بكل ما يتوافر لديهما من قدرات وإمكانيات وعناصر القوة بما فيها العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية. وبالتالي، فقد جسدت نتائج حرب 1967 إخفاق النظام الحاكم في تأسيس دولة مصرية عصرية وحديثة تتوافر لديها مكونات ودعائم القوة بمفهومها الشامل والواسع التي تمكنها من الدفاع عن أرض الوطن وصد أعدائه المتربصين به وتحقيق آمال الشعب المصري وطموحاته.
وقد عبر المصريون عن غضبهم الشديد إزاء ما آلت إليه أوضاع بلدهم في السنوات التالية لنكسة 1967، وخاصة في المظاهرات الضخمة التي خرجت في فبراير وأكتوبر 1968، وهو الغضب الذي تفاعل معه النظام وسعى للتجاوب له من خلال بيان 30 مارس 1968 الذي صدر كمحاولة لمراجعة أسس الحكم وشكله ولمنح هامش أكبر من حرية التعبير والنقد للأوضاع القائمة آنذاك. ولكن يظل أن ما حافظ على نظام يوليو 1952 وحماه من قيام ثورة شعبية عارمة هي الشخصية الكاريزمية والزعامة الطاغية والعشبية الجارفة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والتي وفرت قدراً من الطمأنينة للمصريين وحافظت على قدر من الأمل في إمكانية أن تنهض الأمة وتتجاوز ما تعرضت له من انتكاسات.
وبالتالي، لم يكن أمام الرئيس السادات ونظامه بعدما غيّب الموت الزعامة الكاريزمية للرئيس جمال عبد الناصر مفراً من إعادة إنتاج نفسه والبحث عن وسائل جديدة لترميم شرعيته التي شرخت واهتزت في السنوات الأخيرة من ستينيات القرن العشرين. ومن هنا كان القيام بمجوعة من الإجراءات كرفع شعر دولة المؤسسات، والسعي لإصدار دستور جديد ينظم عمل هذه المؤسسات، وإعلاء مبدأ سيادة القانون، والإعلان عن وقف الممارسات القمعية لبعض الأجهزة الأمنية، والتوجه تدريجياً – خاصة في السنوات التي تلت حرب أكتوبر 1973 المجيدة – نحو إبراز دور الدين كأحد أسس شرعية النظام، فضلاً عن فتح الباب في منتصف وأواخر السبعينيات للعمل الحزبي والابتعاد عن منهج التنظيم السياسي الواحد الذي ساد خلال العهد الناصري.
كانت هذه هي الظروف السياسية التي أحاطت بالدعوة لإصدار دستور 1971. أما نص الدستور نفسه وشكل نظام الحكم الذي أقامه، فهذا ما نستعرضه فيها يلي بقدر من التفصيل، وذلك لأهمية التعرف على خصائص الدستور الذي قامت في ظله ثورة 25 يناير 2011 وطالبت بإسقاطه. وسنسعى في معرض حديثنا عن هذا الدستور لإبراز أوجه العوار التي اعترت بنيانه ونصوصه، وذلك حتى يتفاداها المشرع الدستوري المصري الذي سيسهر على إعداد الدستور الجديد للبلاد. كما سنعرج على نظام الحكم الذي أقامه دستور 1971 والعلاقة التي أسس لها بين سلطات الدولة وأجهزتها وما عانت منه من تشوهات ساهمت في الحؤول دون قيام حياة ديمقراطية في مصر على مدار العقود الأربعة الأخيرة. وسنتطرق أيضاً قي إطار عرض مضمون الدستور وأبوابه ومواده المختلفة إلى التعديلات التي أدخلت على هذا الدستور على مدار العقود الأربعة الأخيرة، بما في ذلك التعديلات التي صدرت في الأعوام 1980، و2005، و2007.
الفرع الثاني: أسلوب وضع الدستور:
طلب الرئيس الراحل أنور السادات في 20 مايو 1971 من مجلس الأمة أن يضع دستوراً جديداً للبلاد، وهو ما استجاب له المجلس وكوّن لجنة من 80 عضواً من أعضائه لوضع الدستور، على أن يُسمح للجنة بأن تستعين بمن تراهم من أهل الخبرة والشخصيات العامة. وانقسمت هذه اللجنة العامة إلى أربعة لجان، هي: لجنة المقومات الأساسية للمجتمع والحريات والأخلاق، ولجنة نظام الحكم، ولجنة نظام الإدارة المحلية، ولجنة لتلقي مقترحات الجماهير. وبعد بدء عمل هذه اللجان الأربعة تم تكوين مجموعة كبيرة من اللجان الفرعية لمناقشة تفاصيل نصوص الدستور والمبادئ التي ستتضمنها. وشارك في هذه اللجان الفرعية العديد من أساتذة الجامعات والمفكرين ورجال الدين والمسيحي والإسلامي وسياسيين من مختلف التوجهات.
وانتهت هذه اللجان الفرعية من عملها ورفعت نتائج مشاوراتها للجنة العامة التي عكفت على ترجمة ما خلصت إليه اللجان الفرعية إلى مجموعة من المبادئ الدستورية العامة بلغ عددها 80 مبدءاً والتي تمثل العمود الفقري للدستور المصري الجديد. وقد أحليت هذه الوثيقة إلى مجلس الأمة الذي اطلع عليها وأقرها يوم 22 يوليو 1971 ورفعها إلى المؤتمر العام للاتحاد الاشتراكي الذي قام بدوره بتفويض لجنته المركزية بدراسة تلك المبادئ الدستورية وتحويلها إلى نصوص دستورية مفصلة. وبالفعل قامت اللجنة المركزية بإعداد مشروع للدستور بمساعدة مجموعة من الفقهاء الدستوريين وتم عرضه على المؤتمر العام للاتحاد الاشتراكي الذي وافق على المشروع يوم 8 سبتمبر 1971. ومن ثم عُرض مشروع دستور 1971 على الشعب المصري يوم 11 سبتمبر 1971، وجاءت نتيجة الاستفتاء بالموافقة على الدستور بنسبة 99,982%.
ويلاحظ هنا أن الفترة التي قضيت في دراسة دستور 1971 والتباحث حول مواده وشكل نظام الحكم الذي سيقيمه كانت محدودة. فمجمل الوقت الذي مضى منذ طلب الرئيس السادات من مجلس الأمة إعداد دستور جديد إلى أن عُرض هذا الدستور على الشعب لاستفتائه بشأنه وهي الفترة التي شملت بحث القواعد العامة للدستور في مجلس الأمة، وثم عرضها على الاتحاد الاشتراكي وبحثها في هيئاته المختلفة، وثم إحالته للجان فنية لصياغة أحاكمه، لم يتعد 114 يوماً، وهي مدة نعتبرها محدودة للغاية، ولا تتح إجراء حوار مجتمعي معمق وشامل حول الدستور، وشكل الحكم الذي ينبغي أن يقيمه. فكان من المفترض أن يأتي هذا الدستور معبراً عن تطلعات الشعب المصري وأولوياته في تلك الحقبة. وبالمقارنة، دعونا نستذكر أننا أشرنا في الفصل الثالث من هاذ الكتاب، والذي عرضنا فيه مسيرة التطور السياسي والدستوري في مصر، أن الفترة التي أمضتها لجنة الخمسين التي أعدت مشروع دستور 1954 امتدت من 13 يناير 1953 إلى 15 أغسطس 1954، أي لعام وسبعة أشهر، وهو ما ساهم في أن تخرج اللجنة بمشروع دستور منضبط الصياغة والبنيان.
ونحن لا نقول أنه يتعين على واضعي الدستور المصري المقبل أن يمشوا على نفس الدرب الذي سارت عليه لجنة الخمسين في إعداد دستور 1954 ويمكثوا لأكثر من عام كامل لإعداد الدستور، وإنما ما ندعو إليه هو أن نستوعب دروس التاريخ ونعي أهمية أن تمتد عملية إعداد الدستور لفترة تكفي لإدارة حوار مجتمعي متعمق حوله بما يساهم في بناء قاعدة عريضة من القبول والارتياح الشعبيين تجاه الدستور. وقد تعرضت المادة 60 من الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 30 مارس 2011 – وهي مادة معدلة لنص المادة 189 من دستور 1971 والتي استفتي الشعب بشأنها يوم 19 مارس 2011 – مسألة إعداد الدستور الجديد للبلاد، حيث نصت على ما يلي:
"يجتمع الأعضاء غير المعينين لأول مجلسي شعب وشورى في اجتماع مشترك، بدعوة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، خلال ستة أشهر من انتخابهم، لانتخاب جمعية تأسيسية من مائة عضو، تتولى إعداد مشروع دستور جديد للبلاد في موعد غايته ستة أشهر من تاريخ تشكيلها، ويعرض المشروع، خلال خمسة عشر يوماً من إعداده، على الشعب لاستفتائه في شأنه، ويعمل بالدستور من تاريخ إعلان موافقة الشعب عليه في الاستفتاء".
ويتضح من هذا النص أن الفترة المخصصة لإجراءات إعداد الدستور المصري الجديد يمكن أن تمتد لعام كامل، بما في ذلك خطوات اختيار الجمعية التأسيسية وثم قيامها ببحث مواد الدستور وصياغة أحكامه. ونحن نرى أن هذه فترة كافية ومناسبة ويمكن أن توظف بشكل يتيح إجراء حوار مجتمعي واسع ومتعمق حول الدستور ومبادئه. فيتعين التفكير في شكل الحكم الذي يصلح للخروج بمصر من أزمتها الراهنة والذي يتيح للأمة المصرية أن تقيم حياة سياسية سليمة وصحية، ويستلزم الأمر كذلك التدبر في طبيعة العلاقة التي سيقيمها الدستور الجديد بين سلطات الدولة ومؤسساتها بما يعكس الخبرة التاريخية للمصريين، كما أنه من المهم أن يُمنح المجتمع المصري وقت كاف للتحاور والتناقش حول مجموعة من الإشكاليات الخطيرة والأسئلة ملحة التي ستطرح نفسها خلال عملية وضع الدستور الجديد، كعلاقة الدين بالسياسة والحكم، وحدود سلطات الدولة وأجهزتها، وكيفية إعلاء قيمة سيادة القانون، وآليات صون حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.
ومن هنا، فإننا نقترح مجموعة من الإجراءات العملية والخطوات المحددة التي يمكن أن تنظر السلطات القائمة على إدارة شئون البلاد خلال الفترة الانتقالية في اتخاذها، ومنها بحث إمكانية وضع ضمانات لعضوية وتشكيل الجمعية التأسيسية المعنية بوضع الدستور المصري المقبل، لكي نتأكد من أنها ستشمل كافة التيارات الفكرية والقوى السياسية والمصالح الاجتماعية والتوجهات الإيديولوجية التي تموج بها مصر حالياً، بما يجعل من هذه الجمعية التأسيسية خير معبر عن المجتمع المصري ووعاء يتسع للأمة المصرية بكافة عناصرها وأطيافها. كما لا نرى غضاضة من أن تعقد الجمعية التأسيسية أو اللجان المتفرعة عنها جلسات استماع يدعى إليها شخصيات عامة ومفكرين وخبراء من مختلف التخصصات للإدلاء بآرائهم ولتقديم مقترحاتهم وملاحظاتهم حول عملية إعداد الدستور الجديد. ويمكن أن تكون هذه الجلسات المقترحة مخصصة للاستماع لما خلصت إليه مؤتمرات الحوار الوطني المتعددة التي أجريت في مصر على مدار الشهور التالية على نجاح ثورة 25 يناير، كمؤتمر الوفاق القومي الذي أطلق يوم 21 مايو 2011، ومؤتمر الحوار الوطني الذي افتتح يوم 22 مايو 2011، وغيرها من المنتديات التي شاركت فيها نخبة من المفكرين والفقهاء والعلماء. وتجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد ما يمنع من إجراء مثل هذه الجلسات المقترحة من قبل البرلمان نفسه، أي خلال الأشهر الستة التي يفترض أن تنتخب خلالها الجمعية التأسيسية، وذلك حتى يتعرف أعضاء مجلسي الشعب والشورى مباشرة على آراء ومقترحات القوى الفاعلة في المجتمع. ونقترح كذلك أن تقوم الجمعية التأسيسية أو اللجان المتفرعة منها بعرض الأفكار الأولية التي تتوصل إليها على الشعب للتعرف على ردود الفعل إزائها، وبما يسمح لوسائل الإعلام أن تتناولها ويتيح الفرصة للصحافة أن تستعرض وجهات النظر المختلفة تجاه هذه الأفكار الأولية.
هذه المقترحات، والتي تتمحور في مجملها حول توسيع قاعدة المشاركة في عملية وضع الدستور، تهدف لتحقيق أكثر ما غاية نراها مهمة وضرورية. فأولاً، سيستفيد المشرع الدستوري من هذه الإجراءات لأنها ستتيح له التعرف على آراء ووجهات نظر مجموعة منتقاة من العلماء والخبراء والفقهاء في مختلف الموضوعات التي سيتعرض لها الدستور، كما أنها ستمنح المشرع الدستوري فرصة للتعرف بشكل مباشر على تطلعات الشعب المصري وآماله للدستور الجديد للبلاد. وثانياً، ستُطلق الخطوات البسيطة المقترحة آنفاً حواراً مجتمعياً حول الدستور وما سيتضمنه من مبادئ عامة وستمنح المصريين الفرصة للتداول حول الأفكار التي توصلت إليها الجمعية التأسيسية. ومرادنا هنا هو أن تشهد مصر قبل استفتاء الشعب بشأن الدستور الجديد حواراً وجدلاً اجتماعياً مشابهاً لما شهدناه في الأسابيع القليلة التي سبقت الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي أجريت يوم 19 مارس 2011، وهو ما نعتبره ظاهرة صحية منحت المصريين فرصة للتفكير بتعمق في الشأن العام وللانخراط في العمل السياسي وساهمت في ترسيخ قيم حرية الرأي والتعبير وغيرها من المبادئ الضرورية لإدارة الحياة الديمقراطية السليمة. وثالثاً، سيكون لهذه الإجراءات دور كبير في تعريف المواطن المصري بمشروع الدستور وما يتضمنه من أحكام ونصوص، وذلك لكي يدلي الناخبون بأصواتهم في الاستفتاء على الدستور على أساس من العلم والدراية بما في ورد فيه وما ينطوي عليه من حقوق والتزامات. ورابعاً، سيكون لهذه الخطوات أثر إيجابي يتمثل في إشاعة إحساس عام وسط المجتمع المصري بملكية الشعب لهذا الدستور الجديد، كما سيعمق وسيعزز من التوافق العام على الدستور وسيضفي عليه قدر أكبر من الشعرية في أعين المصريين.
الفرع الثالث: مسمى الدستور:
سُمّي دستور 1971 بالدستور "الدائم" لجمهورية مصر العربية، وهو ما نرجعه للظروف التاريخية التي واكبت صدوره، فقد كانت أغلب الدساتير الحاكمة لمصر منذ قيام ثورة يوليو 1952 مسماة بالدساتير المؤقتة، كدستور 1958 الذي صدر بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة، والدستور المصري المؤقت لعام 1964. كما جاء دستور 1971 لينفذ ما ورد في دستور 1964 المؤقت من إشارة إلى اعتباره وثيقة مرحلية سيحل محلها دستور دائم كان يفترض أن يعده مجلس الأمة آنذاك، وهو ما لم يحدث بسبب نكسة 1967. ومن هنا، سعى المشرع الدستوري لإضفاء قدراً من الاستقرار على الإطار الدستوري المصري والابتعاد عن حالة التخبط الدستورية والسياسية التي عانت منها مصر في السنوات الأخيرة لحكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
ومن جانبنا، ليس لدينا سوى تعليق وحيد على هذا المسمى، فالدساتير ليست من الكتب السماوية، وإنما هي من صنع الإنسان. وبالتالي، وبما أنا دوام الحال من المحال، فإنه لم يكن ينبغي أن يُنعت الدستور بأنه "دائم"، وذلك رغم إدراكنا للظروف التاريخية التي أعد فيها دستور 1971، وأهمها أن هذا الدستور جاء لينهي فترة حُكمت مصر خلالها بسلسلة من الدساتير "المؤقتة"، إلا أنه كان من الأنجع ألا يوصف الدستور بالدائم، حيث أن احتياجات المجتمع تتغير، ومتطلباته تتبدل، وتتطور رؤيته لطبيعة نظام الحكم الأمثل له، الأمر الذي يتطلب تغييرات ومراجعات وإضافات لنص الدستور وتفسيراته، وهو ما لا يستقيم مع وصفه بأنه دائم. لذلك، فإننا لا نرى داعياً لأن يسمى الدستور المقبل لمصر بالدستور "الدائم"، وان يكتفى بتسميته "دستور جمهورية مصر العربية".
المبحث الثالث
الباب الأول من دستور 1971
الفرع الأول: شكل الدولة:
لم يختلف دستور 1971 عن الدساتير التي سبقته في هذا المجال، بما في ذلك دساتير العهدين الملكي والجمهوري، فقد أسس الدستور لدولة مركزية لا فدرالية ولا كونفدرالية، فالدولة موحدة تحت سلطة تشريعية واحدة، وتدير شئونها سلطة تنفيذية واحدة، وتقيم العدل فيها هيئة قضائية واحدة. وينسجم ذلك مع التجربة التاريخية لمصر التي عرفت منذ فجر التاريخ الحكومة الموحدة المركزية التي تهيمن على مختلف جوانب الحياة في البلاد. ويختلف ذلك عن الحال في دول أخرى كالولايات المتحدة أو ألمانيا أو المكسيك التي تتبنى النظام الفدرالي، بحيث تتمتع كل من الولايات المكونة لتلك الدول بنظام قضائي مستقل وأجهزة تنفيذية تتمتع بقدر كبير من الحرية في إدارة شئون الولاية، بالإضافة إلى مجلس نيابي له صلاحيات واسعة، بل أن الأمر يتجاوز ذلك في الحالة الأمريكية بوجود دستور مستقل لكل من الولايات الخمسين المكونة للولايات المتحدة. وفي منطقتنا العربية، نلاحظ أن جمهورية العراق أخذت بنموذج فدرالي، حيث يتمتع إقليم كردستان العراق بحكم ذاتي موسع، يشمل على مجلس نيابي وحكومة مستقلين للإقليم.
ورغم أن نصوص هذا الباب الأول من الدستور لم يكن يتوقع أن تثير اللغط والخلاف نظراً لوجود توافق عام في المجتمع عليها واستقرار استمر لعقود بل ةلقرون على ما تعكسه أحكام هذا الباب من واقع سياسي وجغرافي وحضاري، إلا أننا فوجئنا بأن بعض القوى السياسية أعربت عن تفضيلها لتعديل بعض هذه الأحكام لتصبح أكثر تماشياً مع رؤيتها الخاصة للمجتمع ومواقفها الفكرية. وبالتحديد أشيع وهذا الكتاب على وشك أن يخضع لعملية الطباعة أن هناك اتجاهاً لأن يُنَص على أن "جمهورية مصر العربية دولة ديمقراطية شورية دستورية حديثة، تقوم على الفصل بين السلطات، ومبدأ المواطنة، وهي جزء من الأمة العربية والإسلامية، وترتبط بالقارة الأفريقية." من جانبنا، فإننا نرى أن أقل ما يمكن أن يوصف به هذا النص المقترح أنه يندرج في إطار اللغو الدستوري والعبث بمستقبل البلاد ومحاولة لجر الأمة المصرية بتنوعها وثقافتها وتحضرها وتمدنها وتفتحها على العالم إلى ظلامية العصور الوسطى ويمهد لتأسيس ثيوقراطية دينية مستبدة. فما معنى أن تصبح مصر دولة "شورية"؟ فهل سيخضع الحكم في البلاد لجهة أو هيئة دينية إسلامية تسمى بأهل الشورى أو أهل الحل والعقد؟ وكيف سيتم اختيار هؤلاء؟ وما علاقتهم بالأجهزة الدستورية والسلطات العامة؟ وما مدى إلزامية قراراتهم؟ وماذا سيكون الحال لو اختلاف رأي أهل الشورى أو الحل والعقد مع قرارات السلطات العامة أو المجالس النيابية؟ كلها أسئلة تراودنا وتشغلنا ونرى أنها مشروعة في ضوء ما يتسرب عن آراء تتبناها بعض الأطراف السياسية الفاعلة والمؤثرة سياسياً بشأن الدستور. أضف إلى ما تقدم تحفظنا على عبارة "ترتبط بالقارة الأفريقية" التي توحي وكأن القارة السمراء تأتي في مرتبة متأخرة وتالية على هويات وفضاءات إقليمية أخرى، وهو أمر لا يستقيم لا مع التاريخ ولا الحاضر وسيضر بمصر في مستقبل الأيام، فقد كانت إحدى مصادر قوة مصر في تعدد وتنوع انتماءاتها الثقافية والحضارية والسياسية. لذا، فنحن نوصي، إذا ما تقرر الإشارة إلى الأمة الإسلامية والقارة الأفريقية في هذه الفقرة، بأن تعدل هذه العبارة بحذف كلمة "وترتبط" ليتحول النص إلى أن مصر "جزء من الأمة العربية والإسلامية والقارة الأفريقية."
وختاماً لهذا الفرع، فإننا نوصي بأن تبقى نصوص هذا الباب، وبالتحديد مادته الأولى، كما وردت في دستور 1971 والإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس 2011، والتي تنص على ما يلي: "جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم على أساس المواطنة، والشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة."
الفرع الثاني: دور الدين في الدولة:
من الموضوعات التي أثارت خلافاً واستقطاباً شديدين في المجتمع المصري هو دور الدين في السياسية وقدر الارتباط الذي ينبغي أن تقيمه الدساتير المصرية بين الدين والدولة. ويتصل هذا النقاش الدائر منذ زمن بعيد بإشكالية فكرية وتاريخية أعمق بكثير من مسألة النص في الدستور على دور محدد للدين عامة وللديانة الإسلامية خاصة، باعتبارها العقيدة التي يدين بها أغلب المصريين. فالجدل حول موقع الدين في الدولة المصرية يرتبط مباشرة بتعريف المصريين لأنفسهم ورؤيتهم لهويتهم الثقافية والحضارية، وهو أمر ليس وليد الظرف التاريخي الذي أفرز دستور 1971، وإنما يسبقه بكثير، إلى حد أنه يمكن الإدعاء أن التساؤل حول هوية مصر وشخصيتها وانتماء شعبها بدأ يطرح نفسه منذ تأسيس الدولة المصرية الحديثة في عصر محمد علي باشا، والانفصال التدريجي للإقليم المصري عن الإمبراطورية العثمانية، والتي سرعان ما تفككت في مطلع القرن العشرين واندثرت معها الخلافة الإسلامية التي كانت تعيش مصر في كنفها منذ عام 1517. فببزوغ مفهوم "الدولة القومية" (Nation State) كأساس نطري لتنظيم الكيانات السياسية في الشرق الأوسط ولتقسيم الأقاليم الجغرافية في هذه المنطقة كبديل للإطار العام للدولة الإسلامية التي يحكمها الخليفة العثماني، برز تساؤل المصريين عن هويتهم الثقافية وانتمائهم الحضاري وتأثير هذه التعريفات على الحياة السياسية في البلاد، فما معنى أن نكون مصريين؟ فهل نحن مسلمون؟ أم عرب؟ أم أفارقة؟ أم أننا جزء من حضارة متوسطية؟ أم هل نحن خليط من كل هذه المكونات الثقافية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف نرتب هذه العناصر والهويات المتعددة وكيف نفض الاشتباك بينها إذا تعارضت؟ كلها أسئلة فرضت نفسها على الأمة المصرية وتصدى لها الكثير من الفلاسفة والمؤرخين والعلماء والفقهاء.
وليس هذا المكان المناسب لاستعراض الآراء والمواقف الفلسفية المختلفة التي تناولت هذا الموضوع، ولكن يكفينا أن نشير إلى أن جدلية تعريف الهوية المصرية ورسم ملامحها تركت بصمتها على الدساتير المتعقبة للدولة المصرية. فبادئ ذي بدئ، يتعين الإشارة إلى أن جميع الدساتير المصرية – باستثناء الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة الصادر في 1958 – وردت بها عبارة أن "الإسلام دين الدولة". أي أن اعتبار الإسلام دين رسمي للدولة هو أمر أجمعت عليه النخب المصرية الحاكمة عبر السنين باختلاف توجهاتها السياسية ومشاربها الأيديولوجية ومرجعياتها الثقافية. وهو ما يعكس ترسخ الدين في الوجدان المصري وصعوبة استبعاد الدين من المشهد السياسي أو الاجتماعي في البلاد، فقد ارتبط المصريون بالدين وأعتُبر أحد أهم مقومات الشخصية المصرية منذ قديم الأزل. إلا أنه باستقراء نصوص الدساتير المصرية المختلفة التي صدرت خلال القرن العشرين ينكشف لنا أن المشرع الدستوري لم يولي الهوية الدينية لمصر نفس القدر من الاهتمام، وإنما تباينت مكانة الدين ومركزيته في الدستور، وتغيرت بتبدل الأحوال السياسية والاجتماعية في البلاد. ففي الوقت الذي جاء النص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة في مؤخرة دساتير العهد الملكي، وبالتحديد في الباب المعنون "أحكام عامة" الذي يشتمل أيضاً على تحديد القاهرة كعاصمة للقطر المصري وغيرها من الأمور العامة، وضعت دساتير العهد الجمهوري الإسلام في الباب الأول الذي يثبّتُ أسس الدولة ويرسم معالمها وشكلها. كما اقترن النص على أن الإسلام هو دين الدولة في الدساتير الصادرة منذ قيام ثورة 23 يوليو 1952 بالإشارة إلى الهوية والانتماء العربي للشعب المصري، وهو ما يعكس الميل والمنهج السياسي للنخبة الحاكمة وقتذاك.
بالتالي، لم يكن مستغرباً، في ضوء هذا الإرث الدستوري، أن يضمِّنَ المشرع الدستوري نصاً في دستور 1971 يشير إلى اعتبار الإسلام دين الدولة المصرية، وأن يضع ذلك النص في صدارة الدستور. ولكن المشرع الدستوري لم يكتف بهذا الحد، وإنما أضاف جملة أخرى تقول أن "مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع"، وهو النص الذي تم تعديله في مايو 1980 ليصبح: "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع". وقد أبقى المجلس الأعلى للقوات المسلحة على هذا النص في الإعلان الدستوري الذي أصدره يوم 30 مارس 2011، حيث لم يطرأ أي تغيير على المادة الثانية من دستور 1971، وإنما نقلت كما هي إلى الإعلان الدستوري.
كما أسلفنا في تناولنا للظرف التاريخي والسياسي الذي صدر فيه دستور 1971، كانت النخبة الحاكمة في مصر، وعلى رأسها الرئيس الراحل أنور السادات، تميل إلى إبراز دور الدين في حياة المصريين وإظهار مركزية الإسلام في الخلفية الحضارية والثقافية للمجتمع المصري كجزء من محاولة النظام الحاكم آنذاك لترميم شرعيته التي اهتزت وتصدعت في النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين بعد نكسة 1967 ووفاة الرئيس جمال عبد الناصر بقامته وقيمته وزعامته. كما ارتبط هذا المنهج برغبة الرئيس السادات في مجابهة التيارات الفكرية اليسارية والاشتراكية الفاعلة والنشيطة على المسرح السياسي المصري في منتصف السبعينيات، والتي كانت تمثل جبهة معارضة لبعض آراء وسياسات الرئيس السادات على الصعيدين الداخلي والخارجي. ولم يترك هذا المنحى الذي انتهجته الدولة بصمته على الدستور فحسب، بل امتدت ملامحه وسُمعت أصدائه في لغة الدولة وخطابها الرسمي، حيث استخدمت شعارات وعبارات دينية على شاكلة وصف الرئيس الراحل السادات نفسه بأنه "الرئيس المؤمن"، ووصفه مصر بأنها دولة "العلم والإيمان".
يُتوقع أن تحظى المبادئ التي نصت عليها المادة الثانية من دستور 1971 والمنقولة بنصها ذاته في الإعلان الدستوري الصادر يوم 30 مارس 2011 باهتمام كبير على المستويين الاجتماعي والسياسي أثناء إعداد الدستور الجديد للبلاد، فقد تعددت الآراء حول وضعية الشرعية الإسلامية في الدستور ومدى ملاءمة جعلها المصدر الرئيسي للتشريع، فهناك من يطالب بإقامة دولة إسلامية تحكمها الشريعة الإسلامية، ويقابله من ينادي بدولة مدنية تفصل تماماً بين الدين والدولة، وبين هذا وذاك هناك من يرى أنه لا يمكن استئصال الدين عن الدولة والمجتمع في مصر، وأن السؤال يتمحور حول مدى التداخل الذي يتعين أن يقام بين الإسلام والدولة المصرية، ومدى تأثر الحكم بتعاليمه وشريعته، وكيفية إقامة هذا التوازن الدقيق الذي يحفظ قيم المواطنة والمساواة ويعليها، ويعكس في الوقت ذاته واقع مركزية الدين الإسلامي في الإرث التاريخي والحضاري للأمة المصرية.
ومن أهم ما لاحظناه حول هذا النقاش والجدل الدائرين حالياً هو عدم معرفة الكثير من المصريين بالتفسير الصحيح للمادة الثانية من دستور 1971، والطريقة التي ابتعت في تطبيقها. لذا، رأينا أن نتناول هنا مدلول هذه المادة المهمة من الدستور، وتفسير المحكمة الدستورية العليا لها، والأسلوب الذي انتهجته المحكمة في تطبيقها. وقد تعرضت المحكمة في أكثر من حكم لها للمادة الثانية الدستور، حيث نظرت في العديد من الطعون المقدمة ضد قوانين دُفع بعدم دستوريتها لمخالفتها مبادئ الشريعة الإسلامية. وقد وضّح فقه المحكمة مدلول المادة ونطاق تطبيقها وأثرها على التشريع والقانون في مصر.
ومن أهم القواعد التي أرستها المحكمة الدستورية العليا بشأن تطبيق هذه المادة من دستور 1971 هو ما يرتبط بالنطاق الزمني لتطبيق نص المادة وما إذا كان لها أثر رجعي. فقد حكمت المحكمة الدستورية العليا في 4 مايو 1984 بأن المادة الثانية من الدستور تنصرف على التشريعات الجديدة والتعديلات التشريعية الصادرة بعد دخول التعديل الدستور لعام 1980 حيز النفاذ، أي أن هذا النص الدستوري لا ينطبق على كافة القوانين المصرية الصادرة قبل مايو 1980. ومن المفيد هنا أن نقتبس بشكل مطول من حكم المحكمة حتى يتعرف القارئ مباشرة على فكر ورؤية المحكمة، فقد قال الحكم:
"تعديل الدستور الذي تم بتاريخ 22 مايو سنة 1980 [ينص] على أن "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع". بعد أن كانت تنص عند صدور الدستور في 11 سبتمبر سنة 1971 على أن "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع " والعبارة الأخيرة من هذا النص لم يكن لها سابقة في أي من الدساتير المصرية المتعاقبة إبتداءاً من دستور 1923 وحتى الدستور سنة 1964. وحيث إن الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح – المنوطة بالمحكمة الدستورية العليا – تستهدف أصلاً صون الدستور القائم وتأكيد احترامه وحمايته من الخروج على أحكامه. وسبيل هذه الرقابة التحقق من الالتزام سلطة التشريع بما يورده الدستور في مختلف نصوصه من ضوابط وقيود ومن ثم فإنه يتعين – عند الفصل فيما يثار في شأن التشريعات من مطاعن تستهدف نقض قرينة الدستورية – استظهار هذه الضوابط والقيود وتحديدها وذلك للتعرف على مدى مخالفة تلك التشريعات لها. وحيث إنه يبين من صيغة العبارة الأخيرة من المادة الثانية من الدستور – بعد تعديلها على نحو ما سلف – أن المشرع الدستوري أتى بقيد على السلطة المختصة بالتشريع قوامه إلزام هذه السلطة – وهى بصدد وضع التشريعات – بالالتجاء إلى مبادئ الشريعة لاستمداد الأحكام المنظمة للمجتمع ... [وهذا] "يلزم المشرع بالالتجاء إلى أحكام الشريعة الإسلامية للبحث عن بغيته فيها مع إلزامه بعدم الالتجاء إلى غيرها، فإذا لم يجد في الشريعة الإسلامية حكما صريحاً، فإن وسائل استنباط الأحكام من المصادر الاجتهادية في الشريعة الإسلامية تمكن المشرع من التوصل إلى الأحكام اللازمة والتي لا تخالف الأصول والمبادئ العامة للشريعة". ولما كان مفاد ما تقدم، أن سلطة التشريع اعتبارا من تاريخ العمل بتعديل العبارة الأخيرة من المادة الثانية من الدستور في 22 مايو سنة 1980- أصبحت مقيدة فيما تسنه من تشريعات مستحدثه أو معدله لتشريعات سابقة على هذا التاريخ، بمراعاة أن تكون هذه التشريعات متفقة مع مبادئ الشريعة الإسلامية ... لما كان ذلك وكان إلزام المشرع باتخاذ مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع على ما سلف بيانه لا ينصرف سوى إلى التشريعات التي تصدر بعد التاريخ الذي فرض فيه الإلزام بحيث إذا انطوى أي منها على ما يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية يكون قد وقع في حومة المخالفة الدستورية، أما التشريعات السابقة على ذلك التاريخ، فلا يتأنى إنفاذ حكم الإلزام المشار إليه بالنسبة لها لصدورها فعلاً من قبله، أي في وقت لم يكن القيد المتضمن هذا الإلزام قائما واجب الإعمال ومن ثم، فإن هذه التشريعات تكون بمنأى عن أعمال هذا القيد، وهو مناط الرقابة الدستورية."
وبذلك تكون المحكمة الدستورية العليا قد أوضحت أن المادة الثانية من الدستور لا تمس القوانين والتشريعات المصرية الصادرة قبل مايو 1980 – بما يتضمنه ذلك من أهم التشريعات المصرية كالقانونين المدني والجنائي وقانون المرافعات وقانون الإجراءات الجنائية وغيرها من التشريعات التي تعد بمثابة العمود الفقري للبنيان التشريعي المصري. بيد أن المحكمة لم تكتف بذلك التحديد الزمني لنطاق تطبيق سريان المادة الثانية من الدستور، وإنما أضافت إلى تفسيرها قيد آخر يتمثل في تفسير المحكمة لعبارة "مبادئ الشريعة الإسلامية" الواردة في المادة الثانية. وبالتحديد، حكمت المحكمة في 26 مارس 1994 بأن مبادئ الشريعة الإسلامية المقصودة والمشار إليها في الدستور هي تلك التي لا خلاف فقهي حول ثبوتها ودلالاتها والتي لا يسمح بالاجتهاد بشأنها، حيث قالت المحكمة ما يلي:
"إن ما نص عليه الدستور في مادته الثانية – بعد تعديلها في سنة 1980 – من أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع ، إنما يتمحض عن قيد يجب على السلطة التشريعية التزامه في التشريعات الصادرة بعد العمل بالتعديل الدستوري المشار إليه ... فلا يجوز لنص تشريعي أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هي التي يكون الاجتهاد فيها ممتنعا، لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية مبادئها الكلية وأصولها الثابتة التي لا تحتمل تأويلا أو تبديلا. ومن غير المتصور بالتالي أن يتغير مفهومها تبعا لتغير الزمان والمكان، إذ هي عصية على التعديل ولا يجوز الخروج عليها أو الالتواء بها عن معناها. وتقتصر ولاية المحكمة الدستورية العليا في شأنها على مراقبة التقيد بها وتغليبها على كل قاعدة قانونية تعارضها. ذلك أن المادة الثانية من الدستور تقدم علي هذه القواعد أحكام الشريعة الإسلامية في أصولها ومبادئها الكلية إذ هي إطارها العام وركائزها الأصيلة التي تفرض متطلباتها دوما، بما يحول دون إقرار أية قاعدة قانونية على خلافها، وإلا اعتبر ذلك تشهيا وإنكارا لما علم من الدين بالضرورة. ولا كذلك الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها أو هما معا، ذلك أن دائرة الاجتهاد تنحصر فيها ولا تمتد لسواها، وهى بطبيعتها متطورة تتغير بتغير الزمان والمكان لضمان مرونتها وحيويتها."
وبالتالي، فإن المحكمة الدستورية العليا لم تفسر المادة الثانية بأنها تلزم المشرع بإتباع كافة أحكام وتعاليم الشريعة الإسلامية، وإنما رأت المحكمة أن هذه المادة تقضي بأن يلتزم المشرع باحترام المبادئ الشرعية العامة التي لا خلاف على ثبوتها أو دلالتها والتي لا يجوز الاجتهاد بشأنها. وقد أوضح الفقهاء أن هذا الشرط يعني أنه يتعين حتى تعتبر أي قاعدة شرعية ضمن مبادئ الشريعة الإسلامية المشار إليها بالدستور أن تكون محل إجماع جميع مذاهب الفكر الإسلامي. وقد تأكد هذا المفهوم في حكم آخر أصدرته المحكمة في عام 1996 لرفض طعن مقدم ضد قرار حكومي بمنع ارتداء النقاب في المدارس الحكومية. وقد أكدت المحكمة في بداية هذا الحكم على ما سبق في أحكامها بشأن تعريف مبادئ الشريعة الإسلامية بأنها تلك المبادئ القطعية الثبوت والدلالة، ثم أوضح الحكم أن: "إعمال حكم العقل فيما لا نص فيه، تطويراً لقواعد عملية تكون في مضمونها أرفق بالعباد وأحفل بشئونهم، وأكفل لمصالحهم الحقيقية تُشرع الأحكام لتحقيقها، وبما يلائمها، مرده أن شريعة الله جوهرها الحق والعدل، والتقيد بها خير من فساد عريض، وانغلاقها على نفسها ليس مقبولاً ولا مطلوباً، ذلك أنها لا تمنح أقوال أحد الفقهاء في شأن ما شئونها قدسية تحول مراجعتها وإعادة النظر فيها، بل وإبدالها بغيرها. فالآراء الاجتهادية في المسائل المختلف عليها ليس لها في ذاتها قوة متعدية لغير القائلين بها، ولا يجوز بالتالي اعتبارها شرعاً ثابتاً متقرراً لا يجوز أن ينقض، وإلا كان ذلك نهياً عن التأمل والتبصر في دين الله تعالي، وإنكاراً لحقيقة أن الخطأ محتمل في كل اجتهاد". وعلى هذا الأساس أرست المحكمة قاعدة مفادها أن مبادئ الشرعية الإسلامية – التي يُلزم المشرع بموجب الدستور بالتشريع في حدودها – لا تتضمن أي مبدأ لم يُقفل بشأنها باب الاجتهاد ولا تشمل أي رأي شرعي لم يحظ بإجماع الفقهاء.
وفي ضوء ما تقدم بشأن المادة الثانية من دستور 1971 – والتي أعيد النص عليها في الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 30 مارس 2011 – فإننا نرى أنه لا ضرر من الإبقاء على هذا النص كما هو في الدستور المصري الجديد. فهذا نص تم تفسيره كما رأينا آنفاً بشكل يحد من تأثيره على عملية التشريع، ولا يغل يد البرلمان المصري خلال سن للقوانين، ولا يلزمه بمذهب معين أو بأحكام شرعية محددة، وإنما يفتح له الباب للتشريع بالشكل الذي يراه في مصلحة البلاد والعباد، وبالمنهج الذي يستحسنه لتحقيق تطلعات وآمال الأمة المصرية، طالما لم يتعارض مع مبادئ شرعية عامة لا اختلاف ولا خلاف عليها، ولا نقاش في ثبوتها أو ماهيتها أو مدلولها. وفي رأينا أن المحكمة الدستورية العليا تبنت فهماً متنوراً ومعتدلاً للمادة الثانية من الدستور بما يتيح للمشرع المصري أن ينهل من مبادئ إسلامية هي في حقيقتها مبادئ إنسانية عامة لا تختص ولا تنفرد بها الشريعة الإسلامية، بل تشترك فيها مع غيرها من أديان السماوية الإبراهيمية والعقائد الأخرى، الأمر الذي نراه لا يتعارض مع هدف تأسيس دولة ومجتمع حديثين يقومان على الديمقراطية وسيادة القانون وإعلاء حقوق الإنسان. ومن هنا فإننا نسجل قلقنا إزاء الاقتراحات التي طرحتها بعض الأحزاب والقوى المحسوبة على تيار الإسلام السياسي المطالبة باستبدال عبارة "أحكام الشريعة الإسلامية" بعبارة "مبادئ الشرعية الإسلامية" والداعية لتحديد "مرجعية" دينية للبلاد تتمثل في الأزهر الشريف أو غيره من الجهات. فمع تقديرنا وتبجيلنا للأزهر الشريف وأئمته الأجلاء وشيوخنا المسلمين، إلا أن مسئولية الفصل في دستورية القوانين في البلاد وممارسة الرقابة القضائية والدستورية على أداء السلطتين التنفيذية والتشريعية تقع حصيراً على عاتق المحكمة الدستورية العليا التي تتشكل من قضاة مدنيين وليس غيرها. فهذا الاقتراح سيكون طبقة من البشر تعلو على مؤسسات الدولة وتحتكر حق تفسير الدستور بل وحتى تستأثر بحق الإفتاء في شئون الدين والدنيا، وهي كلها أمور تتجه بمصر نحو نظم الحكم الدنية أو الثيوقراطية التي تتناقض مع حلم إقامة دولة مندية دستورية حديثة تقوم على سيادة القانون والديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة، وهو الحلم الذي قامت ثورة 25 يناير من أجله.
كما تنبع توصيتنا بأن يُبقي الدستور المقبل لمصر على المادة الثانية من دستور 1971 من اعتبارات سياسية وبرجماتية يتعين على النخبة الليبرالية المصرية أن تأخذها بعين لاعتبار. فنحن نتوقع أن تعلو أصوات ليبرالية تنادي بإلغاء المادة الثانية برمتها، أو الاكتفاء بالعودة إلى النص الذي كان قائماً في دساتير مصرية سابقة التي نصت على أن "الإسلام دين الدولة". ونحن نرى أن لهذا الرأي وجاهته، والتي تقوم على الدفع بأن نص المادة الثانية من دستور 1971 ليس مثالي خاصة إذا كان المراد هو إقامة دولة مدنية خالصة تفصل بشكل تام بين الدين من ناحية والدولة والسياسة من ناحية أخرى. ولكن رغم ذلك، فإننا نتمسك بتوصيتنا بعدم المساس بالمادة الثانية إدراكاً منا لأمرين، أولهما مدى تجذر وترسخ الدين في وجدان وعقل المواطن المصري، وهو شعور لا يقتصر، بعكس ما يدعيه بعض المثقفين، على الطبقات الأقل تعلماً أو الأكثر فقراً، ولا هو شعور يتركز في الريف والقرى والصعيد ويتلاشى في الحضر والمدن، بل إن تعلق المصريين بالدين أمر يتجاوز مختلف الخطوط والفروق والفواصل الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، الأمر الذي يجعله من الصعب أن يأتي الدستور ويبدو – أو يصوّر – وكأنه ينتقص من قيمة وقامة الدين ودوره ومكانته في المجتمع. أما السبب الثاني، وهو يعضد الأول ويضيف إليه، فيتمثل في إدراكنا وتقديرنا لفاعلية وانتشار القوى الدينية الفاعلة سياسياً في المجتمع، وإيقاننا بمدى الشرعية الذي تتمتع به لدى الكثير من المصريين، وتأكدنا من قدرتها على تشكيل الرأي العام لقطاعات عريضة من الشعب. ونحن نرى أنه لن يكون من مصلحة أطراف وأحزاب توصف بأنها ليبرالية أن تدخل في صراع مع هذه القوى الدينية حول المادة الثانية من الدستور، فتركيبة الشعب المصري وواقعه الاجتماعي سيحسمان هذه المعركة لصالح القوى الدينية التي تتمتع بقدرات تنظيمية هائلة وتحظى بشرعية وشعبية ملموستين في الشارع المصري.
وبالتالي، وفي ضوء هذه العوامل الثلاثة سالفة الذكر (اعتدال تفسير المحكمة الدستورية العليا للمادة الثانية لدستور 1971، وترسخ الوازع الديني في وجداننا كمصريين، وقوة وفاعلية التيارات الدينية في المجتمع)، فإننا نوصي بالإبقاء على مبادئ الشريعة الإسلامية كالمصدر الرئيسي للتشريع في البلاد في الدستور المقبل لجمهورية مصر العربية.
الفرع الثالث: آليات العمل السياسي:
كما رأينا في الفصل الثالث الذي استعرضنا فيه التطور السياسي والدستوري في مصر على مدار العقود السابقة لصدور دستور 1971، ابتعدت الجمهورية الأولى في مصر منذ قيامها في 23 يوليو 1952 عن التعددية الحزبية وانتهجت منهج التنظيم السياسي الواحد ليكون بوتقة تشمل جميع قوى وطبقات الشعب المصري. ومن هنا أتى نص دستور 1971 الذي وافق عليه الشعب المصري في سبتمبر 1971 متماشياً مع هذا المنحى، حيث نصت مادته الخامسة على أن: "الاتحاد الاشتراكي العربي هو التنظيم السياسي الذي يمثل، بتنظيماته القائمة على أساس مبدأ الديمقراطية، تحالف قوى الشعب العاملة من الفلاحين والعمال والجنود والمثقفين والرأسمالية الوطنية، وهو أداة هذا التحالف في تعميق قيم الديمقراطية والاشتراكية، وفي متابعة العمل الوطني إلى أهدافه المرسومة".
استمر الاتحاد الاشتراكي في لعب هذا الدور إلى أن بادر الرئيس الراحل السادات باتخاذ مجموعة من الخطوات الإصلاحية في أعقاب نصر أكتوبر المجيد وتوقيع اتفاقية فض الاشتباك الأولى بين مصر وإسرائيل. فأصدر الرئيس ورقتين في إبريل وأغسطس 1974 حول تطوير الاتحاد الاشتراكي والذي دعي فيهما أعضاء الاتحاد لمناقشة وبحث سبل مراجعة آليات العمل فيه. وتمخض عن هذا النقاش الذي امتد إلى مارس 1976 الإعلان عن إنشاء ثلاثة منابر سياسية داخل الاتحاد الاشتراكي يكون إحداها لتيار اليسار وأخر لليمين والثالث لتيار الوسط. وخاضت هذه المنابر انتخابات مجلس الشعب التي أجريت عام 1976 وتحولت يوم 11 نوفمبر 1976، وهو يوم الاجتماع الأول لمجلس الشعب المنتخب، إلى أحزاب سياسية بقرار من الرئيس السادات.
صدر بعد ذلك قانون لتنظيم إنشاء ونشاط الأحزاب، وهو القانون رقم 40 لسنة 1977، وتبعه في مايو 1980 تعديل المادة الخامسة من دستور 1971 لحذف الإشارة إلى الاتحاد الاشتراكي كتنظيم سياسي وحيد في البلاد، واستبدالها بالنص على: "يقوم النظام السياسي في جمهورية مصر العربية على أساس تعدد الأحزاب وذلك في إطار المقومات والمبادئ الأساسية للمجتمع المصري المنصوص عليها في الدستور، وينظم القانون الأحزاب السياسية". ثم أعيد تعديل هذه المادة في عام 2007 ليضاف إليها الجملة الآتية: "ولا تجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية على أية مرجعية دينية أو أساس ديني، أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل"، وهو النص الذي استمر نافذاً إلى أن قامت ثورة 25 يناير 2011.
وكما هو معروف، تم تعليق العمل بدستور 1971 يوم 13 فبراير 2011، وصدر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة إعلانين دستوريين في 13 فبراير 2011 وثم في 30 مارس 2011 بعد الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذي أجري يوم 19 مارس 2011. وفيما يتعلق بالأحزاب السياسية وتنظيم نشاطها، جاء نص المادة 4 من الإعلان الدستوري الثاني مشابهاً – ولكن ليس مطابقاً – لنص المادة 5 من دستور 1971، حيث نصت على ما يلي: "للمواطنين حق تكوين الجمعيات وإنشاء النقابات والاتحادات والأحزاب وذلك على الوجه المبين في القانون. ويحظر إنشاء جمعيات يكون نشاطها معاديا لنظام المجتمع أو سرياً أو ذا طابع عسكري. ولا يجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية على أساس ديني أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل".
والغريب في هذه المادة الواردة في الإعلان الدستوري – التي لم تكن ضمن المواد التي أستُفتي الشعب المصري بشأن تعديلها – أنه إذا ما قورنت بالمادة 5 من دستور 1971، فإنه سيتضح أن الإعلان الدستوري أسقط عبارة "مرجعية دينية" من موانع النشاط السياسي والعمل الحزبي التي كانت واردة في دستور 1971، مع الإبقاء على شرطي ألا تكون للأحزاب أسس دينية وألا تفرق بين المصريين على أساس الجنس أو الأصل. كما أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة مرسوماً بقانون يوم 28 مارس 2011 لتعديل المواد 4، 6، 7، 8، 9، 11، 17 من القانون رقم 40 لسنة 1977 الخاص بنظام الأحزاب السياسية، وذلك في خطوة إيجابية ومحمودة تهدف لإزالة الكثير من العقبات التي كانت تعرقل إنشاء الأحزاب، وتجعلها عملياً رهن موافقة ورضاء الحزب الحاكم. فأصبحت الاشتراطات الواجبة توافرها لتأسيس حزب أو لاستمرار حزب قائم في نشاطه هي: (1) أن يكون للحزب أسم لا يماثل أو يشابه أسم حزب قائم، (2) عدم تعارض مبادئ الحزب أو أهدافه أو برامجه أو سياسته أو أساليبه في ممارسة نشاطه مع المبادئ الأساسية للدستور أو مقتضيات حماية الأمن القومي المصري أو الحفاظ على الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي والنظام الديمقراطي، (3) عدم قيام الحزب في مبادئه أو برامجه أو في مباشرة نشاطه أو في اختيار قياداته أو أعضائه على أساس ديني، أو طبقي، أو طائفي، أو فئوي، أو جغرافي، أو بسبب الجنس أو اللغة أو الدين أو العقيدة، (4) عدم انطواء وسائل الحزب على إقامة أي نوع من التشكيلات العسكرية أو شبه العسكرية، (5) عدم قيام الحزب كفرع لحزب أو تنظيم سياسي أجنبي، (6) علانية مبادئ الحزب وأهدافه وأساليبه وتنظيماته ووسائل ومصادر تمويله. كما تم تغيير المواد المتعلقة بإجراءات إنشاء الأحزاب والحصول على الموافقات اللازمة لبدء نشاطها، فأصبح تأسيس الأحزاب بموجب إخطار يقدم إلى لجنة نسمى "لجنة الأحزاب السياسية"، على أن يوقع على الإخطار خمسة آلاف شخصاً موزعين على 10 محافظات، على ألا يقل عدد الموقعين في كل محافظة عن 300 مواطناً. وبالإضافة إلى هذه التعديلات، أدخل المجلس الأعلى للقوات المسلحة تعديلات جذرية على تشكيل لجنة الأحزاب، والتي كان يرأسها رئيس مجلس الشورى، لتصبح اللجنة مشكلة حصرياً من رجال القضاء، فيتولى رئاستها الآن نائب رئيس محكمة النقض، ويعاونه مجموعة من المستشارين من محاكم النقض والاستئناف، ومن مجلس الدولة.
ومن جانبنا، فإننا نرى أن من أهم العيوب التي اعترت شكل وصياغة دستور 1971 هو الإسهاب والتفصيل الزائد في تنظيم الأحزاب السياسية. فلم يكتف الدستور بإطلاق حرية إنشاء الأحزاب، وإنما تعرض للإطار العام لعمل الأحزاب، ووضع الحدود التي يجب أن تلتزم بها في عملها، ونص على مجموعة من الموانع التي تحول دون قيام حزب جديد أو مزاولة حزب قائم لنشاطه. وبطبيعة الحال، جاءت هذه النصوص معبرة عن المنهج السياسي للنظام الحاكم في الجمهورية المصرية الأولى، فقد ألزم دستور 1971 الأحزاب بالعمل في "إطار المقومات والمبادئ الأساسية للمجتمع المصري المنصوص عليها في الدستور"، وهي مبادئ ورد معظمها في الباب الثاني من الدستور وتتناول المقومات الاجتماعية والاقتصادية والخلقية للمجتمع، وهو النص الذي يمكن فهمه في إطار رغبة السلطة الحاكمة في سبعينيات القرن العشرين في عدم بروز أي قوة سياسية تقدم برنامجاً بديلاً للنموذج الاجتماعي والاقتصادي الذي تتبناه الدولة. وفي السياق ذاته، حظر الدستور قيام الأحزاب على أساس ديني أو بمرجعية دينية، وهو ما يعكس إصرار النظام الحاكم قبل ثورة 25 يناير على تضييق الخناق على القوى الدينية الفاعلة على المسرح السياسي، وعرقلة محاولاتها للانخراط في العمل السياسي بشكل شرعي.
ونلاحظ كذلك وجود حالة من التضارب والتعارض فيما بين بعض النصوص الدستورية، بالإضافة إلى ما نلمسه من غياب للتوافق والتكامل بين نصوص الدستور ونصوص القانون المنظم لعمل الأحزاب. فعلى سبيل المثال، حظر كل من دستور 1971 والإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس 2011 مباشرة العمل السياسي على أساس التفرقة "بسبب الجنس أو الأصل"، في حين حظرت المادة 40 من الدستور (تقابلها المادة 7 من الإعلان الدستوري) التمييز بين المصريين على أساس "الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة". فهل يعني ذلك أنه يجوز التمييز بين المواطنين على أساس اللغة والدين والعقيدة في العمل السياسي، وهي أشكال التمييز التي لم تذكر في المادة الخاصة بالعمل السياسي؟ كما جاءت المادة الثالثة من قانون الأحزاب السياسية المعدل الذي أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة لتحظر أن ينطوي عمل الأحزاب على تمييز على أساس "ديني، أو طبقي، أو طائفي، أو فئوي، أو جغرافي، أو بسبب الجنس أو اللغة أو الدين أو العقيدة"، وهو نص يعتريه بعض العيب، فقد أسقط "الأصل" كأحد أسس التمييز التي لا يجوز مباشرة العمل السياسي على أساسها رغم وجودها في الدستور، ثم أعاد ذكر أنماط التمييز الأخرى الواردة في المادتين 5 و40 من دستور 1971 (المادتين 4 و 7 من الإعلان الدستوري)، وثم أضاف إليها أشكال أخرى من التمييز كالطائفي والطبقي والفئوي والجغرافي.
لذا، فإننا نوصي بأن يأتي نص الدستور الجديد المنظم لعمل الأحزاب قصيراً ومقتضباً، بحيث يُكتفى بتقرير حرية إنشاء الأحزاب، ومن ثم يحيل الدستور إلى القانون لتقرير إجراءات وشروط إنشاء الأحزاب، وتحديد أطر وضوابط عملها، فالدساتير تأتي لوضع الأصل العام الذي تفصله وتكمله القوانين والتشريعات. وبالنسبة لقانون الأحزاب السياسية، فإنه يتعين إزالة التضارب القائم حالياً بين أحكامه وبين بعض مواد الدستور، وخاصة تلك المتعلقة بمنع التمييز بين المواطنين. كما سيقع على عاتق المشرع أن يتأكد من بقاء الضوابط والاشتراطات الواردة في قانون الأحزاب السياسية في حدود الضمانات اللازمة والضرورية لصون أسس الحياة الديمقراطية، ولحماية الأمن القومي، ولضمان السلامة العامة، وحفظ النظام العام، وحماية الصحة العامة والآداب العامة، وهي التدابير التي سمح العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية للدول أن تتخذها في سبيل تنظيم الجمعيات المنخرطة في العمل العام، ومنها الأحزاب, بشرط ألا تأتي هذه القيود بهدف إفراغ حق إنشاء الأحزاب من مضمونه، وإقامة العراقيل أمام مباشرة القوى السياسية لنشاطها.
المبحث الرابع
الباب الثاني من دستور 1971: المقومات الأساسية للمجتمع
كما هو واضح من عنوانه، يتناول هذا الباب الأسس التي يقوم عليها المجتمع المصري، وهي موزعة على فصلين، الأول مخصص للمقومات الاجتماعية والخلقية، والثاني مخصص للمقومات الاقتصادية. وبصفة عامة يرسم هذا الباب بفصليه صورة عامة لشكل وطبيعة المجتمع المصري ونمط حياته. فتنص المادة 7 على أن المجتمع يقوم على التضامن الاجتماعي، فيما تلزم المادة 8 الدولة بضمان تكافل الفرص لجميع المواطنين، وتلزمها المادة 9 "بالحفاظ على الطابع الأصيل للأسرة المصرية وما يتمثل فيه من قيم وتقاليد". وتضيف المادة 12 التزام آخر ليس على الدولة فحسب، بل على المجتمع بأسره "برعاية الأخلاق وحمايتها، والتمكين للتقاليد المصرية الأصيلة، وعليه مراعاة المستوى الرفيع للتربية الدينية والقيم الخلقية والوطنية، والتراث التاريخي للشعب، والحقائق العلمية، والآداب العامة، وذلك في حدود القانون".
أما بالنسبة للتنظيم الاقتصادي للبلاد، فقد نصت المادة 23 على أن الاقتصاد ينظم "وفقاً لخطة تنمية تكفل زيادة الدخل القومي وعدالة التوزيع ورفع مستوى المعيشة والقضاء على البطالة وزيادة فرص العمل، وربط الأجر بالإنتاج، وضمان حد أدنى للأجور، ووضع حد أعلى يكفل تقريب الفروق بين الدخول". وتضيف المادة 25 أن "لكل مواطن نصيب من الناتج القومي يحدده القانون"، وتشير المادة 26 إلى أنه للعاملين نصيب في إدارة المشروعات وفي أرباحها، فضلاً عما أقرته المادة 27 من اشتراك المنتفعون في إدارة مشروعات الخدمات.
لم تجد أحكام ومبادئ هذا الباب التي بلغت ثلاثة وثلاثين مادة طريقها إلى الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 30 مارس 2011، اللهم باستثناء مادة وحيدة، هي المادة الخامسة من الإعلان الدستوري، والتي تشير إلى آليات تنظيم الاقتصاد المصري، حيث نصت على أن: "يقوم الاقتصاد في جمهورية مصر العربية على تنمية النشاط الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وكفالة كافة الأشكال المختلفة للملكية والحفاظ على حقوق العمال".
بصفة عامة، فإن تعليقنا الوحيد على هذا الباب، بفصليه المخصصين للمقومات الاجتماعية والخلقية والمقومات الاقتصادية للمجتمع، هو أن العديد مما ورد به من نصوص ومبادئ ليس من الملائم أن يوضع في الدستور أصلاً، فالدساتير في نهاية المطاف وثيقة قانونية تهدف بالأساس لوضع الإطار العام لشكل وطبيعة الدولة، ولحماية حقوق وحريات المواطنين، ولتحديد سلطات الدولة وإقامة التوازن بين أفرعها التنفيذية والتشريعية والقضائية، ولوضع ضوابط لكيفية ممارسة السلطة لصلاحياتها. أما مواد هذا الفصل فتبدو اقرب لما يمكن أن نعتبره بمثابة إعلان أو بيان سياسي أو برنامج انتخابي لحزب، وليس نصوص قانونية يمكن أن تنبني على أساسها حقوق وواجبات تلقى على عاتق الدولة ويتمتع بها المواطنون. كما أن الدستور مهمته إرساء المبادئ العامة الحاكمة لشكل وطبيعة نظام الحكم، وليس تحديد أولويات سياسية أو اجتماعية تتغير وتتبدل مع اختلاف الزمان والمكان. فليس من المنطقي أن ينص الدستور على أن "التربية الدينية مادة أساسية في مناهج التعليم العام"، أو أن "محو الأمية واجب وطني تجند كل طاقات الشعب من أجل تحقيقه"، فهذه النصوص مكانها في برنامج حكومي أو في سياسات وزارة التعليم والتي يراقب تنفيذها البرلمان. هذا، وحتى إذا قبلنا بفكرة وضع نصوص في الدستور على شاكلة هذا الباب، فإنه من المستغرب أنه تم إغفال – أو تغافل – التطرق للمقومات السياسية للمجتمع، فلم يرد ما يشير إلى كيفية تنظيم الحياة السياسية والأهداف التي يتعين أن يسعى لها المجتمع المصري في المضمار السياسي.
إضافة لما تقدم، جاءت الكثير من نصوص هذا الباب فضفاضة ومبهمة وإنشائية الطابع. فمثلاً، يشير هذا الباب في أكثر من موضع إلى القيم المصرية الأصيلة، فما هي هذه القيم؟ وما هي الجهة المنوط بها تحديدها؟ وما هو جزاء مخالفة هذه القيم؟ وهل يمكن للشعب تغيير هذه القيم وتطويرها؟ وهل يسمح بالاعتراض على هذه القيم والمطالبة بإسقاطها؟ كافة هذه التساؤلات تعكس عدم صلاحية هذه النصوص لأن تأتي في الدستور، ليس مجرد لكونها مبهمة، ولكن لأنها لا تؤسس حقوق أو واجبات محددة للمواطنين، ولا تلزم الدولة وأجهزتها بإجراءات معينة، ولا تضع قيود أو ضوابط على عملها.
ومن ناحية أخرى، نرى أن الأصل في الدساتير هو إطلاق الحريات وفتح الباب لمختلف التوجهات السياسية والمشارب الإيديولوجية للتعبير عن رأيها، طالما التزمت بالمنهج الديمقراطي، وقبلت بنتائج العملية الديمقراطية، واحترمت حقوق المواطنين وحرياتهم دون تمييز، وأعلت مبدأ سيادة القانون. وبالتالي، فمن غير المنطقي أن ينطوي الدستور على نصوص تؤدي ضمنياً إلى إقصاء توجهات سياسية معينة من المشهد السياسي. فعلى سبيل المثال، من المستبعد أن تحظى قوى علمانية داعية لفصل الدين عن الدولة بشكل مطلق – وبغض النظر عن رأينا الشخصي في مثل هذه الأفكار وعدم انتمائنا لتوجهاتها – بفرصة للإعراب عن رأييها بحرية وبالمساواة مع توجهات اجتماعية الأخرى في ظل دستور يقول أن "الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية". وبالطبع، نحن لا ندعو لإقصاء الدين من حياة المصريين، ولا نطالب بهدم الأسرة كنواة للمجتمع المصري، وإنما ما ندعو إليه يتلخص في ضرورة إعداد دستور مصري محايد، لا يفرق بين المصريين على أساس من الفكر أو الرأي، ويساوي بين جميع التوجهات، ويفتح المجال للأفكار أن تتلاقى في حرية على المسرح السياسي – طالما انصاعت لقواعد اللعبة الديمقراطية واحترمت سيادة القانون وعبرت عن مواقفها بسلمية – دون أن يقصي الدستور أي من هذه التيارات أو الأفكار عن المشهد السياسي والاجتماعي.
لذا، وفي ضوء ما تقدم من اعتبارات وملاحظات، فإننا نرى إلغاء هذا الباب من الدستور المصري المقبل، وحذف بعض فقراته، ونقل فقرات أخرى إلى ديباجة الدستور، ووضع أحكام أخرى في الأبواب التي تناسبها. فعلى سبيل المثال، نقترح حذف الفقرات المتعلقة بالأسرة المصرية، وتقاليد المجتمع المصري وأخلاقه. كما لا نرى داع للنص على مجانية التعليم وأولوية محو الأمية، فهذه، كما سبق وأشرنا، موضوعات ترتبط بالسياسة العامة للدولة وللحكومات المتعاقبة التي ستأتي إلى سدة الحكم في المستقبل لتحديدها وفق أولوياتها وبرامجها. كما يمكن نقل النصوص المتعلقة بتكافؤ الفرص بين المواطنين، والحق في العمل، وحق تقلد الوظائف العامة، توفير التأمين الاجتماعي والصحي، وغيرها من النصوص التي ترتبط بحقوق المواطنين، إلى باب حقوق الإنسان والحريات العامة.
المبحث الخامس
الباب الثالث من دستور 1971: الحريات والحقوق والواجبات العامة
تعد حقوق الإنسان من الدعائم الأساسية التي يتعين أن تتأسس عليها الجمهورية المصرية الثانية. وقد تحدثنا بقدر من الإسهاب في الفصل الثاني من هذا الكتاب حول حقوق الإنسان، وماهيتها، وطبيعة العلاقة التي تربطها بالديمقراطية وبسيادة القانون، واللتان تمثلان الركيزتين الأخريين للمجتمع والدولة الذين نأمل أن يقاما في مصر مستقبلاً. فحقوق الإنسان، كما أوضحنا سابقاً، وسيلة مهمة لضبط العملية الديمقراطية والتأكد من أنها لن تفرز نتائج غير صحية تؤدي إلى إهدار كرامة المصريين أو تسمح للأغلبية بأن تبطش بالأقلية، فضلاً عن أن مبادئ حقوق الإنسان وقيمها تعد من الضمانات المهمة للحول دون إساءة توظيف القانون واستغلاله بشكل يشيع الظلم ويهدر العدالة في المجتمع. ومن هنا، فإنه يتحتم على المشرع الدستوري المصري أن يضمِّنَ الدستور المقبل لجمهورية مصر العربية تلك المبادئ والقواعد والقيم التي تضمن حماية الحقوق والحريات الأساسية للمصرين وتصون كرامتهم.
وبالتحديد، فإننا نرى أهمية أن يتم التعامل مع الباب المخصص للحقوق والحريات الأساسية في دستور مصر الجديد بوصفه "شرعة مصرية لحقوق الإنسان"، أو ما يطلق عليه باللغة الانجليزية Bill of Rights. وقد استعرنا هذه العبارة مما يعرف عالمياً بالـ "شرعة الدولية لحقوق الإنسان"، أو الـ International Bill of Rights، والتي تتكون من وثائق دولية تحتوي مجتمعة على الحقوق والحريات الأساسية التي يتعين أن يتمتع بها المواطنون في مختلف بلدان العالم، وهي حقوق تمتد إلى وتمس مختلف جوانب وأوجه الحياة في المجتمع. وهذه الصكوك الثلاثة هي: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر يوم 28 ديسمبر 1948، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادران في عام 1966. ومن هنا، قد يكون من المناسب أن نعتبر الباب الخاص بالحقوق والحريات العامة في الدستور المصري المقبل بمثابة "شرعة مصرية لحقوق الإنسان" تخصص لإفراد وتفصيل الحقوق الأساسية التي يتمتع بها المصريون، وتهدف إلى إلزام الدولة بصون تلك الحقوق وحمايتها من أي انتهاك قد تقترفه أي جهة حكومية كانت وغير حكومية. ويجدر التنويه، في هذا الإطار، إلى أن العديد من الدساتير الحديثة أوردت إما في ديباجتها أو في أحكامها إشارات إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وإلى "الشرعة الدولية لحقوق الإنسان"، وجعلت منهما أسساً لما تضمنته تلك الدساتير من فقرات ومواد ترتبط بالحقوق والحريات الأساسية. وبالتالي، فإننا نرى ملاءمة أن يتخذ المشرع الدستوري المصري من الشرعة الدولية لحقوق الإنسان نموذجاً ونبراساً يهتدي به عند صياغة وصك الباب الخاص بالحقوق والحريات والواجبات العامة في الدستور المصري الجديد، وذلك لكي نضمن أن هذا الدستور سيكون أداة فعالة في تحقيق أحد أهم أهداف ثورة 25 يناير، وهو صون كرامة وعزة ورفعة المصريين.
سنقوم في هذا القسم، مثلما فعلنا في الأقسام الأخرى من هذا الفصل، بعرض ونقد أحكام كل من دستور 1971 والإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس 2011 المتصلة بحقوق الإنسان، ومن ثم نقدم توصياتنا بشأن الخطوط العريضة للباب الخاص بالحقوق والحريات والواجبات العامة في الدستور المصري الجديد. ونختتم هذا القسم بعرض مجموعة من النصوص المقترح أن تأتي ضمن نصوص هذا الفصل المحوري في دستور الجمهورية الثانية في مصر. وكما قلنا في أكثر من مناسبة على مدار هذا الكتاب، فإن الدساتير لا تستطيع أن تنصع بمفردها المجتمع الديمقراطي السليم الذي يسود فيه القانون وتحترم فيه حقوق الإنسان، وإنما هي وسيلة واحدة وأداة ضمن أدوات كثيرة يتعين استخدامها وتوظيفها لتحقيق الإصلاح الشامل في المجتمع. لذا، فإننا لن نكتف هنا بنقد أحكام ومواد دستور 1971 أو تقديم نصوص مقترحة للدستور الجديد فحسب، وإنما سنطرح كذلك مقترحات لكيفية مراجعة بعض القوانين والتشريعات المكملة للدستور التي يتعين تنقيحها لإزالة بعض أوجه العوار التي شابتها والتي ساهمت في سلب الإنسان المصري من الكثير من حقوقه الأساسية.
أفرد الدستور "الدائم" لعام 1971 الباب الثالث لتحديد الحقوق الأساسية للمواطن المصري والواجبات العامة التي يلتزم المواطنون بتنفيذها. ويمكن تقسيم هذه الحقوق والواجبات الواردة في الدستور وفق طبيعتها ونوعها. فقد وردت مجموعة من الحقوق المدنية، كالمساواة أمام القانون، ومنع التمييز على أساس من الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة. كما أكد الدستور على حرمة المساكن الخاصة، وحظر دخولها أو تفتيشها دون أمر قضائي، فضلاً عن إقرار حرمة الحياة الخاصة للمواطنين، ومنع التصنت عليهم والاطلاع على رسائلهم أو اتصالاتهم الشخصية إلا بإذن قضائي. كما كفل الدستور حقي العقيدة وممارسة الشعائر الدينية، وكفل ممارسة حريتي الرأي والتعبير في حدود القانون. ومنح الدستور كذلك المواطنين حق عقد الاجتماعات الخاصة دون الحاجة لإخطار مسبق، وأباح عقد الاجتماعات العامة في حدود القانون. أما بالنسبة لتكوين الجمعيات، فقد سمح الدستور بذلك شريطة الالتزام بنصوص القانون، وألا يكون "نشاطها معادياً لنظام المجتمع أو سرياً أو ذا طابع عسكري".
أما بالنسبة للحقوق السياسية، فقد منحت المادة 62 حق "الانتخاب والترشيح وإبداء الرأي في الاستفتاء وفقاً لأحكام القانون". وقد عُدلت هذه المادة في عام 2007 ليضاف إليها ما يلي: "وينظم القانون حق الترشيح لمجلسي الشعب والشورى وفقاً للنظام الانتخابي الذي يحدده بما يكفل تمثيل الأحزاب السياسية ويتيح تمثيل المرأة في المجلسين. ويجوز أن يأخذ القانون بنظام يجمع بين النظام الفردي والقوائم الحزبية بأي نسبة بينهما يحددها، كما يجوز أن يتضمن حداً أدنى لمشاركة المرأة". وفيما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فقد نص الدستور على العديد منها في بابه الثاني المتعلق بالمقومات الأساسية للمجتمع، وهو الباب الذي تعرضنا له فيما سبق. ومن هذه الحقوق حماية الملكية الخاصة، والعمل، والتعليم، ورعاية الأسرة والشباب والأطفال. أما الحق الاقتصادي والاجتماعي الوحيد الذي أورده المشرع الدستوري في الباب الثالث فكان حرية إنشاء النقابات والاتحادات للدفاع عن حقوق أعضائها.
تطرق الباب الثالث كذلك للواجبات العامة التي يلتزم المواطنون جميعاً بتنفيذها، حيث نص الدستور على تكليف المواطنين بالدفاع عن الوطن، وجعل التجنيد إجبارياً، كما أمر بالحفاظ على الوحدة الوطنية وصون أسرار الدولة، وحماية البيئة، وأداء الضرائب. هذا، وأورد الباب الثالث من دستور 1971 نصاً نراه مهماً ويتعين النظر في تضمين الدستور المقبل لمصر فقرة مشابهة، وهو المادة 57، التي تقرر أن "كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون جريمة لا تسقط الدعوة الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم، وتكفل الدولة تعويضاً عادلا لمن وقع عليه الاعتداء".
لم يغفل المجلس الأعلى للقوات المسلحة التطرق للحقوق والحريات الأساسية في الإعلان الدستوري الذي صدر يوم 30 مارس 2011، وإنما قام بنقل العديد من الأحكام التي وردت في دستور 1971 مباشرة إلى الإعلان الدستوري، وذلك حتى تكون هذه المواد بمثابة درعاً يحمي المواطنين من افتئات الدولة على حقوقهم ويصون كرامتهم خلال الفترة الانتقالية إلى أن يعد دستوراً جديداً للبلاد. وأورد الإعلان الدستوري هذه الحقوق الأساسية في المواد 7 – 17 والتي تضمنت التأكيد على المساواة بين المصريين في الحقوق والواجبات ومنع التمييز بينهم، وصون الحرية الشخصية ومنع القبض التعسفي على المواطنين، وحظر إيذاء من تقيّد حريتهم أو يتعرضون للقبض، وتقرير حرمة المساكن والحياة الخاصة، وكفالة حريات الرأي والعقيدة وممارسة الشعائر الدينية، وضمان حرية الصحافة، وتأكيد حق الاجتماع الخاص والعام.
بمطالعة مواد دستور 1971 الخاصة بالحقوق والحريات العامة وما نُقل منها إلى الإعلان الدستوري المؤرخ في 30 مارس 2011 يمكن لنا أن ندوّن مجموعة من الملاحظات حول إيجابيات وسلبيات تلك الأحكام، والتي يمكن من خلالها التعرف على أهم أوجه القصور التي اعترت دستور 1971 والتي يتوجب تجنبها في الدستور المصري الجديد. فمن الناحية الإيجابية، يتعين الاعتراف بأن المشرع الدستوري حرص على أن يتضمن الدستور عدداً كبيراً من الحقوق والحريات التي استقر الفقه الدولي على اعتبارها من قبيل الحقوق الأساسية التي لا غنى عنها في أي مجتمع متحضر. كما اشتمل الدستور على مبادئ تعبر عن الطائفتين الرئيسيتين لحقوق الإنسان، وهي الحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهو أمر نراه محموداً، خاصة إذا ما قورن بالدساتير السابقة على دستور 1971 في العهد الجمهوري. إلا أن هذه الإيجابيات لا تنفي وجود العديد من المثالب التي شابت مواد وأحكام دستور 1971 الخاصة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وهي العيوب التي يمكن تقسيمها إلى شكلية وأخرى موضوعية. من الناحية الشكلية، نلاحظ أن ترتيب مواد الدستور وتسلسل أحكامه جاء معيباً، فالفقرات المرتبطة بالحقوق والحريات الأساسية وزعت على أكثر من باب، فقد جاءت حرية إنشاء الأحزاب – وهي من الحقوق السياسية الأساسية – في الباب الأول، ووضعت معظم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الباب الثاني، وجاءت بعض الحقوق المدنية في الباب الثالث، ثم أضيفت طائفة أخرى من الحقوق المدنية المتعلقة بسيادة القانون والعدالة الجنائية في الباب الرابع من الدستور. لذا، فإننا نوصي بإعادة النظر في هذا الأمر، ووضع كافة الحقوق والحريات والواجبات العامة في باب واحد يمثل، كما أسلفنا، شرعة مصرية لحقوق الإنسان، ويجمع بين دفتيه مجمل المبادئ والقيم التي تصون الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين. وتنبع أهمية هذه التوصية كذلك من أن وجود كل المواد المرتبطة بالحقوق والحريات العامة في باب واحد سيعني أنها ستكون خاضعة لمجموعة من المبادئ العامة التي تنطبق على جميع الحقوق التي سيتضمنها الدستور وتحكم طريقة تطبيقها. ومن هذه المبادئ قاعدة المساواة وعدم التمييز – التي سنتناولها بالتفصيل لاحقاً – وهي القاعدة التي يتحتم أن يأتي ذكرها في طليعة باب الحقوق والحريات العامة بغرض التأكيد على سريانها على جميع حقوق الإنسان التي تليها، وذلك لضمان تمتع جميع المصريين بكافة الحقوق المنصوص عليها في الدستور على قدم المساواة ودون تمييز من أي نوع.
أما من الناحية الموضوعية، فإننا نلاحظ أن هناك بعض الحقوق المهمة التي أغفلها الدستور، وحقوق أخرى وردت بشكل منقوص ومجتزأ، وأحكام أخرى جاءت بها ثغرات تمكنت الدولة من أن تستغلها للافتئات على حقوق المواطنين وحرياتهم. ونسعى من خلال هذه الملاحظات أن نحقق أكثر من غرض، أولها إبراز مجموعة من العيوب التي شابت أحكام دستور 1971، والتي يجب تفاديها في دستور مصر الجديد. وثانياً، نسعى لتسليط الضوء على حقيقة وواقع عايشه كل من عمل في مجال حقوق الإنسان في مصر خلال الأعوام الأخيرة، ألا وهو أن انتهاكات حقوق الإنسان كانت تقع في مصر رغم وجود نصوص دستورية تكفل هذه الحقوق، أي أن حماية الحقوق والحريات العامة في مصر ما بعد ثورة 25 يناير سيتطلب عملاً يتجوز بكثير حدود وضع دستور جديد للبلاد. فالدستور، كما قلنا من قبل، ما هو إلا أداة ووسيلة ضمن أدوات ووسائل عديدة يتعين توظيفها لتنفيذ أهداف الثورة ولتحقيق آمال الشعب المصري.
بادئ ذي بدء، نلاحظ أن دستور 1971، وما سبقه من دساتير، أغفل وتجاهل أهم وأغلى حق أقرته المواثيق الدولية للبشرية جمعاء، وأقرته من قبلها الكتب والشرائع السماوية، ألا وهو حق الإنسان في الحياة، وهو حق يصبح من دونه الحديث عن حقوق وحريات عامة من قبيل العبث، فلا يتصور أن يتمتع أي شخص بحقوقه الأساسية وحياته ووجوده كإنسان مهددين. ومن هنا، فإنه يتحتم على المشرع الدستوري أن يصوغ نصاً يحمي ويصون حق الحياة لكل إنسان على أرض مصر، ويحظر سلب هذا الحق بشكل تعسفي. والغرض من وضع عبارة "تعسفي" في الدستور هو إلزام الدولة بعدم إزهاق روح أي شخص دون وجه حق، والتأكد من أن عقوبة الإعدام لا يتم اللجوء إليها أو تطبيقها إلا في الحالات التي يصدر بشأنها حكم قضائي بات ونهائي في الجرائم شديدة الخطورة.
كما يتعين أن يعي المشرع الدستوري المصري أن الحق في الحياة لا يقتصر على الحق في الوجود والبقاء على قيد الحياة، وإنما يتسع لما هو أبعد من ذلك ليشمل الحق في حياة كريمة بكل ما يتضمنه هذا المفهوم من معان. فما قيمة أن يكون شخص على قيد الحياة وهو منزوع الكرامة؟ ومن هنا، نوصي بأن تتضمن المادة التي ستتناول الحق في الحياة فقرة تشير إلى أنه من حق كل إنسان يعيش على أرض مصر أن تصان وتحترم كرامته الإنسانية، والتأكيد على حظر إهدارها أو المساس بها مطلقاً، وهو مبدأ أوردته بعض الدساتير الحديثة وأكدت عليه أحكام محاكم وطنية عديدة.
إذا كان دستور 1971 قد أغفل النص صراحة على حق الإنسان في الحياة، فإنه أشار إلى حق آخر نراه من أهم الحقوق التي لا يستقيم حال مجتمع من دونها، وهو الحق في المساواة وعدم التمييز. وقد تضمن دستور 1971 هذا الحق في المادة 40، وهو النص الذي نقل حرفياً إلى الإعلان الدستوري الصادر يوم 30 مارس 2011 في مادته السابعة، والتي تقول: "المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة".
رغم حرص المشرع الدستوري على وضع مبدأ المساواة في طليعة الباب الثالث من دستور 1971 والخاص بالحقوق والحريات العامة، إلا أن المادة التي احتوت على هذه القاعدة المهمة جاءت مجتزأة ومنقوصة. فلم يتم إقرار مبدأ المساواة بين المواطنين على إطلاقه، وإنما اقتصر على المساواة بين المواطنين أمام القانون، وهي قاعدة مهمة ومحورية في المجتمعات الديمقراطية السلمية، إلا أن مفهوم المساواة أوسع وأشمل من ذلك بكثير. فبجانب المساواة أمام القانون، يتسع هذا المبدأ ليشمل، على سبيل المثال لا الحصر، المساواة أمام القضاء، والمساواة في الوظائف العامة، والمساواة في فرص الانخراط في العمل العام، والمساواة في الانتفاع بالمرافق العامة، وغيرها من أوجه وأشكال المساواة. كما يتحتم ألا يتوقف مفهوم المساواة عند حدود القانون ونصوصه، وإنما يتعين أن يمتد إلى الحياة والواقع، فما قيمة المساواة أمام القانون إذا كان الأناس يعانون من التمييز على أرض الواقع بسبب ممارسات تتفق في ظاهرها مع القانون وأحاكمه إلا أنها تقيم الفوارق بين أبناء الشعب الواحد. وبالتالي، يتعين التعامل مع المساواة بين المواطنين على أنها قاعدة عامة تلزم الدولة والمجتمع بأسره بالتعامل مع المصريين على قدم المساواة وتحظر التمييز بينهم لأي سبب كان. لذا، فإننا نوصي بإعادة صياغة هذه المادة، وذلك لجعل مبدأ المساواة مطلقاً وغير مقصوراً على المساواة أمام القانون.
أما بالناسبة لظاهرة التمييز، فهي بالفعل مؤثمة ومحظورة بموجب الدستور. إلا أننا نلاحظ أن المادة 40 من دستور 1971، والتي نصت على منع ممارسة التمييز، أوردت عدداً محدوداً من أنواع وأنماط التمييز، وهي الجنس والأصل واللغة والدين والعقيدة، وهو ما نراه معيباً، ذلك لأنه يتعين أن تتصدى الدولة بموجب الدستور لأي ظاهرة أو ممارسة أو سياسة تخل بالمساواة بين المواطنين أو تميز بينهم على أي أساس ولأي سبب. ومن هنا، فإننا نقترح أن ينص الدستور صراحة على المساواة بين المصريين في الحقوق والواجبات، وعلى حظر التمييز بينهم بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو العقيدة، أو الرأي سياسياً كان أو غير سياسي، أو الأصل، أو الثروة، أو النسب، أو لأي سبب آخر. ويشير الفقه والقضاء الدوليين إلى أن المقصود بعبارة "التمييز" في هذا السياق هو أي أمر أو ظاهرة أو سياسة ينطوي على "تمايز، أو إقصاء، أو استثناء، أو قيد، أو محاباة" يؤثر على تمتع المواطنين بحقوقهم وحرياتهم. وبالإضافة لما تقدم، يتعين أن تضاف فقرة إلى هذه المادة المقترحة بالدستور الجديد لحظر التحريض أو الحض على التمييز أو الكراهية أو العنف على أساس الدين أو الجنس أو القومية أو العنصرية، وغيرها من أشكال وأنماط التمييز. وسيستجيب ذلك لمطلب دعت إليه العديد من القوى السياسية والاجتماعية على مدار السنوات الماضية، وأعيد طرحه في أعقاب ثورة 25 يناير في ضوء الأحداث الطائفية المؤسفة التي شهدتها مصر خلال الأسابيع التالية على سقوط النظام السابق، والتي مازال بعضه مستمر حتى كتابة هذه السطور. وتجدر الإشارة كذلك إلى أن هذا الحظر لا يشمل السياسات الحكومية فحسب، بل ينسحب، كغيره من مبادئ حقوق الإنسان، على الأشخاص الطبيعيين في تعاملاتهم مع بعضهما البعض، وعلى الأشخاص الاعتباريين (كالشركات والهيئات والجمعيات) في تعاملها مع موظفيها والمواطنين عامة. أي أن المخاطب بالحظر على التمييز بين المواطنين هو المجتمع بأسره، وليس الدولة وحدها، وإن كانت الدولة هي المكلفة بإنفاذ هذه المبادئ وضمان احترامها.
أما الحق الثالث الذي نود التطرق إليه في هذه الملاحظات، والتي يتعين مراعاتها عند سن دستور مصر الجديد، فهو حظر التعذيب. وتنبع أهمية تناول هذا الأمر لكون مصر من أكثر الدول التي ارتكبت فيها ممارسات تعد من قبيل التعذيب، وغيره من ضروب المعاملة المهينة واللاإنسانية. فقد تحولت سوء معاملة الأشخاص المحتجزين في السجون وأقسام الشرطة المصرية على مدار السنوات والعقود الماضية إلى أمر منهجي وشائع، إلى أن أصبح اللجوء إلى مثل هذه الممارسات أمر طبيعي وجزء من أدوات العمل الاعتيادية للأجهزة الأمنية. وقد تناول دستور 1971 هذا الأمر في المادة 42، والتي نصت على ما يلي: "كل مواطن يقبض عليه أو يحبس أو تقيد حريته بأي قيد يجب معاملته بما يحفظ عليه كرامة الإنسان، ولا يجوز إيذائه بدنياً أو معنوياً، كما لا يجوز حجزه أو حبسه في غير الأماكن الخاضعة للقوانين الصادرة بتنظيم السجون. وكل قول يثبت أنه صدر من مواطن تحت وطئة شيء مما تقدم أو التهديد بشيء منه يهدر ولا يعود عليه".
وأولى الملاحظات التي نود تسجيلها بشأن هذه المادة ترتبط بعدم استخدام كلمة "تعذيب" وعدم النص صراحة على حظره. فرغم أن عبارة "إيذائه بدنياً أو معنوياً" المستخدمة في المادة 42 لوصف الأفعال المحظور إتيانها يمكن تفسيرها لتشمل التعذيب، إلا أن استخدام كلمة التعذيب بحد ذاتها له فوائد عديدة. فأولاً، التعذيب وغيره من أشكال المعاملة القاسية واللاإنسانية والحاطة من الكرامة هي من الممارسات التي استقر الفقه والقضاء الدوليين على اعتبارها من قبل الممارسات المؤثمة والمحرمة في كل الأوقات وفي كافة الحالات، بما فيها أوقات الطوارئ والأوضاع الاستثنائية التي قد تواجهها الدول. فلا يمكن التحجج بموجود تهديدات إرهابية تستلزم اللجوء لمثل هذه الممارسات، ولا يمكن الدفع بقيام حالة حرب لإضفاء الشرعية على ارتكاب مثل هذه الأفعال. وثانياً، يؤكد استخدام عبارة "التعذيب" في الدستور على أن الضلوع في مثل هذه الممارسات يعد جريمة لا تسقط بالتقادم، وأن مرتكبيها لن يفلتوا من المحاسبة والعقاب، وذلك لكون الحظر على ارتكاب التعذيب من المبادئ الآمرة للقانون الدولي والتي وُصف من يخالفونه بأنهم "أعداء للإنسانية جمعاء".
أما الملاحظة ثانية التي نود إبرازها فيما يتعلق بالمادة 42 من دستور 1971 فترتبط بالحالات والأوضاع التي يُحظر فيها إيقاع الأذى البدني والنفسي على الأشخاص. فقد أتت المادة مخاطبة أجهزة الدولة عند تعاملها مع من يقع رهن التوقيف ومن تقيد حريتهم إما بالحبس أو السجن. ورغم أن هؤلاء الأشخاص عادة ما يكونون الأكثر عرضة للتعذيب وغيره من أشكال سوء المعاملة، إلا أنه كان من الأوفق أن يوسع المشرع الدستوري من الحظر على إساءة معاملة المواطنين ليجعله مطلقاً، وليس محدداً بحالات أو أوضاع بعينها. وسيضمن ذلك امتداد حظر التعذيب ليشمل ممارسات وتصرفات الأفراد العاديين في تعاملاتهم مع بعضهم البعض، بالإضافة إلى سريانه في مواجهة الأشخاص الاعتباريين كالشركات في علاقتهم مع من يعملون لديهم.
وتعضيداً للملاحظتين السابقتين، حرص العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على النص على منع إساءة معاملة الأشخاص في موضعين، إحداهما المادة 7 والتي أرست مبدأ حظر التعذيب عامة وفي كل الأحوال، وذلك بقولها: "لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة" . أما الحالة الثانية التي نص فيها العهد الدولي على عدم جواز إساءة معاملة المواطنين فجاءت في المادة 10 والتي تقول: "يعامل جميع المحرومين من حريتهم معاملة إنسانية وتحترم الكرامة الأصيلة في الشخص الإنساني". ويتضح من هاتين المادتين أن المادة 42 من الدستور المصري أقرب في منطوقها ونطاق تطبيقها إلى المادة 10 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وليس للمادة 7 التي ترسي المبدأ العام الذي يؤثم التعذيب وغيره من أشكال المعاملة اللاإنسانية والقاسية. وبالتالي، فإننا نرى الإبقاء على المادة 42 لأنها تتناول الحالات التي يكون فيها المواطنين متحفظ عليهم أو محبوسين، مع إضافة مادة جديدة تماثل نص المادة 7 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لإرساء المبدأ العام القاضي بحظر التعذيب وغيره من أشكال المعاملة المهينة واللاإنسانية والحاطة من الكرامة.
لن يكتمل حديثنا عن التعذيب في مصر دون إبراز أمثلة لأوجه العوار التي شابت بعض القوانين والتشريعات المكملة للدستور والتي تعاملت مع ظاهرة التعذيب وجرمتها. وبالتحديد، نصت المادة 126 من قانون العقوبات على ما يلي: "كل موظف أو مستخدم عمومي أمر بتعذيب متهم أو فعل ذلك بنفسه لحمله على الاعتراف يعاقب بالأشغال الشاقة والسجن من ثلاثة إلى عشر سنوات. وإذا مات المجني عليه يحكم بالعقوبة المقررة للقتل عمداً". ومن أخطر العيوب التي تعتري هذا النص هو أنه اقتصر الفعل المؤثم على "التعذيب" ولم يوسع نطاق الحظر الوارد في المادة ليشمل نماذج أخرى من الانتهاكات التي يمكن أن تقترفها أجهزة الأمن، كالمعاملة اللاإنسانية والقاسية والحاطة من الكرامة. كما أن استخدام قانون العقوبات لكلمة "متهم" في المادة سابقة الذكر أدى إلى قصر الحالات التي تسري في مواجهتها على تلك التي يكون قد تم بالفعل توجيه تهمة معينة للشخص المحتجز. ومن هنا يستثنى قانون العقوبات كافة الأشخاص المعتقلين بموجب قانون الطوارئ، والأشخاص الموضوعين رهن الحجز على ذمة التحقيقات، وغيرهم ممن قيدت حريتهم دون أن توجه لهم تهم، وهم طائفة من الأشخاص عادة ما يكونون الأكثر عرضة للتعرض لممارسات ترتقي إلى وصف التعذيب والمعاملة اللاإنسانية. وثالثاً، يلاحظ أن هذا النص حظر قيام المسئولين الحكوميين بتعذيب الأشخاص بأنفسهم أو الأمر بتعذيبهم، وهو ما يتجاهل حقيقة أن ارتكاب التعذيب لا يستلزم أن يقوم المسئول الحكومي بنفسه بالتعذيب أو أن يصدر أمراً مباشراً بذلك، فقد يتم التعذيب بمعرفة المسئول الحكومي، أو موافقته الضمنية، أو بتحريض غير مباشر منه، وهي أمور لم يتطرق لها قانون العقوبات، رغم أنها جاءت في اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب.
ومن اللافت للنظر أن الحكومة المصرية كانت على دراية بهذه العيوب التي شابت نصوص قانون العقوبات ذات الصلة بالتعذيب، حيث تعهدت مصر في فبراير 2010 أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بتعديل قانون العقوبات للتأكد من تماشيه مع أحكام اتفاقية الأمم المتحدة سالفة الذكر، وهو ما لم يتم بطبيعة الحال. وليس ما تقدم إلا مثالاً واحداً على ما يتعين أن تتخذه الدولة في الشهور والأعوام المقبلة من إجراءات إصلاحية شاملة لتطوير البنية والمنظومة القانونية المصرية لجعلها أكثر تواؤماً مع القواعد الدولية المرتبطة بحظر التعذيب، وهي الإجراءات يتعين القيام بها لكي لا تحول القوانين إلى أداة لسلب المواطنين حقوقهم وحرياتهم التي كفلها الدستور لهم.
تعتبر الحقوق الثلاثة التي تناولناها فيما تقدم من الحقوق الأساسية والمركزية التي لا يتصور أن ينعم البشر من دونها بحقوقهم وحرياتهم العامة، إلا أن منظومة حقوق الإنسان لا تقتصر على مثل هذه الحقوق الأساسية، وإنما تتسع لتشمل حريات أخرى تتصل بحياة المواطنين وآليات مشاركتهم في الحياة العامة وانخراطهم في العمل السياسي. وفي مقدمة الحقوق التي تؤمن للمواطنين حرية العمل الجماعي هو حق تكوين الجمعيات، والذي يعد من أهم الأدوات التي يلجأ إليها المواطنون لممارسة العمل المنظم في مختلف مناحي الحياة.
كفل دستور 1971 حق تكوين الجمعيات في المادة 55، والتي نصت على ما يلي: "للمواطنين حق تكوين الجمعيات على الوجه المبين في القانون، ويحظر إنشاء جمعيات يكون نشاطها معادياً لنظام المجتمع أو ذا طابع عسكري". وقد نقل بعض ما تضمنه هذا النص إلى المادة 4 من الإعلان الدستوري الصادر يوم 30 مارس 2011. وإذا بدأنا بالتعليق على النص الدستوري، فإننا نرى أنه نص إيجابي بصفة عامة، وإن كان من الأوفق أن يُكتفى بإطلاق حرية إنشاء الجمعيات، ومن ثم يحال إلى القانون لتنظيم عمل هذه الجمعيات وتحديد آليات إنشائها والنص على المجالات التي يحظر عليها الاشتغال بها، وذلك بدلاً من استخدام عبارة "معادياً لنظام المجتمع" التي وردت لوصف أحدى أسس حظر إنشاء الجمعيات. فما هو تعريف "نظام المجتمع"؟ وما هي الجهة المخول لها تحديد "نظام المجتمع"؟ فهل المقصود نظام الحكم مثلاً؟ أم مقومات المجتمع المنصوص عليها في الباب الثاني من الدستور؟ وإذا كان الأمر كذلك، ألا يحق للمواطنين إنشاء جمعيات تنادي بتغيير هذه المقومات الاقتصادية والاجتماعية؟ فعلى سبيل المثال، ألا يمكن لمجموعة من المواطنين أن ينشئوا جمعية لإحياء تراث الملكية في مصر رغم أننا أصبحنا جمهورية منذ عقود طويلة؟ فهل يعد ذلك "معادياً" للنظام الجمهوري؟ هذه أسئلة يثيرها الغموض الذي اتسمت به عبارة "معادياً لنظام المجتمع" والتي يمكن أن تستغلها السلطات للافتئات على حق المواطنين في تنظيم أنفسهم في جمعيات أهلية ومنظمات غير ربحية تسعى للانخراط في العمل العام بمختلف أشكاله. كما أننا لا نرى داع للنص في الدستور على حظر الجمعيات ذات الطابع العسكري، فهذا أمر بديهي وضروري، إلا أنه يمكن نقله إلى القانون ووضعه بجانب أنشطة أخرى يحظر على الجمعيات الأهلية القيام بها.
كان هذا عن الدستور، فماذا عن القانون؟ يعد حق تكوين الجمعيات من الأمور التي تجسد ما سبق وقلناه حول أهمية أن تتسع الحركة الإصلاحية في مصر بعد ثورة 25 يناير إلى ما هو أبعد من الدستور. فالدستور لا يمكن أن يؤدي رسالته دون القوانين المكملة له، وسيظل الدستور مكبل الأيدي وغير مفعّل إذا جاءت القوانين مقيدة للحريات التي أطلقها الدستور، وهو ما حدث بالنسبة لحق تكوين الجمعيات. فرغم تمتع المواطنين بحق تكوين الجمعيات بموجب المادة 55 من الدستور، والتي أتى نصها إيجابي إلى حد بعيد، إلا أن الدولة تمكنت من تضييق الخناق على الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني من خلال القانونين المنظمة لعمل هذه المؤسسات.
تناولت العديد من المنظمات الحقوقية هذا الموضوع على مدار العقد الفائت، وتطرقت إليه وسائل الإعلام في مناسبات كثيرة. لذا، سنكتفي هنا بالإشارة إلى أبرز وأخطر العيوب التي اعترت القانون الخاص بالجمعيات الأهلية والممارسات التي كانت تقوم بها الدولة قبل ثورة 25 يناير 2011 للحد من نشاط وفاعلية المنظمات الأهلية. ينظم عمل الجمعيات الأهلية في مصر حالياً القانون رقم 84 لسنة 2002 للجمعيات والمؤسسات الأهلية، وهو القانون الذي صدر بعد سلسلة طويلة من التشريعات المصرية التي وضعت قواعد إنشاء وتشغيل المنظمات الأهلية والمؤسسات غير الحكومية وغير الربحية. ويأتي في مقدمة الانتقادات الموجهة للقانون رقم 84 لسنة 2002 التعقيد الذي تتسم به إجراءات إنشاء الجمعيات الأهلية، والسلطات الواسعة التي تحظى بها جهة الإدارة (وهي وزارة التضامن الاجتماعي) في الاعتراض على الطلب المقدم لإنشاء جمعية أهلية، حيث يحق لجهة الإدارة الاعتراض على إنشاء جمعية في غضون 60 يوماً من تقديم طلب التسجيل، وهو القرار الذي يمكن التظلم ضده أمام محكمة القضاء الإداري. وتعد هذه القيود الواردة في القانون مخالفة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والذي يحظر على الدولة أن تضع اشتراطات تؤدي عملياً إلى إفراغ حق تكوين الجمعيات من مضمونه، كحظر إنشاء الجمعيات دون موافقة الدولة.
وكان من الأوفق أن يكون إنشاء هذه المؤسسات غير الحكومية بموجب إخطار يرسل إلى الوزارة المختصة، على أن يكون من حق جهة الإدارة الاعتراض بقرار مسبب – وليس مجهّل كما يحدث حالياً – على إنشاء الجمعية في فترة زمنية محدودة – كثلاثين يوماً مثلاً – على أن يعرض قرار الاعتراض فور صدوره على القضاء الإداري إما لتأييده أو لإلغائه، وذلك أيضاً خلال فترة محددة.
من الصلاحيات الأخرى التي منحها القانون رقم 84 لسنة 2002 لجهة الإدارة والتي أسيء استغلالها لتضييق الخناق على منظمات المجتمع المدني في السنوات الأخيرة، هو حق إغلاق المؤسسات الأهلية بموجب قرار إداري دون الحاجة للحصول على حكم قضائي، فضلاً عن الحق الذي حظيت به جهة الإدارة في الاعتراض على عضوية شخصيات معينة في مجالس إدارات الجمعيات الأهلية، بالإضافة إلى العراقيل العديدة التي وضعها كل من القانون واللوائح التنفيذية المكملة له أمام منظمات المجتمع المدني للحصول على التمويل، وخاصة من المصادر الأجنبية.
ورغم كل ما وثقّته وسجلته تقارير منظمات المجتمع المدني حول العيوب التي اعترت القانون رقم 84 لسنة 2002، والتي تطرقنا لطائفة منها فيما تقدم، إلا أنه يظل أنه لو كانت الحكومة قد التزمت بتنفيذ نص هذا القانون لكان حال الجمعيات الأهلية في مصر أفضل بكثير مما هو عليه. فالدولة لم تكتف بما كفله لها القانون من سلطات وصلاحيات واسعة تضمن لها السيطرة شبه الكاملة على عمل ونشاط منظمات المجتمع المدني، وإنما تخطت هذه السلطات ولجأت إلى ممارسات وإجراءات قمعية ضد بعض هذه الجمعيات الأهلية. وبالتحديد، يروي الكثير ممن عملوا في منظمات المجتمع المدني – وخاصة الناشطة في مجال حقوق الإنسان – عن الملاحقات والمضايقات الأمنية التي تعرضوا إليها خلال تأدية عملهم. كما كان لجهاز مباحث أمن الدولة السابق دور كبير ورئيسي في الموافقة على تأسيس المنظمات غير الحكومية، بالإضافة إلى مراقبته لعملها ومتابعته لأعضائها ونشاطهم، وذلك رغم أن القانون لم يشر مطلقاً لأجهزة الأمن ولا لمباحث أمن الدولة ولم يمنحها أي دور في عملية تنفيذ أحكامه. وتشكل هذه الممارسات انتهاكات صارخة للقانون الدولي لحقوق الإنسان، حيث صدرت العديد من الأحكام في محاكم وطنية ودولية تؤكد على عدم شرعية تدخل الدولة بهذا الشكل في عمل ونشاط الجمعيات الأهلية.
ومن هنا، يتضح لنا أن عملية تأسيس وبناء الجمهورية الثانية في مصر لن تكتمل بوضع دستور جديد للبلاد. فكما رأينا من مثال منظمات المجتمع المدني، تمكنت الدولة من تقييد نشاط هذا العنصر الحيوي في المجتمع والحد من فاعليته رغم وجود نص دستوري واضح يضمن للمواطنين حق تكوين الجمعيات الأهلية، إلا أن القانون جاء ليلتف على الدستور وليفتأت على أحكامه وليبطل من مفعولها، ثم انقضت الأجهزة الأمنية للدولة على ما تبقى من هامش لحرية العمل والحركة لهذه المنظمات للتأكد من أنها لا تشكل أي تهديد أو منافسة لنظام الحكم في البلاد. وبالتالي، نعود لنؤكد على ما قلناه من قبل، أنه يتحتم حتى تؤتي ثورة 25 يناير كامل ثمارها أن تقترن عملية كتابة الدستور المصري الجديد بخطوتين أخريين، أولهما إجراء إصلاحات تشريعية شاملة، وثانيهما إحداث تطوير جذري في آليات وأساليب عمل العديد من المؤسسات الحكومية، وإخضاعها لرقابة نيابية وقضائية وشعبية دقيقة.
الحقوق التي تناولناها فيما تقدم تأتي ضمن ما يعرف بالحقوق المدنية والسياسية، وهي إحدى الطائفتين التي يتعين أن تحتويها "الشرعة المصرية لحقوق الإنسان" التي نأمل أن يتضمنها الدستور المصري المقبل في بابه المخصص للحقوق والحريات العامة. أما الطائفة الثانية من الحقوق التي يتحتم النص عليها في الدستور، فهي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وكما أشرنا في مقدمة هذا القسم تضمنت أحكام دستور 1971 العديد من هذه الحقوق والتي توازي وتماثل – بل وتتجاوز في بعض الأحيان – ما جاءت به المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، كالحق في العمل، والصحة، والتعليم والبحث العلمي، والتأمين الاجتماعي. وكفل الدستور أيضاً حق إنشاء النقابات والاتحادات، وأسهب في تناول حقوق العمال الذين أكد على ضرورة تمثيلهم في مجالس إدارات مؤسسات القطاع العام، وأرسى مبدأ مشاركتهم في أرباح المشروعات التي يعملون بها. وفي المجال الثقافي، كلف الدستور الدولة برعاية وحماية "التقاليد المصرية الأصيلة" و"القيم الخلقية والوطنية والتراث التاريخي للشعب".
بصفة عامة، رغم تطرق الدستور المصري لمعظم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي ينبغي أن يتناولها أي دستور حديث، إلا أنه توجد بعض الملاحظات التي يمكن تسجيلها بشأن هذه الأحكام. أولها هو أن العديد من النصوص ذات الصلة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لم تأت في الباب الخاص بالحقوق والحريات العامة، وإنما وضعت في الباب الثاني المعنون "المقومات الأساسية للمجتمع"، وهو العيب الذي سبق وأن أشرنا إليه في أكثر من موضع وأوصينا بضرورة تجميع كافة المواد الخاصة بحقوق الإنسان في باب واحد، وأن ترتب في هذا الباب وفق نوعها وطبيعة الالتزامات التي تضعها على كاهل الدولة. أما ثانياً، فهناك بعض الحقوق التي لم يتضمنها الدستور، والتي نرى ضرورة إضافتها، وفي مقدمتها التزام الدولة باتخاذ الخطوات اللازمة لتمكين الأفراد من التمتع بمستوى ملائم من المعيشة، وهو الحق الذي نصت عليه المادة 11 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويعد بمثابة مظلة تنضوي تحتها حقوق أساسية أخرى كالحق في المأكل والماء والملبس والمسكن.
ويهمُنا، في هذا الإطار، أن نبرز ونتناول بعض الخصائص التي تمتاز بها هذه الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مقارنة بالحقوق المدنية والسياسية التي تناولناها آنفاً. وإذا جاز لنا أن نفرق بشكل يتسم بالعمومية والتبسيط بين هاذين النوعين من الحقوق، فإننا سنقول أن الحقوق المدنية والسياسية تضع التزامات سلبية على الدولة ومؤسساتها، أي أن واجبات الدولة بموجب هذه الحقوق تتمحور حول الامتناع عن القيام بممارسات تفتئت على الحقوق التي يحق للمواطنين التمتع بها بحرية ودون تدخل من الدولة. ومثال ذلك التزام الدولة بالامتناع عن إيذاء المواطنين، وعدم إساءة معاملتهم، وعدم انتهاك حرمة بيوتهم وحياتهم الخاصة، وعدم الإطلاع على مراسلاتهم، وغير ذلك من التزامات. في المقابل، تلقي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التزامات إيجابية على كاهل الدولة، أي أنها تلزم الدولة باتخاذ إجراءات محددة وخطوات عملية وملموسة لضمان تمتع المواطنين بحقوقهم. فهي ملزمة بتوفير خدمات كالتعليم والصحة والسكن، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بمتمتع المواطنين بحقهم في العمل، وهي كلها حقوق تتطلب وضع سياسات اقتصادية واجتماعية محددة وتنفيذها على أرض الواقع.
نتيجة لطبيعة الالتزامات التي تلقيها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على عاتق الدولة، فإن العرف والفقه الدوليين قد استقرا على اعتبار الدول غير ملزمة بتنفيذ كافة هذه الحقوق بشكل فوري، وذلك إدراكاً لمحدودية الموارد المتاحة للكثير من الدول وصعوبة ضمان تمتع كافة المواطنين بها على قدم المساواة بشكل سريع. ومن هنا، تلتزم الدول بالإنفاذ التدريجي لهذه الحقوق وفق الخطط التنموية والسياسات الاجتماعية المناسبة لها ولظروفها. ولكن لا يعني ذلك أنه يحق للدول أن تُهمل بعض الحقوق أو تتجاهلها بحجة ضعف الإمكانات أو بذريعة تخصيص الموارد المتاحة لتحقيق حقوق أخرى، فذلك سيؤدي عملياً لإفراغ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من مضمونها. وإنما تلتزم الدول بالتأكد من تمتع المواطنين بالحد الأدنى الأساسي من هذه الحقوق (عرف هذا المبدأ في الفقه الدولي بمبدأ: minimum core requirement) الذي يكفل لهم المقومات الضرورية للحياة الكريمة. أما ما يتجاوز هذا الحد الأدنى الأساسي، فيحق للدول أن تسعى لإنفاذ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالشكل والطريقة التي تناسبها ووفق الخطط التي تضعها حكوماتها.
ومن هنا، تتجلى العلاقة التكاملية التي تربط بين الديمقراطية وحقوق الإنسان. فمهما وضعنا في الدستور من نصوص وأحكام تؤمن للمواطنين حقوقهم الأساسية وتكفل لهم التمتع بحياة كريمة، ستظل هذه الحقوق حبراً على ورق دون أن تأتي سياسات حكومية وبرامج تنموية تحول هذه الحقوق إلى واقع ملموس. وبطبيعة الحال، يتطلب إعمال وإنفاذ السياسات الناجعة عملية رقابة مجتمعية على أداء الحكومة والدولة، وتقييم مستمر لعملها ومدى تنفيذها لالتزاماتها، ومحاسبة دورية لها، وهو ما يستلزم وجود حياة ديمقراطية سليمة تتيح تبادل وجهات النظر بشأن السياسات الحكومية الاقتصادية والاجتماعية، وتسمح بإجراء حوار مستمر حول أولويات المجتمع وأدوات تحقيقها.
وختاماً لهذا القسم الذي تناولنا فيه بالنقد والتعليق نصوص وأحكام الباب الثالث من دستور 1971 وما نقل منها إلى الإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس 2011، يمكن أن نصل إلى مجموعة من الخلاصات بشأن العلاقة بين الدستور وحالة حقوق الإنسان في مصر. أول هذه الخلاصات أنه رغم ما ينقص دستور 1971 من حقوق أساسية، وما تغافل المشرع الدستوري عن ذكره من حريات عامة، وإذا تغاضينا عن غياب التناسق بين مواد الدستور وتناثر الفقرات المرتبطة بحقوق الإنسان وتوزيعها على أكثر من باب، إلا أن أحكام الدستور جاءت في مجملها إيجابية، وتؤمن الحد الأدنى من الحقوق التي يفترض أن تضمن حياة كريمة للمواطن المصري. أما الخلاصة الثانية، فهي أن أحد أبرز المشكلات التي واجهت مصر، ومنذ قيام ثورة 23 يوليو 1952، في مجال حقوق الإنسان لم تتمثل في غياب الإطار الدستوري الذي يحمي حقوق المواطنين ويصون كرامتهم، وإنما في وجود تشريعات وقوانين تلتف على القيم والمبادئ التي أرساها الدستور، وتفرغها من مضمونها، وتمكن الدولة من الافتئات عليها، وهو ما رأينه بجلاء في تناولنا لحق تكوين الجمعيات في مصر في ظل دستور 1971. وفي هذا الإطار، قد يكون من الملائم أن تنظر الجمعية التأسيسية المكلفة بوضع الدستور المصري الجديد في تضمينه نصاً كالمادة 49 من مشروع دستور 1954 الذي أعدته لجنة الخمسين في أعقاب ثورة 23 يوليو 1952، والتي قالت: "في الأحوال التي يجيز فيها الدستور للمشرع تحديد حق من الحقوق العامة الواردة في هذا الباب أو تنظيمه [المقصود هو الباب الثاني من مشروع الدستور والمعنون "الحقوق والواجبات العامة]، لا يترتب على هذه الإجازة المساس بأصل ذلك الحق أو تعطيل نفاذه".
وتأتي الخلاصة الثالثة التي نود تدوينها هنا في ذات السياق، وهي أنه بالإضافة إلى وجود تشريعات أدى تطبيقها إلى تقويض الحقوق والحريات التي منحها الدستور للمواطنين المصريين، شهدت مصر على مدار العقود الستة التي مضت منذ قيام الجمهورية الأولى ظاهرة نسميها "تطبيع للاستثناء"، والتي نقصد بها كثرة استخدام الاستثناءات على القواعد العامة التي وضعها الدستور، وهو ما أتاح للدولة اللجوء إلى إجراءات استثنائية وقعت في ظلها أخطر وأبشع الانتهاكات لحقوق الإنسان. ويعتبر طول الفترة التي فرضت خلالها حالة الطوارئ على مصر – وهي ظاهرة لم يتفرد بها عهد الرئيس السابق حسني مبارك – من أبرز ملامح "تطبيع الاستثناء"، وهو ما خلق البيئة المواتية لارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان على مدار العقود التي مضت منذ قيام الجمهورية الأولى في مصر. كما أفرزت هذه الظاهرة أجيالاً كاملة من ضباط الشرطة ورجال الأمن ممن لم يمارسوا العمل الشرطي دون أن تكون لهم السلطات الواسعة والاستثنائية التي يمنحها إياهم قانون الطوارئ، وهو ما يفرض علينا إعادة تأهيل الكثير من كوادر الشرطة المصرية لتدريبهم على أداء مهامهم التي لا غنى عنها في المجتمع دون اللجوء إلى الممارسات السلبية التي شابت عملهم في العهد السابق.
أما الخلاصة الرابعة، والأخيرة، فهي تتجاوز الدستور والقانون، وترتبط بسياسات الدولة وواقع المجتمع بصفة عامة. فقد رأينا كيف تمكنت الدولة في السنوات الماضية من الالتفاف حول الدستور وأحكامه، وأن تتجاهل القانون ومقتضياته، وأن تتبنى سياسات وممارسات تتنافى مع نص وروح الدستور والقانون دون أن تخضع للمساءلة والمحاسبة. وبالتالي، يتطلب معالجة هذه الظاهرة القيام بإجراءات واستخدام أدوات لا تقتصر على الحلول الدستورية والقانونية فحسب، وإنما تمتد إلى ميدان العمل السياسي. فلن ينعم المواطن المصري بكامل حقوقه وحرياته دون إقامة نظام ديمقراطي سليم يتيح لكافة التيارات السياسية أن تتنافس من اجل الوصول على السلطة، وأن تتصارع من أجل الفوز بثقة الناخب المصري من خلال تقديم برامج ورؤى تلبي حاجات المجتمع ومتطلباته، وهو ما سيفرز البيئة السياسية التي يمكن في إطارها مساءلة الحكومة ومحاسبتها على ما ترتكبه من ممارسات تفتئت على حقوق المواطنين وتقوض من حرياتهم. أما على المستوى الاجتماعي، فقد أثبتت التجربة أن تمتع المواطنين بكامل حقوقهم المكفولة بموجب الدستور والقانون لن يتأتى دون إشاعة ثقافة حقوق الإنسان في المجتمع. فما قيمة وضع مبدأ المساواة في الدستور في ظل وجود ثقافة متشددة ترفض التعددية وتنبذ الآخر وتحض على كراهيته، وما قيمة إقرار حرية الرأي والتعبير في الوقت الذي مازالت مصر تتبنى نظاماً تعليمياً مبني على التلقين والحفظ وطمس الإبداع والابتكار وهما مهارات لا غنى عنها في مجتمع تمارس فيه حقوق كحريتي الرأي والتعبير بفاعلية، وما قيمة حماية حقوق الاجتماع وتكوين الجمعيات دون أن نَنمي ملكة العمل الجماعي لدينا كمجتمع غابت وغُيبت عنه السياسية والعمل العام. كلها أمور تستلزم منا جميعاً جهد أكبر وأوسع نطاقاً من مجرد صك أحكام دستورية أو سن تشريعات – رغم أهميتها – وستمتد لسنوات طويلة في المستقبل حتى نبني مصر الجديدة الفتية التي نطمح إليها ونحلم بها. وختاماً لهذا القسم، نعرض على القارئ الكريم رؤيتنا لبعض النصوص التي نرى أنها قد تكوّن أساساً ونواة للشرعة المصرية لحقوق الإنسان في الدستور المصري الجديد:
الحق | النص المقترح |
الحق في الحياة | لكل إنسان الحق في الحياة ، ولا يجوز حرمان أي شخص من حياته تعسفاً ، ولا يجوز تقرير عقوبة الإعدام إلاَّ لأشد الجرائم وطأة وخطورة ، ولا يجوز تنفيذ هذه العقوبة إلاَّ بموجب حكم قضائي بات صادر بناء على محاكمة منصفة . |
الحرية والسلامة الشخصية والكرامة الإنسانية | الحرية الشخصية مصونة ، ولكل إنسان الحق في سلامة شخصه وعرضه ، وعلى الدولة احترام الذات والكرامة الإنسانية وحمايتهما من كل تعرض أو إساءة ، وكل اعتداء على حرمة الحياة الخاصة جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية عنها بالتقادم . |
حظر الاسترقاق والعمل الجبري | يحظر الاسترقاق بكل صوره وأنماطه ، و لا تفرض الخدمة أو التشغيل جبرًا على أحد إلاَّ بمقتضى القانون لأداء خدمة عامة وبمقابل عادل . |
عدم التمييز | 1. يُحظر اضطهاد الأفراد أو التمييز بينهم بسبب العِرْق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو النسب أو الثروة أو العقيدة أو الدين أو الرأي أو التوجه السياسي أو لغير ذلك من الأسباب . 2. تعمل الدولة على إزالة كل شكل من أشكال الاضطهاد أو التمييز بين الأفراد ، ونشر الطمأنينة بينهم ، وتكفل تكافؤ الفرص بين المواطنين ، وتمتعهم بحقوقهم وحرياتهم وممارستهم لواجباتهم العامة ، وذلك على أساس من المساواة . |
حظر التعذيب | لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب المادي أو المعنوي ولا للمعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة من الكرامة . ولا يجوز إجراء أي تجارب طبية أو علمية على أحد دون رضاه . |
حظر إبعاد المواطنين وحق الإقامة وحرية التنقل | 1. يُحظر تسليم أو إبعاد أي مواطن مصري عن البلاد أو منعه من العودة إليها ، ولا يجوز تقييد الحق في التنقل أو حظر الإقامة في جهة ما من أراضي الجمهورية ، أو تحديد الإقامة في مكان معين فيها ، وذلك إلا في الأحوال التي ينص عليها القانون في حدود ضرورات الحفاظ على الأمن العام أو الصحة العامة أو سلامة الـمُجتمع . 2. للمواطنين حق الهجرة الدائمة أو المؤقتة إلى الخارج ، وينظم القانون إجراءات الهجرة ومغادرة البلاد . |
المساواة أمام القانون | الأفراد جميعاً أمام القانون سواء ، والمصريون متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة. |
حقوق الموقوفين | 1. يعامل كل من يُتَّهم أو تقيد حريته بأي قيد بما يحفظ كرامته الإنسانية، ولا يجوز إيذاؤه بدنيًّا أو معنويًّا. وكل قول أو اعتراف أو شهادة تَصْدُر من أي فرد تحت وطأة شيء مِمَّا يُخالف ما تقدَّم أو التهديد به يُهدر تمامًا ولا يُعتد به . 2. يجب إبلاغ كل من يتم تقييد حريته بأي قيد على الفور بأسباب ذلك ، وبأي تُهم توجه إليه . 3. لا يجوز تقييد حرية الأشخاص أو حبسهم إلا في الأماكن المخصصة لذلك وفق القانون والخاضعة للرقابة القضائية . 4. لكل من قُيدت حريته بأي قيد الحق في التظلم أمام القضاء ، ويكون الفصل في التظلم على وجه السرعة ، ولمن ثبت تقييد حريته دون مبرر مشروع ، الحق في تعويض ملائم تقضي به المحكمة المختصة، وتتحمله الخزانة العامة . |
المساواة أمام القضاء | حق التقاضي مصون للكافة ، ولا يجوز تعويقه أو تعطيله . ويحظر النص على تحصين أي عمل أو قرار إداري من الطعن أمام القضاء . |
سيادة القانون ومبادئ العدالة الجنائية | 1. سيادة القانون أساس الحكم في البلد . 2. المتهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم قضائي بناء على محاكمة منصفة. 3. لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص القانون ، ويُحظر سريان نصوص التجريم والعقاب بأثر رجعي، والعقوبة شخصية . 4. لكل متهم حق المثول أمام قاضيه الطبيعي ، وتحظر المحاكمة أمام محاكم خاصة أو استثنائية . |
العدالة الجنائية الدولية | يحرم القانون ارتكاب أي من أفعال الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجريمة العدوان وذلك وفقًا لأحكام الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ذات الصلة التي تكون جمهورية مصر العربية طرفًا فيها، وتتعاون جمهورية مصر العربية مع الدول الأخرى، وفق هذه الأحكام لمكافحة هذه الجرائم ومنع وقوعها وملاحقة المتهمين باقترافها. |
حرية العقيدة والدين وممارسة الشعائر | تكفل الدولة حرية العقيدة ، وممارسة الشعائر الدينية في حدود مراعاة النظام العام والآداب العامة . |
حرية الرأي | 1. حرية الرأي مكفولة ، ولك إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول والكتابة والنشر وسائر الوسائل في حدود القانون ، وتكفل الدولة حرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي بما لا يخالف النظام العام والآداب العامة . 2. حرية الصحافة والطباعة والنشر ووسائل الإعلام مكفولة ضمن حدود القانون ، وينظم القانون الرقابة على موارد الصحف ، ولا يجوز تعطيل الصحف ولا إلغاء امتيازها إلا بأمر قضائي وفق أحكام القانون . 3. يجوز في عند إعلان حالة الطوارئ أن يفرض القانون على الصحف والمطبوعات وسائر وسائل النشر والإعلام والاتصال، رقابة محدودة لأغراض الدفاع والأمن الوطني والحفاظ على السلامة العامة. |
حرمة المراسلات | حرمة المراسلات البريدية والبرقية والمحادثات الهاتفية وسائر وسائل الاتصال مصونة وسريتها مكفولة ، ولا يجوز التنصت أو الاطلاع عليها أو مراقبتها أو تسجيلها أو ضبطها إلاَّ بأمر قضائي مسبب وفق أحكام القانون . |
حق الاجتماع | للأفراد حق الاجتماع الخاص دون إخطار مسبق ، والاجتماعات العامة والتظاهرات والمواكب السلمية مباحة في حدود القانون . |
حق إنشاء الجمعيات | للمواطنين حق تكوين الجمعيات على الوجه المبين في القانون ، ويحظر إنشاء جمعيات يكون نشاطها معاديا لنظام المجتمع او سرياً او ذا طابع عسكري . |
الترشح وحق الانتخاب وحق تقلد الوظائف العامة | 1. للمواطنين حق الترشح للمناصب العامة ، والتصويت فيما يجري من الانتخابات والاستفتاءات العامة ، وفقًا للأحكام التي يُحددها القانون . 2. للمواطنين حق تولي المناصب العامة وفق الشروط التي يُحددها القانون . 3. ويكون التعيين في الوظائف العامة الدائمة والمؤقتة في الدولة على أساس المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين . |
مخاطبة السلطات العامة | للأفراد حق مخاطبة السلطات العامة في شئونهم الشخصية، أو في الشئون العامة . |
الملكية الخاصة | لا يجوز نزع الملكية الخاصة أو أي جزء منها ، إلاَّ للمنفعة العامة وفي مقابل تعويض عادل وفق أحكام القانون . ولا تفرض قروض جبرية ولا تصادر أموال منقولة أو غير منقولة إلا بمقتضى القانون ، وفي مقابل تعويض عادل حسبما يعين في القانون . |
التعليم | التعليم حق تكفله الدولة ، وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية ، وتعمل الدولة على مد الإلزام إلى مراحل أخرى ، وتشرف على التعليم كله ، وهو مجاني في مراحله المختلفة بمؤسسات الدولة التعليمية ، وتكفل استقلال الجامعات ومراكز البث العلمي . |
الأسرة والطفولة والأمومة | 1. الأسرة أساس المجتمع ، ويصون القانون كيانها الشرعي ويقوي أواصرها وقيمها . 2. تعمل الدولة على رعاية الأمومة والطفولة ، وترعى النشء والشباب وذوي الإعاقات وتحميهم من أي استغلال أو إساءة لهم وتوفر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم . |
المرأة | تولي الدولة اهتماماً خاصاً بالمرأة ، وتحرص على رعايتها وتنمية مهاراتها وإشراكها في مختلف مناحي الحياة في المجتمع ، وتعمل بشتى السبل على إزالة الممارسات التي تعد من قبيل التمييز ضد المرأة أو التي تحد من قدرتها في المساهمة الفعالة في تنمية المجتمع . |
الحق في مستوى ملائم من المعيشة | تكفل الدولة تمتع المواطنين جميعاً مستوى لائقاً من المعيشة ، أساسه تهيئة الغذاء ، والماء ، والمسكن ، والخدمات الصحية ، والثقافية ، والاجتماعية . |
المحاربون القدماء | ترعى الدولة أسر شهداء الحروب والمحاربين القدماء وتوفر لهم ولذويهم التكريم المناسب ، ولأبنائهم الأولية في فرص العمل وفقا للقانون . |
العمل + النقابات | 1. تكفل الدولة حق العمل للمواطنين، وتضع التشريعات المنظمة لحقوق العمال، من حيث تحديد ساعات العمل وأيام الراحة بأجر، وكفالة تأمينات البطالة والمرض والعجز والطوارئ الناجمة عن العمل، وتحديد الشروط الخاصة بعمل النساء والأطفال، وقواعد السلامة المهنية . 2. حق إنشاء النقابات العمالية والمهنية مكفول، وينظمه القانون، وتمارس النقابات عملها بحرية واستقلال، ويحظر تدخل الدولة في نشاطها أو التأثير عليها . 3. حق الإضراب مكفول ، على أن يمارس في حدود القانون ، ودون الإضرار بالمصالح العليا للوطن . |
الضمان الاجتماعي | تكفل الدولة للمواطنين حق الضمان الاجتماعي ، وترعاهم في حالات البطالة ، أو المرض ، أو العجز ، أو الإعاقة ، وعند بلوغ الشيخوخة . |
البحث العلمي الحياة الثقافية | تكفل الدولة للمواطنين حرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي ، وتوفر وسائل التشجيع اللازمة لتحقيق ذلك . |
اللاجئون | تمنح الدولة حق الالتجاء السياسي لكل أجنبي اضطهد بسبب الدفاع عن مصالح الشعوب أو حقوق الإنسان أو السلام أو العدالة. وتسليم اللاجئين السياسيين محظور . |
واجب الدفاع عن الوطن | الدفاع عن الوطن واستقلاله ووحدة وسلامة أراضيه وإقليمه والحفاظ على السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية وصيانة أسرار الدولة واجب وشرف مقدس يتحمله كل مواطن ، والتجنيد إلزامي وفقاً للقانون . |
واجب المشاركة في الحياة العامة | الإسهام في الحياة العامة بما في ذلك الانتخابات والاستفتاءات حقٌ وواجبٌ وطني ، يمارسه المواطنون بكافة الطرق الشرعية السلمية . |
المسئولية الاجتماعية لقطاع الأعمال | قطاع الأعمال ورأس المال الوطني مكون أساسي من مكونات المجتمع ، وتقع على عاتقه مسئولية الإسهام بموارده وطاقاته في مسيرة التنمية والتطور في مصر. |
واجب الحفاظ على البيئة | حماية سلامة البيئة واجبٌ وطني يتحمله كل مواطن لمصلحة الجيل الحالي والأجيال القادمة . |
واجب دفع الضرائب | أداء الضرائب وغيرها من التكاليف المالية العامة ، واجبٌ على من يكلفه القانون بهذا الأداء ، وتهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وتنمية المجتمع . |
مبدأ عام | في الأحوال التي يجيز فيها الدستور للمشرع تنظيم ممارسة حق من الحقوق والحريات العامة الواردة فيه، لا يجوز أن يتضمن التنظيم المساس بأصل الحق أو تعويقه أو تعطيل نفاذه أو أثره . |
المبحث السادس
نظام الحكم في مصر
يعرف فريق من الفقهاء الدساتير بأنها "مجموعة من القواعد القانونية التي يتحدد بها شكل الدولة، ونظامها السياسي، بجزئياته: المبادئ الأساسية والأهداف العليا للمجتمع، والكيان العضوي والوظيفي لمؤسسات السياسية الرسمية في الدولة، وعلاقة هذه المؤسسات ببعضها البعض وعلاقتها بالمحكومين". ويتضح من هذا التعريف أن أحد أهم خصائص الدساتير وأحد أبرز المهام التي تقوم بها هي تحديد شكل وطبيعة نظام الحكم، ووضع الملامح العامة لآليات وأساليب إدارة شئون الدولة، وهو ما تقوم به الدساتير من خلال تحديد صلاحيات السلطات العامة، وتعريف الدور الذي ستضلع به كل من هذه السلطات في الحكم، وتنظيم العلاقة بين تلك السلطات من جهة والشعب والمجتمع من جهة أخرى.
يكشف التاريخ الحديث عن أن أحد أهم الإشكاليات التي تفرزها الثورات الشعبية التي تقوم لإسقاط نظام حكم مستبد هي تحديد واختيار نظام الحكم الذي يتعين إقامته على أنقاض النظام الذي سقط. وكغيرها من الأمم والشعوب التي ثارت على حكامها، سيتعين على الأمة المصرية وهي مقبلة على إعداد الدستور الجديد للبلاد أن تتفكر في نظام الحكم الأمثل لمصر والقادر على الانتقال بها وبشعبها إلى الحياة الديمقراطية السليمة التي تحترم فيها حقوق المواطنين وحرياتهم ويسود فيها العدل والمساواة، وهو ما نتناوله في هذا المبحث.
سيبدأ حديثنا عن موضوع نظام الحكم باستعراض مختصر ومبسط للنموذجين الرئيسيين والتقليدين لنظم الحكم التي عرفتها دول العالم على مدار القرون الثلاثة الأخيرة، وخاصة منذ قيام الثورة الفرنسية والاختفاء التدريجي للملكيات المطلقة عن المشهد الأوروبي، وهما النظام البرلماني والنظام الرئاسي. ثم سنتناول النظام الثالث الذي ظهر مؤخراً، والذي يمزج بين هاذين النموذجين، ويحاول تفادي ومعالجة العيوب التي ظهرت عند تطبيقهما، وهو النظام الرئاسي/البرلماني المختلط. وسننتقل من هذا العرض النظري إلى تقديم مقترحنا بالنسبة للحالة المصرية، وما نرى أنه النموذج الأفضل والأنسب للبلاد في هذه اللحظة التاريخية الدقيقة.
أما بقية هذا المبحث، فسنخصصه لشرح ونقد نظام الحكم الذي أقامه دستور 1971، وتقديم مقترحات محددة لشكل العلاقة بين السلطات العامة على أساس رأيينا في نظام الحكم المناسب لمصر في المرحلة الحالية. وسنتطرق، في هذا الإطار، إلى الصلاحيات التي منحها الدستور للسلطات الثلاثة المكوّنة للدولة، وهي: التنفيذية والتشريعية والقضائية والعلاقة التي أقامها بينها. وسنتناول السلطة التنفيذية بمؤسستيها رئاسة الجمهورية والحكومة، وثم ننتقل لشرح اختصاصات مجلسي الشعب والشورى، وننتهي باستعراض مواد الدستور المنظمة لمرفق القضاء. وسنسعى عند تناولنا كل من هذه السلطات أن نعلق على طبيعة الصلاحيات الممنوحة لهذه السلطات الثلاثة بموجب الدستور، وسنقدم توصياتنا لكيفية مراجعة وإصلاح نظام الحكم الذي أقامه دستور 1971، وسنطرح آرائنا بشأن كيفية إصلاح شكل الدولة ومؤسساتها والعلاقة بينها التي أسسها الدستور، وذلك كإسهام متواضع منّا للنقاش والحوار المجتمعي الدائر حالياً حول الدستور المصري الجديد الذي نأمل أنه سيقيم نظاماً ديمقراطياً سليماً في البلاد وينقل مصر نحو مستقبل مشرق تصان فيه كرامة الإنسان ويقام فيه العدل بين بني شعب مصر.
الفرع الأول: استعراض لنظم الحكم المطبقة عالمياً:
تعد الخطوة الأولى لتحديد نظام الحكم الأمثل لمصر في المرحلة التاريخية الحاسمة التي تمر بها حالياً هي التعرف على أنواع وأنماط النظم القائمة عالمياً، والتي سيتعين علينا أن نختار من بينها ما يناسب مصر، ويتماشى مع تاريخها وحاضرها، ويمكّنها من تحقيق أهداف ثورتها. وكما هو معروف، تعد الأنظمة الثلاثة الرئيسية التي أخذت بها معظم الدول الديمقراطية في العالم هي: النظام البرلماني، والنظام الرئاسي، والنظام الرئاسي/البرلماني المختلط. وسنستعرض في هذا القسم أهم الخصائص التي تمتاز بها هذه الأنظمة الثلاثة، وسنبرز كذلك أهم الإيجابيات والسلبيات التي أظهرها التطبيق العملي لهذه الأنظمة في دول مختلفة في العالم. وسنحاول في هذا القسم أن نبتعد عن التناول النظري البحت لهذا الموضوع من خلال تقديم أمثلة من الواقع لتطبيقات هذه الأنظمة، وهو ما سيكشف للقارئ أن هذه الأنظمة ليست قوالب جامدة يتحتم تطبيقها بشكل محدد، وإنما هي أطر عامة تتيح هامشاً من حرية الحركة لتصميم النظام الذي يلبي الاحتياجات الفريدة لكل دولة على حدة.
أولاً: النظام البرلماني:
أ. خصائص النظام البرلماني:
تعد السمة المُميزة للنظم البرلمانية مقارنة بالنظامين الرئاسي الصرف والرئاسي/البرلماني المختلط، هي عدم الفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، حيث يجلس رئيس الوزراء (أو رئيس الحكومة كما يطلق عليه البعض) على قمة السلطة التنفيذية وبجانب كونه عضواً منتخباً في البرلمان، ويمارس مهامه التشريعية كنائب عن الدائرة التي انتخبته في الوقت الذي يكون فيه رئيساً للحكومة، والمهمين على عملها، والموجه لدفتها، والرئيس الأعلى للجهاز الإداري للدولة. وينطبق نفس الشيء على الوزراء أعضاء الحكومة، حيث يكون كل منهم نائباً في البرلمان وممثلاً لدائرته التي انتخبته، وفي نفس الوقت يكون وزيراً مسئولاً عن وزارة محددة ويسأل عن أداء هذه الوزارة أمام البرلمان. أما بالنسبة لرئيس الدولة، فمنصبه شرفي ورمزي، وتقتصر عادة الأمور التي يتولاها على مجموعة من الإجراءات المراسمية والبروتوكولية. وتعد المملكة المتحدة أبرز أمثلة النظم البرلمانية وأعرقها. أما بالنسبة للدول الأخرى التي تبنت هذا النظام، فمنها دول أوروبية كأسبانيا، وألمانيا، وبلجيكا، والسويد، وأخرى آسيوية كالهند، واليابان، ومنها الأفريقي كإثيوبيا. أما في عالمنا العربي، تعد كل من المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة المغربية هما الدولتين الأقرب إلى النظام البرلماني الصرف، وإن كانت صلاحيات وسلطات العاهلين الأردني والمغربي تتجاوز وتفوق ما يناط به عادة رئيس الدولة في أنظمة الحكم البرلمانية.
أما السمة الثانية التي تمتاز بها النظم البرلمانية فهي طريقة اختيار رئيس السلطة التنفيذية، أي رئيس الوزراء. ففي أغلب الدول التي تطبق هذا النظام، لا ينتخب رئيس الحكومة مباشرة من قبل الناخبين، وإنما يقوم الشعب بالتصويت للمرشحين لعضوية البرلمان عن دوائرهم، ويقوم رئيس الدولة بتكليف رئيس الحزب الذي فاز بالأغلبية برلمانية برئاسة الوزراء وتشكيل الحكومة، وهو ما حدث، علي سبيل المثال، في بريطانيا في أكثر من مناسبة، كعام 2001 عندما فاز توني بلير وحزب العمال بأغلبية في مجلس العموم البريطاني وتم تكليفه برئاسة الحكومة. أما في حالة عدم حصول أي حزب على أغلبية نيابية، توكل رئاسة الوزارة إلى رئيس الحزب الذي يستطيع تأليف تحالف بين الأحزاب السياسية ليحصل على أغلبية في المجلس النيابي، وهو ما تشهده دول عديدة، كالهند التي لم يحصل حزب المؤتمر الهندي الحاكم على الأغلبية النيابية اللازمة لتأليف الحكومة منفراً، واضطر للدخول في تحالف مع أحزاب صغيرة حتى يؤمن العدد اللازم من مقاعد البرلمان لتشكيل الحكومة. والأمر نفسه يحدث في إسرائيل باستمرار، حيث لم يحظ فيها أي حزب بأغلبية في الكنيست منذ إنشاء الدولة العبرية في 1948، وهو ما افرز حكومات ائتلافية منذ ذلك الوقت.
أما السمة الثالثة التي تمتاز بها النظم البرلمانية هي آلية المحاسبة السياسية للحكومة. والمقصود بهذه العبارة هو الحق الممنوح للبرلمان لمحاسبة الحكومة عن طريق إجراء يطلق عليه "الاقتراع على سحب الثقة"، وهو إجراء يقوم بموجبه البرلمان بالتصويت على ما إذا كانت الحكومة قد نجحت في تأدية مهامها. وفي حالة تصويت البرلمان ضد الحكومة فإن ذلك يؤدي إلى سقوطها والدعوة لانتخابات جديدة لانتخاب برلمان جديد وتأليف حكومة جديدة. وتعد اليابان من الدول التي شهدت عدداً كبيراً من حالات سقوط الحكومات بسبب سحب الثقة منها.
أما الخاصية الرابعة التي تتسم بها النظم البرلمانية، فهي إمكانية الدعوة لانتخابات نيابية قبل موعدها المقرر سلفاً، بما يترتب عليه ذلك من إسقاط للحكومة وانتخاب لبرلمان جديد وتأليف لحكومة جديدة. وهناك أكثر من سبب قد يدفع الأحزاب الحاكمة في النظم البرلمانية إلى الدعوة لانتخابات مبكرة، ومنها انسحاب مجموعة من أحزاب الأقلية من الائتلاف الحاكم بما يؤدي إلى فقدان الحزب الحاكم للأغلبية البرلمانية ويفرض عليه الدعوة لانتخابات مبكرة لمحاولة الفوز بالأغلبية مرة أخرى. وفي حالات أخرى، يقدم الحزب الحاكم على الدعوة لانتخابات مبكرة عندما تكون المؤشرات ترجح فوزه بها والعودة إلى سدة الحكم بعد تأمين أغلبية أوسع وأكبر مما كانت لديه. وتعد إسرائيل وإيطاليا من أكثر الدول التي شهدت اللجوء إلى انتخابات مبكرة في القرن العشرين.
ب. إيجابيات النظام البرلماني:
يأتي في مقدمة إيجابيات النظام البرلماني غياب التعارض أو التضارب بين أولويات وسياسات السلطتين التنفيذية والتشريعية، وذلك نظراً لكون الحزب (أو الائتلاف) صاحب الأغلبية في البرلمان هو في الوقت ذاته الذي يتولى رئاسة الوزارة ويسيطر على عمل السلطة التنفيذية. وبذلك تتفادى الدولة ما يحدث أحياناً في النظم الرئاسية عندما يكون رئيس الجمهورية من حزب ما والحزب المعارض له هو صاحب الأغلبية في الهيئة التشريعية. وهو ما حدث، على سبيل المثال، في الولايات المتحدة في عامي 1995 و1996 عندما احتدم الخلاف بين الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون والكونجرس المُسيطر عليه من قبل الجمهوريين حول الميزانية الفيدرالية الأمريكية فتأخر إقرار الميزانية إلى أن نفذ تمويل الحكومة الفيدرالية وتم إغلاقها وتعليق عملها لعدة أسابيع.
واتصالاً بالميزة سابقة الذكر، تشهد النظم البرلمانية – خاصة تلك التي تتمتع بقدر من الاستقرار كبريطانيا مثلاً – حالة من التناسق في عمل السلطتين والتشريعية نظراً لوجود حزب أو ائتلاف يسيطر على هاتين السلطتين في نفس الوقت. ومن هنا، تكون البرامج والخطط الحكومية متوافقة ومتناسقة تماماً مع الأولويات التشريعية، حيث يتمكن الحزب الحاكم من وضع أجندة البرلمان وتوجيه النقاش بالشكل الذي يخدم ويلبي برنامجه الانتخابي وخططه الحكومية، وهو ما لا يحدث في الأنظمة الرئاسية في حالة سيطرة حزبين مختلفين على السلطتين التشريعية والتنفيذية. ففي الولايات المتحدة، مثلاً، شاهد العالم بأسره الصعوبات الكبيرة التي واجهتها إدارة الرئيس باراك أوباما لإقرار برنامجه لإصلاح قطاع التأمين الصحي الأمريكي، والتنازلات الكثيرة التي كان على السلطة التنفيذية أن تقدمها للكونجرس حتى تؤمن موافقته على برنامجها.
أما النقطة الإيجابية الثالثة، والتي قد تكون الأكثر جاذبية للمجتمع المصري بعد ثورة 25 يناير، فتتمثل في أن الأخذ بالمنحى البرلماني في الحكم عادة ما يحول دون تحول من يشغل كرسي الرئاسة إلى حاكم مستبد، وذلك لأن سلطات وصلاحيات الحكم في النظم البرلمانية لا تتكدس ولا تتجمع في يد شخص واحد، وإنما يباشرها حزب أو ائتلاف من الأحزاب السياسية الحائزة على الأغلبية البرلمانية، وهي الأغلبية التي يمكن أن تفقد في أي لحظة إذا شعر النواب أن رئيس الحكومة يتجاوز سلطاته أو يخالف الدستور والقانون، كما أن أداء الحكومة بصفة عامة يكون تحت الرقابة اللصيقة والحثيثة للبرلمان، مثلما نرى في الاستجوابات العنيفة التي يتعرض لها الوزراء في البرلمان البريطاني.
ج. سلبيات النظام البرلماني:
كشف التاريخ وأثبت التطبيق العملي للنظام البرلماني عن بعض العيوب التي تكتنف هذا النظام، وبعض الظواهر السلبية التي يفرزها على أرض الواقع. وفي مقدمة هذه المثالب احتمال إصابة عمل السلطة التنفيذية بالشلل بسبب الخلافات التي قد تنشب بين الأحزاب المنضوية تحت لواء الائتلاف الحاكم. فكما شرحنا في عرضنا لخصائص هذا النظام، قد تفشل جميع الأحزاب السياسية في الحصول على الأغلبية النيابية التي تمكنها من الإنفراد بتشكيل الحكومة، مما يضطر الحزب الحائز على أكبر عدد من المقاعد البرلمانية إلى التحالف مع أحزاب أصغر لتأمين أغلبية نيابية ليستطيع تأليف الحكومة. ولكن هذا عادة ما يحوّل هذه الأحزاب الكبيرة التي تقود الائتلافات الحاكمة إلى أسرى للأحزاب الأصغر ولأهوائها، وذلك لأنها تستطيع التهديد بالانسحاب من الائتلاف وإسقاط الحكومة إذا لم ينفذ الحزب الأكبر طلباتها. وتعد إسرائيل من أكثر الدول التي تشهد هذه الظاهرة. فمثلاً، يتمتع شاس، وهو حزب ديني متطرف، بنفوذ وقوة على المسرح السياسي الإسرائيلي يتجاوز بكثير حدود شعبيته وكتلته التصويتية في الكنيست، وذلك بسبب كونه من الأحزاب التي تستطيع منح رئيس أحزاب الليكود وكاديما والعمل، وهي الأحزاب الأكبر والأكثر شعبية في إسرائيل، الأغلبية في البرلمان التي تمكنها من تأليف الحكومة. وبالتالي، تتسارع وتتصارع هذه الأحزاب الكبيرة والعرقية على استرضاء حزب شاس الأصغر والأقل شعبية حتى يقبل التحالف معهم ليمنحهم الأغلبية اللازمة لتولي رئاسة الوزراء. ويكون المقابل عادة أن يوافق الحزب الأكبر على مجموعة من الطلبات والشروط التي يمليها الحزب الأصغر عليه. وتظل الحكومة طوال عمرها مرهونة باستمرار تطبيق واحترام هذا الاتفاق القائم بين هذه الأحزاب وعلى عدم انسحابها من الحكومة.
أما السمة السلبية الثانية التي تعاني منها الأنظمة البرلمانية، وهي متصلة أيضاً بالظاهرة التي سبق تناولها، فهي عدم ثبات مواعيد الانتخابات النيابية. فرغم أن مواعيد الانتخابات تكون مرتبطة بالدورة البرلمانية، إلى أن عدم استقرار الحكم والانسحابات المتكررة للأحزاب من الائتلافات الحاكمة تؤدي عادة إلى الدعوة لانتخابات مبكرة. فعلى سبيل المثال، سيدهش القارئ عندما يعلم أن من بين 18 انتخابات برلمانية شهدتها إسرائيل منذ نشأتها في 1948، لم تجرى سوى انتخابات 1981 في موعدها. نفس الأمر شهدته مصر في العهد الملكي، حيث لم يكمل أي من مجالس النواب التي انتخبت في مصر مدتها الدستورية، سوى المجلس المنتخب في عام 1945. كما عانت ألمانيا في العقدين التاليين على الحرب العالمية الأولى من نفس الظاهرة، حيث شكلت في السنوات ما بين 1919 و1929 خمس عشرة حكومة كان أطولها عمراً 18 شهراً وأقصرها 3 أشهر. وقد أدت هذه الفوضى السياسية – ضمن أمور أخرى – إلى ضعف أداء وتخبط الحكومات الألمانية وإلى فقدان الشعب الألماني ثقته في السياسية وفي السياسيين وفي الديمقراطية برمتها، مما ساعد بشكل كبير في تمكين أدولف هتلر وحزبه النازي من الفوز بالانتخابات النيابية في 1933.
نتيجة لما تقدم، تعاني العديد من نظم الحكم البرلمانية من عدم الاستقرار في الحكم، خاصة إذا اتسم مسرحها السياسي بكثرة الأحزاب والتيارات. ففي الدول التي تتعدد فيها الأحزاب السياسية التي تكون أغلبها صغيرة الحجم ومحدودة التأثير يؤدي ذلك عادة إلى تشرذم السلطة التشريعية، والحد من كفاءتها وفاعليتها، بسبب عدم وجود حزب أو كتلة سياسية كبيرة ومؤثرة تستطيع قيادة العمل في البرلمان. وفي المقابل، يلاحظ أن الدول البرلمانية التي يهيمن فيها حزبين أو ثلاثة على المشهد السياسي – كبريطانيا أو ألمانيا – تتمتع بقدر أكبر من الاستقرار السياسي. وتعد إيطاليا هي النموذج الأبرز لظاهرة عدم استقرار الحكم في الدول التي اتبعت النظام البرلماني، حيث تشير الإحصائيات إلى أن متوسط عمر الحكومات الإيطالية خلال الفترة من 1945 إلى 1996 لم يتجاوز 1،28 سنة. كما عانت مصر عندما تبنت نظام الحكم البرلماني في السنوات السابقة على ثورة 23 يوليو 1952 من الظاهرة ذاتها، فسيذكر القارئ أننا نوهنا في الفصل الثالث من هذا الكتاب، والذي تناولنا فيه التاريخ الدستوري والسياسي لمصر، إلى أن تلك الفترة شهدت غياباً لاستقرار الحكم في البلاد، حيث لم يتعد متوسط عُمر الحكومات المصرية 8 أشهر، وهو ما ساهم بقدر ليس بالقليل في تهيئة المناخ لقيام حركة الجيش وإسقاط النظام الملكي في مصر. وبطبيعة الحال، تختلف الأسباب التي أفرزت هذه الظاهرة من دولة إلى أخرى، إلا أن نتائجها وأثرها على تلك الدول متشابه، وهي الصعوبة التي تواجهها الدولة وسلطتها التنفيذية في مباشرة أعمالها وتنفيذ البرامج والمشروعات الحكومية الإنمائية والتي يتطلب نجاحها قدراً من الاستقرار في الحكم والثبات والاستمرارية لمن هم في قيادة البلاد.
رابع المساوئ التي أظهرها تطبيق النظام البرلماني والتي نود التنويه إليها هنا يرتبط بطريقة اختيار رئيس السلطة التنفيذية في تلك الأنظمة، وهو رئيس الوزراء. فقد لاحظ الكثير من الفقهاء وخبراء النظم السياسية أن عملية اختيار رئيس السلطة التنفيذية في النظم البرلمانية تعد أقل ديمقراطية وأقل شفافية مقارنة بالنظم الرئاسية. ففي معظم النظم البرلمانية يختار الناخب ممثل دائرته في البرلمان، وهو ما يتم إما بالتصويت لصالح مرشح محدد أو لصالح قائمة حزبية، أي أن المواطنين في هذه الأنظمة لا يختارون رئيس وزرائهم مباشرة، وإنما يتولى رئاسة الوزارة رئيس الحزب الحائز على الأغلبية من مقاعد البرلمان. أما في النظم الرئاسية، والتي تكون السلطتين التشريعية والتنفيذية مفصولتين تماماً، يقوم الناخب باختيار رئيس السلطة التنفيذية مباشرة خلال الانتخابات الرئاسية. ومن هنا، يرى الخبراء، أنه مقارنة بالنظم الرئاسية، فإن الرأي العام ورغبات الجماهير تكون أقل تأثيراً في عملية اختيار رئيس الوزراء في الأنظمة البرلمانية، والتي تتأثر بعوامل عديدة، كالمساومات والصفقات السياسية التي تبرم داخل الأحزاب والتي تحكم عملية اختيار رؤساء الأحزاب. ورغم أن الصفقات الحزبية موجودة في النظم الرئاسية أيضاً، إلا أنها دون شك أقل تأثيراً على اختيار الشخص الذي سيتولى رئاسة البلاد.
وسيتضح الأمر أكثر إذا قارنا بين ما يحدث في الولايات المتحدة بما يحدث في بريطانيا، ففي الأخيرة يتم اختيار رؤساء الأحزاب – وبالتالي رؤساء الوزراء – في انتخابات حزبية داخلية دون طرح هذه الاختيار على المواطنين أو أخذ رأييهم فيه. وهو ما أدى، مثلاً، إلى اختيار توني بلير رئيساً لحزب العمال في 1994 ومن ثم رئيساً لوزراء بريطانيا في 1997 بدلاً من غريمة التقليدي جوردن براون، حيث كان الرجلان قد اتفقا على أن يؤيد جوردون براون تولي توني بلير رئاسة الحكومة في مقابل هيمنته على الشئون المالية في الحكومة، وهو الاتفاق الذي حُكمت بريطانيا بموجبه لعشر سنوات. أما في الولايات المتحدة، تلعب الموازنات داخل أروقة الحزبين الجمهوري والديمقراطي دوراً أقل بكثير في عملية اختيار مرشحي الحزبين للرئاسة. فالطريق إلى البيت الأبيض يبدأ بانتخابات تمهيدية داخل الأحزاب تجرى في جميع الولايات الأمريكية، والتي يتسنى خلالها للناخبين التعرف عن قرب على كل المرشحين للرئاسة، ثم يتنافس الفائزان في هذه الانتخابات التمهيدية التي أجريت في الحزبين الجمهوري والديمقراطي في انتخابات رئاسية شديدة الوطيس يكون القرار النهائي في حسمها للناخب الأمريكي وحده.
أما العيب الأخير الذي نود الإشارة إليه في هذا السياق فيرتبط بظاهرة تسييس الأجهزة الحكومية وأجهزة الخدمة المدنية التابعة للدولة في بعض النظم البرلمانية. ففي معظم دول العالم، وخاصة الدول الديمقراطية، يقام فصل تام بين النظام الحكام والحزب الذي يتولى السلطة من جانب والجهاز الإداري للدولة من جانب آخر، فهذا الأخير هو جهاز ملك للدولة وخادم للشعب، وليس أداة في يد الحزب الحاكم أو النخبة الحاكمة يوظفوها كما يشاءون لخدمة مصالحهم وتحقيق مآربهم. وقد لاحظ مراقبون أن الأنظمة البرلمانية تؤدي في بعض الأحيان إلى تسييس الجهاز الإداري للدولة، حيث تسعى الأحزاب الحاكمة – والتي عادة ما تهددها ظاهرة عدم استقرار الحكم التي تناولنها فيما سبق – إلى محاباة الموظفين الإداريين في الدولة ممن تعرف أنهم يتفقون مع سياسات وبرامج هذه الأحزاب. كما قد تقوم الأحزاب السياسية التي تتوافد على السلطة إلى إزاحة كبار موظفي الدولة المدنيين الذين تعاونوا مع الأحزاب التي سبقتها في الحكومة، وذلك لتأتي بمن يدينون بالولاء لها. وقد حدث ذلك، علي سبيل المثال، في السنوات الأولى لحكم رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت ثاتشر، والتي كان يراودها الشك في مدى تقبل البيروقراطية البريطانية لبرامجها الإصلاحية وسياساتها الاقتصادية الليبرالية والتي كانت تقضي بتخفيض حجم القطاع العام والأجهزة الإدارية للدولة، وهو ما دفعها إلى إزاحة الكثير من قيادات الأجهزة الحكومية لضمان ولاء هذه الهيئات لها ولسياساتها. أما في النظام الرئاسي، يتمتع الجهاز الإداري بقدر أكبر من الحصانة ضد تدخلات واملاءات الحزب الحاكم، وذلك لكون توقيتات وتواريخ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية محددة سلفاً وثابتة، بما يؤمن استقرار الحياة السياسية ويجنبها شرور محاولات الأحزاب والتيارات السياسية أن تفرض سيطرتها على أجهزة الخدمة المدنية الحكومية.
كانت هذه الإيجابيات والسلبيات التي كشفت عنها الممارسة السياسية في الدول التي تبنت النظام البرلماني. وقد فطنت الدول التي أخذت بهذا النظام إلى هذه العيوب والمثالب، ولم تقف مكتوفة الأيدي حيالها، وإنما سعت لمعالجتها والتغلب عليها. فعلى سبيل المثال، قامت ألمانيا بإدخال بعض التعديلات على نظامها البرلماني والقواعد المنظمة للانتخابات النيابية لضمان قدر أكبر من الاستقرار السياسي في البلاد، وللحول دون وصول أحزاب وقوى وتيارات سياسية متطرفة – كالحزب النازي – إلى سدة الحكم. وتعد أبرز الإجراءات التي اتخذتها ألمانيا في هذا الصدد هو تعديل آليات سحب الثقة من الحكومة لجعلها أكثر صعوبة، بما يضمن للحزب الحاكم قدراً أكبر من الحصانة ضد أحزاب المعارضة التي قد تسيء استخدام سلاح سحب الثقة للإطاحة بالحكومة. وبالتحديد، اشترطت المادة 67 من الدستور الألماني الفدرالي ألا يتم التصويت على إسقاط الحكومة دون تحديد الشخص المرشح لتولي رئاسة الوزراء في حالة سحب الثقة من الحكومة، وهو الشرط الذي يساهم في ضمان جدية طلب سحب الثقة ويمنع الأحزاب الصغيرة من اللجوء إلى هذا الإجراء بشكل مفرط.
أما إيطاليا، والتي شهدت هي الأخرى فترات طويلة من عدم الاستقرار في الحكم والتخبط والفساد السياسيين والتي جسدتها الفضيحة الشهيرة التي تفجرت في مطلع التسعينات من القرن العشرين والمعروفة بالإيطالية باسم "Tangentopoli"، فقد أدخلت تعديلات جذرية على النظام الانتخابي في عام 1993 جعلت المؤرخين يصفون هذه الإجراءات بمثابة التحول من الجهورية الأولى إلى الجمهورية الثانية في إيطاليا. وكان الهدف من هذه التعديلات هو الانتقال من نظام التمثيل النسبي في البرلمان، الذي أدى إلى ضعف الحكومات بسبب انتشار الأحزاب الصغيرة وتفتيت أصوات بينها، إلى نظام مركب يقوم على فوز الحزب الذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات بمقعد الدائرة في البرلمان، حتى ولو لم يفز هذا الحزب بالأغلبية الأصوات. بالرغم من هذه الإصلاحات، لم تهنأ إيطاليا بالاستقرار السياسي المنشود، بل على العكس، سقطت حكومة سيلفيو بيرلسكوني الأولى التي تشكلت عقب هذه التعديلات بعد 8 أشهر فقط في الحكم، وهو ما حدا بالإيطاليين إلى تبني نظام انتخابي جديد أكثر تعقيداً في ديسمبر 2005. وتعد أهم سمات هذا النظام الجديد أن الحزب الذي يحصل على أعلى عدد من الأصوات في الانتخابات – حتى ولو لم يحصل على الأغلبية – يمنح تلقائياً 55% من مقاعد البرلمان حتى يتمتع بأغلبية مريحة في البرلمان تمكنه من قيادة الحكومة ورئاسة الوزارة.
كما قامت العديد من الدول باللجوء إلى آلية تسمى "النصاب التصويتي" للحد من ظاهرة تشرذم برلماناتها بسبب كثرة الأحزاب وصغر حجمها، بما يؤدي إلى شل السلطة التشريعية والحد من كفاءتها. ويقصد بالنصاب التصويتي نسبة معينة من الأصوات يتعين على أي حزب أن يفز بها في الانتخابات حتى يحصل على مقاعد في البرلمان. أما الأحزاب التي لا تحصد العدد الكافي من الأصوات، فإنها لا تحظى بعضوية السلطة التشريعية. وقد تعددت النسب التي تبنتها الدول المختلفة بحسب خبراتها في الانتخابات وعدد الأحزاب المتواجدة على المسرح السياسي. فعلى سبيل المثال، تشترط تركيا فوز أي حزب بـ 10% من أصوات الناخبين ليدخل البرلمان، فيما يتطلب الانضمام إلى البرلمان في بولندا وألمانيا الحصول على 5% من الأصوات. أما في السويد، فقد اشترط القانون الفوز بـ 4% من الأصوات، ولكنه سمح لأي حزب يحصل على 12% من الأصوات في دائرة معينة بدخول البرلمان حتى ولو لم يحصل على النصاب المطلوب على المستوى الوطني.
عملت إسرائيل هي الأخرى على معالجة بعض المثالب التي أفرزها تطبيق النظام البرلماني في الدولة العبرية. وبالتحديد، تركزت الإجراءات الإصلاحية في إسرائيل على محاولة تفادي ما سبق وتناولناه حول ارتباط ترشيح رئيس الوزراء بالصفقات والمساومات التي تجري داخل الأحزاب، وما يسببه ذلك من إهدار للشفافية في عملية الاختيار، وتهميش لرأي الناخبين في تحديد رئيس السلطة التنفيذية الذي سيشرف على إدارة شئون البلاد. وبالفعل، أصبحت إسرائيل في 1996 أول دولة تتبنى النظام البرلماني يتم فيها اختيار رئيس الوزراء بالاقتراع المباشر من قبل الناخبين. وبالتالي، أصبح هناك عمليتان انتخابيتان تجريان بالتوازي، الأولى لانتخاب رئيس الوزراء، والثانية لاختيار أعضاء الكنيست الإسرائيلي. واستمر العمل بهذا النظام إلى أن ألغي في عام 2001، ولذلك لإخفاقه في تحقيق الأهداف المرجوة منه، وفي مقدمتها منح رئيس الحكومة شرعية أكبر تؤمنه ضد الانتخابات المبكرة، والدعوات لسحب الثقة من الحكومة التي تستخدمها أحزاب المعارضة للضغط عليها، حيث ظل رئيس الوزراء – رغم انتخابه مباشرة من قبل الشعب – أسيراً لتقلبات السياسية وللأزمات التي عصفت بالائتلافات التي حكمت إسرائيل في سنوات تطبيق هذا النظام.
ثانياً: النظام الرئاسي:
أ. خصائص النظام الرئاسي:
تعد الفكرة الرئيسية التي يتأسس عليها النظام الرئاسي هي: الفصل بين السلطات والتوازن فيما بينها. والمقصود بعبارة "الفصل بين السلطات" هو إقامة الفواصل بين مهام وصلاحيات السلطات العامة الثلاثة المكونة للدولة، وهي: السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية، وحماية كل منهما ضد تدخل الآخر، ومنح كل منهما الحق في الرقابة على والتأثير في عمل الآخر. والهدف من هذه الإجراءات هو إقامة التوازن بين هذه السلطات، يحث تقوم كل منهما بكبح جماح الآخر ومراقبة أدائه. وهذا يختلف بطبيعة الحال عن الأنظمة البرلمانية التي تقوم على عدم الفصل بشكل تام بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، فرئيس الوزراء وأعضاء حكومته يكونون جميعاً أعضاء في البرلمان، ويكون لهذا الأخير الحق في إسقاط الحكومة، التي تتمتع هي الأخرى بحق حل البرلمان. وتطبيقاً لهذه النظرية، فإنه بعكس النظام البرلماني، يكون رئيس السلطة التنفيذية في النظم الرئاسية منتخباً مباشرة من الشعب، كما يُحظر على الوزراء وجميع العاملين في السلطة التنفيذية أن يتمتعوا بعضوية السلطة التشريعية. وفي المقابل، يحظر على أعضاء البرلمان أن يشغلوا أي منصب تنفيذي أثناء عضويتهم في السلطة التشريعية.
هذا، وتتحد في رئيس الجمهورية صفتي رئيس الدولة ورئيس السلطة التنفيذية، وذلك بعكس النظم البرلمانية التي تقتصر مهام رئيس الدولة فيها على بعض الأدوار البروتوكولية والشرفية، دون أن تكون له سلطات حقيقية في الحكم وفي إدارة شئون الدولة. وبذلك، تنتفي في النظم الرئاسية الحاجة لوجود رئيس للوزراء لأن المهام التي يقوم بها شاغل هذا المنصب في النظم البرلمانية يتولاها رئيس الدولة بنفسه. ولا يقتصر الأمر على الاستغناء عن منصب رئيس الوزراء، وإنما يمتد إلى الاستغناء عن مؤسسة "رئاسة الوزراء" برمتها، فلا وجود في دساتير أغلب الدول التي أخذت بالنظام الرئاسي لمؤسسة أو جهة أسمها رئاسة الوزراء، وذلك لأن رئيس الجمهورية هو الذي يسير دفة العمل في السلطة التنفيذية وبنفسه دون الحاجة لرئيس للوزراء يشاركه في مهامه وسلطاته. أما بالنسبة للوزراء، فيتمتع رئيس الجمهورية بحرية شبه مطلقة في اختيارهم وتعيينهم، حيث يعتبروا معاونين له في تنفيذ السياسيات العامة التي يضعها بالتنسيق معهم.
في مواجهة هذه السلطات الواسعة التي يتمتع بها رئيس الجمهورية بوصفه رئيساً للسلطة التنفيذية، توكل دساتير الدول الآخذة بالنظام الرئاسي صلاحيات كبيرة للسلطة التشريعية لتوازن وتقابل سلطات الرئيس والسلطة التنفيذية. وتعد أهم هذه الصلاحيات هي سيطرة السلطة التشريعية على الموارد المالية للدولة، بحيث لا يمكن صرف أي مبلغ من ميزانية الدولة إلا بموافقة البرلمان. وبالتالي، يُرغم رئيس الجمهورية على التعاون مع البرلمان، والتوصل لتوافق معه حول البرامج والسياسات التي يرغب في تنفيذها، وذلك لضمان الحصول من السلطة التشريعية على الموارد المالية اللازمة لتنفيذ تلك البرامج. كما أن أغلب السياسات التي انتخب الشعب رئيس الجمهورية من أجل تنفيذها تتطلب إقرار قوانين، وهو ما يعني أنه لا مفر أمام السلطة التنفيذية من أن تتعاون مع البرلمان وأن تصل معه إلى تفاهمات سياسية لتأمين موافقته على سياسات الرئيس وإدارته.
إضافة لما تقدم، لا يكون للبرلمان في النظم الرئاسية الحق في سحب الثقة من رئيس الجمهورية أو وزرائه، فبعكس النظم البرلمانية، لا توجد حكومة أصلاً حتى يصوت البرلمان على سحب الثقة منها. والأهم من ذلك الاعتبار الشكلي، يعد عدم منح البرلمان في النظم الرئاسية حق سحب الثقة من السلطة التنفيذية تطبيقاً لمبدأ الفصل بين السلطات والتوازن فيما بينها، فإذا كان من حق السلطة التشريعية عن تسقط نظيرتها التنفيذية، فإن هذا سيعني فعلياً فرض الأولى لسطوتها وهيمنتها على الثانية. وفي المقابل، وتطبيقاً لنفس المبدأ، لا يحق للسلطة التنفيذية حل البرلمان في النظم الرئاسية، وذلك لمنع رئيس الجمهورية من استخدام هذا الحق كسيف مسلط في وجه السلطة التشريعية بما يجعلها مستأنسة وخاضعة لأهواء الرئيس.
أما بالنسبة لمواعيد الانتخابات، فهي ثابتة لا تتغير في النظم الرئاسية، ولا يحق لأي من أطراف المعادلة السياسية الدعوة لانتخابات مبكرة كما يحدث في الأنظمة البرلمانية. فعلى سبيل المثال، يضع الدستور الأمريكي نظاماً محدداً وثابتاً يحكم مواعيد وتوقيتات الانتخابات البرلمانية والرئاسية، حيث تجرى انتخابات مجلس النواب الأمريكي كل سنتين، وانتخابات الرئاسة كل 4 سنوات، وانتخابات مجلس الشيوخ كل 6 سنوات.
وبتطبيق الخصائص سابقة الذكر على دول العالم، يتضح أن الولايات المتحدة الأمريكية هي المثال الأبرز على النظم الرئاسية الخالصة. أما الدول الأخرى التي أخذت بهذا النظم فتضم أغلب دول أمريكا اللاتينية، كالمكسيك، والبرازيل، والأرجنتين، وشيلي. أما من أفريقيا، فتعد نيجيريا، وغانا من أهم الجمهوريات الرئاسية. وفي آسيا، اتبعت دول مثل كوريا الجنوبية، واندونيسيا النظام الرئاسي. أما بالنسبة لعالمنا العربي، فيلاحظ أن الدولة الوحيدة التي أخذت بالنظام الرئاسي الصرف هي جمهورية السودان، حيث أنها الجمهورية العربية الوحيدة التي ألغي فيها منصب رئيس الوزراء، وتجمعت كافة صلاحيات إدارة السلطة التنفيذية في يد رئيس الجمهورية. أما بقية الجمهوريات العربية، كمصر، وتونس، والجزائر، واليمن، وسوريا، فلديها رؤساء للوزراء يتقاسمون – بدرجات متفاوتة – مع رئيس الجمهورية مهمة إدارة السلطة التنفيذية.
ب. إيجابيات النظام الرئاسي:
يأتي الاستقرار السياسي في مقدمة مميزات النظم الرئاسية، خاصة إذا ما قورنت بالنظم البرلمانية، وهو ما يرجع لعوامل متعددة، في مقدمتها ثبات مواعيد الانتخابات، وعدم إمكانية سحب الثقة من السلطة التنفيذية أو الدعوة لانتخابات مبكرة لأي من السلطتين التنفيذية أو التشريعية، وعدم اعتماد رئيس الجمهورية أو وزرائه على ائتلاف حزبي لوجودهم في السلطة، وهي كلها أمور تجعل النظم البرلمانية أقل استقراراً وأكثر عرضة للتأثر بتقلبات الحياة السياسية في البلاد. وبالتالي، تستطيع السلطات التنفيذية في الدول الآخذة بالنظام الرئاسي أن تنفذ برامجها السياسية والاقتصادية وهي مطمئنة إلى استحالة إزاحتها من الحكم إلا في الانتخابات المقبلة، وهو ما يجنب الحكومة أن تقع أسيرة للتوازنات السياسية في البرلمان أو في الائتلاف الحزبي الحاكم.
وتعد هذه الميزة من أهم ما يوفره النظام الرئاسي، فاستقرار الحكم من الركائز التي تهيئ المناخ للحكومات للقيام بمهامها بفعالية، وبتلبية رغبات الناخبين والتجاوب مع متطلباتهم، وتنفيذ البرامج والسياسات التي تتطلب وقتاً طويلاً وعملاً ممتداً لتؤتي ثمارها، وهو ما تفتقده العديد من النظم البرلمانية لكنوها معرضة لحدوث أزمات سياسية متكررة، خاصة إذا كانت تحكمها الائتلافات الحزبية. ويؤدي استقرار الحكم كذلك إلى إشاعة الثقة في النظام الديمقراطي وفي العمل السياسي بصفة عامة، ويشجع المواطنين على الانخراط في النشاط السياسي لكونه الوسيلة الأكثر فاعلية في ترجمة تطلعاتهم إلى برامج حكومية. أما في الدول التي تشهد أزمات سياسية متكررة، فقد يفقد المواطنون ثقتهم في النخبة الحاكمة وفي الأحزاب الناشطة على المسرح السياسي، بل قد يصل الأمر إلى حد فقدان الثقة في الديمقراطية برمتها، وهو ما حدث بالفعل في ألمانيا في عام 1933 ومكّن أدولف هتلر من اعتلاء رئاسة الوزراء في ألمانيا مستغلاً في ذلك الفوضى السياسية التي عاشتها البلاد بعد الحرب العالمية الأولى وأدت إلى الإضرار بالمواطن العادي وأثرت في حياته ومستوى معيشته.
من المميزات الأخرى التي كشف عنها تطبيق النظام الرئاسي هي صعوبة أن يسيطر حزب واحد أو تيار سياسي وحيد على جميع المؤسسات السياسية في الدولة في آن واحد، وذلك لوجود فصل بين هذه السلطات. ففي الوقت الذي يستأثر الحزب الفائز في الانتخابات النيابية على كل من البرلمان والحكومة في النظام البرلماني، يتعين على الأحزاب في النظم الرئاسية أن تخوض معركتين انتخابيتين منفصلتين – أو حتى ثلاثة معارك انتخابية إذا كان البرلمان مكون من مجلسين – للفوز بكرسي الرئاسة ولنيل الأغلبية البرلمانية، وهو ما أثبتت التجربة صعوبة حدوثه. وحتى لو نجح حزب في ذلك فإنه لا ينعم بهذه الهيمنة على المسرح السياسي طويلاً. وتعد تجربة الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة مثال حي على ذلك، فقد فاز الحزب بأغلبية كبيرة في مجلس النواب الأمريكي في 2006 في عهد الرئيس السابق جورج بوش المنتمي للحزب الجمهوري، ثم فاز الديمقراطيون كذلك برئاسة الجمهورية عندما أعتلى الرئيس الحالي باراك أوباما سدة الحكم في يناير 2009، وبذلك سيطر الحزب الديمقراطي على كل من السلطة التنفيذية والتشريعية. ولكن لم يتسمر هذا الوضع طويلاً، فقد خسر الحزب أغلبيته في مجلس النواب في انتخابات الكونجرس التي أجريت في نوفمبر 2010، والتي أعادت الأغلبية إلى الحزب الجمهوري.
ومن هنا، يخلص بعض خبراء العلوم السياسية إلى أن النظام الرئاسي يكون أكثر تعبيراً – من الناحية النظرية – عن الرأي العام في البلاد، وذلك لتعدد العمليات الانتخابية التي تجرى في مواعيد محددة سلفاً، وبسبب الفصل في السلطات الذي يجعل السيطرة الكاملة على مقاليد الحكم من قبل تيار أو حزب معين أكثر صعوبة. ويسهم ذلك كله في جعل جميع القوى السياسية تخوض منافسة ضارية لإرضاء الناخبين، ولاجتذابهم إليها، ولإقناعهم ببرامجهم السياسية. وفي نفس الإطار، تجعل خصائص النظم الرئاسية الأحزاب حريصة على إرضاء الرأي العام، وتجنب الدخول في مواجهات تؤدي إلى شل الحياة السياسية والحد من فاعلية الحكومة بما يؤثر على حياة المواطنين، وهو ما يحدث في الكثير من الدول التي تتبنى النظم البرلمانية، حيث تستطيع الأحزاب – خاصة الصغيرة – أن تختطف العملية السياسية برمتها، وأن تُحدث الأزمات المتكررة في الحكم حتى تقتنص التنازلات من الأحزاب الحاكمة، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى التأثير على كفاءة وفاعلية الحكومات ويقلص من شعبيتها لدى المواطنين.
أما بالنسبة للأمور المتصلة بإدارة السلطة التنفيذية، فقد تلاحظ أن الحكومات في الأنظمة الرئاسية تكون أكثر نجاحاً في تنفيذ سياساتها وبرامجها، وذلك لكون جميع الوزراء من نفس الحزب أو منتمين إلى نفس التيار السياسي أو على الأقل متوافقين تماماً مع توجهاته. وهذا يجنب الدولة وسلطتها التنفيذية تلك الخلافات التي تنشب في الائتلافات الحاكمة في الدول التي تتبع النظام البرلماني وتؤدي في الكثير من الأحيان إلى شل حركة الحكومات، بل وإسقاطها إذا انسحبت بعض الأحزاب من الائتلاف. كما أن التناسق العام بين أعضاء الحكومة ووزرائها يرفع من كفاءتها ويمكنها من تنفيذ البرامج التي انتخبها الشعب من أجل تحقيقها.
ج. سلبيات النظام الرئاسي:
لا يخلو نظام سياسي من عيوب ومثالب، وهو ما أثبتته التطبيقات العملية للنظام الرئاسي في العديد من دول العالم. وتعد أبرز السلبيات التي أفرزها تبني النظام الرئاسي الصرف في بعض الدول هي إمكانية تحول رئيس الجمهورية إلى حاكم مستبد بسبب تركز الكثير من السلطات في يده وسيطرته شبه المطلقة على عمل وأداء السلطة التنفيذية بكل ما لها من قوة وأدوات للبطش بالعارضين وترسيخ حكم الفرد. ويشير الكثير من الخبراء إلى أن انتخاب رئيس السلطة التنفيذية مباشرة من قبل الشعب يتيح للحاكم الذي يسعى للانفراد بالحكم، وأن يدعي بأنه حصل على تفويض من الشعب وأنه يتمتع بتأييد الجماهير، بما يمكنه من تجاهل البرلمان، والافتئات على صلاحياته، بل وحتى الانقلاب على الدستور، بما يؤدي في نهاية المطاف إلى خلق ديكتاتور لا يخضع للرقابة أو المحاسبة.
وتعد التجربة المريرة التي مرت بها الكثير من دول أمريكا اللاتينية التي أخذت بالنظم الرئاسي مؤشراً على ذلك، فقد اتخذ العديد من زعماء تلك الدول، مثل خوان بيرون في الأرجنتين، من انتخابهم مباشرة من قبل الشعب تكأة للاستيلاء على السلطة، وللبطش بمعارضيهم، ولارتكاب انتهاكات بشعة ضد حقوق الإنسان. وتشير بعض الدراسات إلى قابلية الأنظمة الرئاسية للوقوع في براثن الديكتاتورية لأنها تركز الكثير من السلطات في يد شخص واحد، بما يمكنه بعد أن يصل إلى سدة الحكم – خاصة إذا كان مدعوماً من قبل المؤسسة العسكرية – أن يقصي معارضيه عن المشهد السياسي، وأن يهمش المؤسسات الدستورية الأخرى، ويضعفها بشكل يجعله يحتكر المسرح السياسي ويهيمن عليه. وتأكيداً لذلك، تشير إحدى هذه الدراسات المنشورة في مطلع التسعينيات (أي قبل نجاح موجة الديمقراطية في أوروبا الشرقية) إلى أنه من أصل 76 دولة ديمقراطية قائمة منذ الحرب العالمية الثانية، كانت هناك 33 دولة رئاسية، وأن 30 منها شهدت اضطرابات سياسية شديدة أو تحولت إلى أنظمة ديكتاتورية، أي أن نسبة الفشل في تطبيق هذا النظام وصلت في فترات طويلة من القرن العشرين إلى 90% من الحالات.
تزداد فرص فشل أنظمة الحكم الرئاسية وتحولها إلى الحكم السلطوي المستبد إذا توافر أكثر من عامل، في مقدمتها إذا كان الدستور يضعف من البرلمان ويجعله فريسة سهلة لمؤسسة الرئاسة. كما كشفت التجارب التي مرت بها العديد من دول العالم، وخاصة في أمريكا اللاتينية، عن أن كثرة الأحزاب السياسية وتعددها يوفر البيئة المواتية لتغول السلطة التنفيذية على البرلمان، حيث أن الأحزاب الصغيرة التي لا تمتلك سوى عدد محدود من المقاعد في المجلس النيابي لا تستطيع الوقوف أمام السلطة التنفيذية بكل ما لها من أدوات يمكن أن توظفها لقمع كل تيار أو حزب يتصدى لها. ومن هنا، يشير الكثير من الفقهاء إلى خطورة الأخذ بنظام التمثيل النسبي في الانتخابات التشريعية في ظل النظام الرئاسي، لأن ذلك يؤدي إلى تفتيت البرلمان وتوزيع مقاعده على عدد كبير من الأحزاب الصغيرة، وهو ما يصب في مصلحة السلطة التنفيذية ويقوي شوكتها.
أما الإشكالية الأخرى التي عانت منها بعض الدول التي اختارت أن تتبنى نظام الحكم الرئاسي فتتمثل في أن أغلب الأنظمة الانتخابية التي طبقت في هذه الدول تؤدي ضمنياً إلى تهميش قطاع عريض من الشعب. وينبع ذلك من حقيقة أن رئيس الجمهورية عادة ما يتم انتخابه بالاقتراع العام المباشر، حيث يفوز بمقعد الرئاسة المرشح صاحب أعلى عدد من الأصوات، حتى وإن لم يحصل على أغلبية مطلقة من الأصوات. وهو ما يعني أن أصوات قطاع عريض من الناخبين التي ذهبت لمرشحين آخرين سوف تهدر ولن تنعكس على المشهد السياسي كما يحدث في النظام البرلماني الذي يتيح تشكيل حكومات ائتلافية تعبر عن ميزان القوى الحقيقي في الشارع السياسي وتعبر بشكل أكثر دقة عن رغبات وآراء المواطنين.
كشف تطبيق النظام الرئاسي كذلك عن إمكانية حدوث مأزق في الحكم بسبب وقوع خلاف بين مؤسستي الرئاسة والبرلمان. ففي الأوقات التي يحتكر فيها حزب أو تيار سياسي واحد السلطتين التنفيذية والتشريعية يتمكن هذا الحزب من تنفيذ أجندته السياسية بالكامل. أما في حالة شغل حزب ما لمنصب رئيس الجمهورية وتمتع حزب آخر بالأغلبية النيابية، وهو السيناريو الأرجح والأكثر انتشاراً في الأنظمة الرئاسية، فهذا قد يؤدي إلى وقوع أزمات بين الرئاسة من ناحية والسلطة التشريعية من ناحية أخرى. فالسلطة التشريعية تمتلك حق التصرف في الموارد المالية للدولة، بما يعني أن رئاسة الجمهورية والسلطة التنفيذية لن تتمكنا من تنفيذ سياساتهما دون موافقة ومباركة البرلمان الذي يسيطر عليه حزب معارض للحزب المسيطر على السلطة التنفيذية. وقد وقعت الدولة الأمريكية في هذا المأزق في أكثر من مناسبة سبق وأشرنا إليها، ومنها عندما رفض الكونجرس الموافقة على مشروع الميزانية الفيدرالية المقدمة من الحكومة، مما أدى إلى تعليق عمل الحكومة الفيدرالية الأمريكية إلى حين إقرار الميزانية. ويتكرر نفس الشيء صعيد العلاقات الخارجية للولايات المتحدة. فمثلاً، توجد العديد من الاتفاقيات الدولية التي وقعتها الإدارة الأمريكية، إلا أن مجلس الشيوخ – الذي يتمتع وحده بسلطة التصديق على المعاهدات – يرفض المصادقة عليها ويُبقي الولايات المتحدة خارج هذه الاتفاقيات لأسباب ترتبط بالسياسة الداخلية الأمريكية، وهو ما يسبب حرجاً شديداً للحكومات الأمريكية.
ثالثاً: النظام الرئاسي/البرلماني المختلط:
فطنت الكثير من دول العالم إلى أن الاستفادة من مميزات النظامين البرلماني والرئاسي وتجنب مساوئهما يتطلب البحث عن أرض وسط تمزج بين خصائص النظامين، وهو ما أفرز لنا النظام الرئاسي/البرلماني المختلط. (ورد في الفقه الكثير من التسميات لهذا النمط من أنظمة الحكم، وسنشير له هنا باسم "النظام المختلط"). وبالفعل، تحولت دول كثيرة إلى هذا النظام، وطبقته بأشكال متعددة، ومزجت بين خصائص النظامين الرئاسي والبرلماني بطرق مختلفة، إلى أن أصبحت لدينا نماذج عديدة لهذا النظام. ويعد الدستور الفرنسي الصادر في 1958، والذي أسس الجمهورية الفرنسية الخامسة، هو الأب الروحي لنظم الحكم المختلط، حيث طويت بموجب ذلك الدستور صفحة الجمهورية الفرنسية الرابعة، وألغي النظام البرلماني الصرف، وصممت فرنسا نظاماً جديداً يحوز على سمات من النظامين الرئاسي والبرلماني. وحذت حذو فرنسا دول أوروبية عديدة، كالبرتغال، ورومانيا، وبلغاريا، والاتحاد الروسي. أما في أفريقيا، فتعد السنغال أبرز الدول الآخذة بالنظام المختلط، بالإضافة إلى الكونجو الديمقراطية، وجمهورية النيجر. وفي آسيا، تعد باكستان، وسريلانكا من الجمهوريات ذات النظام السياسي المختلط. وفي العالم العربي، تنبت العديد من الدول أنظمة للحكم تبدو ظاهرياً وكأنها تنتمي إلى هذا النموذج المختلط، إلا أنها في حقيقة الأمر، ومنها مصر، لا يمكن اعتبارها كذلك بحال من الأحوال، وهو ما سنناقشه باستفاضة عند تنولنا لنظام الحكم الذي أقامه دستور 1971.
ورغم تعدد أشكال وأنماط وتطبيقات النظام المختلط، إلا أنه توجد بعض الخصائص التي يتعين أن تتوافر في نظام الحكم حتى يصنف ضمن هذا النموذج. أول هذه الخصائص هي وجود رئيس للجمهورية منتخب من قبل الشعب في اقتراع عام مباشر. كما يشترط أن يتمتع هذا الرئيس بصلاحيات وسلطات تنفيذية تتجاوز المهام المراسمية والبروتوكولية التي عادة ما تولاها شاغل هذا المنصب في الدول البرلمانية. كما لا يحق للسلطة التشريعية سحب الثقة من رئيس الجمهورية كما هو متبع في الأنظمة البرلمانية التي يحق فيها للبرلمان أن يسقط رئيس السلطة التنفيذية من خلال اقتراع لسحب الثقة. وتعد هذه الخصائص هي أبرز ما أخذه النظام المختلط من النموذج الرئاسي. أما بالنسبة للسمات المأخوذة من النظام البرلماني، فهي تتمثل في وجود رئيس وزراء ومؤسسة "حكومة" منفصلة عن مؤسسة رئاسة الجمهورية. وتتولى هذه المؤسسة تسيير أعمال الدولة وإدارة السلطة التنفيذية بناء على توجيهات كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. ومثلما هو الحال في النظم البرلمانية، يكون رئيس الوزراء مسئولاً سياسياً أمام البرلمان، حيث تتمتع السلطة التشريعية بحق إسقاط الحكومة عن طريق التصويت على سحب الثقة منها. وبالتالي، إذا جاز لنا تحديد السمة الأبرز والأكثر تميّزاً في النظام المختلط، فهي ما يمكن وصفه بالـ "ثنائية" في السلطة التنفيذية، أي أن النظام المختلط يوزع صلاحيات السلطة التنفيذية على كل من رئيس الدولة ورئيس الوزراء، بحيث يتقاسمان فيما بينهما مهام الحكم ومسئوليات إدارة البلاد.
تعد هذه هي السمات الأساسية للنظام المختلط، والتي يتعين توفرها في أي دولة تدعي أنها تطبق هذا المنهج في الحكم. أما بالنسبة للتفاصيل الأخرى المتعلقة بنظام الحكم، فهي تتفاوت من دولة إلى أخرى. فعلى سبيل المثال، يملك رئيس الجمهورية في بعض الدول حق إقالة رئيس الوزراء، وفي دول أخرى – وهو الأكثرية – لا يتمتع رئيس الجمهورية بهذا الحق. كما تضع بعض الدول قيوداً على الحالات التي يمكن فيها للبرلمان أن يسقط الحكومة، فيما لا تقرر دساتير دول أخرى مثل هذه القيود.
أما بالنسبة للسلطات والصلاحيات الممنوحة لكل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء فهي تختلف من دولة لأخرى. لذلك، سنركز بالأساس على النموذج الفرنسي لكونه أهم نماذج النظام المختلط، ولأنه المثال الذي سعى المشرع الدستوري المصري أن يقتفي أثره عند تصميم نظام الحكم الذي أقامه دستور 1971. وإذا بدأنا برئيس الجمهورية الفرنسية، فإن دستور 1958 يصفه بأنه الحكم بين السلطات الذي يتأكد من حسن أداء المؤسسات الدستورية في البلاد لمهامها (وهو مفهوم نقل إلى الدستور المصري لعام 1971) . ويقوم رئيس الجمهورية باختيار وتعيين رئيس الوزراء، إلا أنه لا يملك حق إقالته من منصبه. كما يعين الرئيس الوزراء أعضاء الحكومة ويعفيهم من مناصبهم بناء على توصية من رئيس الوزراء. أما بالنسبة للمهام التشريعية التي يباشرها رئيس الجمهورية، فيُعتبر أبرزها مسئولية إصدار القوانين بعد إقرارها من البرلمان، علماً بأن الرئيس الفرنسي ليس له أن يعترض على القوانين التي يقرها البرلمان، وإنما يجوز له فقط أن يدعو البرلمان إلى إعادة فتح النقاش حول القانون، وإذا عاد البرلمان وأقره فإنه يعد صادراً. وتعتبر هذه إحدى الأدوات المهمة التي أدخلها دستور 1958 للحد من سلطة مؤسسة الرئاسة وقوتها، ففي الأنظمة الرئاسية – كالولايات المتحدة مثلاً – يتمتع رئيس الجمهورية بحق "الفيتو" على القوانين الصادرة من السلطة التشريعية، والتي لا يجوز لها إعادة إقرار القانون الذي اعترض عليه الرئيس إلا بأغلبية الثلثين. وفي المقابل، منح الدستور الفرنسي رئيس الجمهورية صلاحية مهمة تؤدي إلى إحداث التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وهي سلطة حل البرلمان بعد التشاور مع رئيس الوزراء ورئيس البرلمان.
كان هذا عن رئيس الجمهورية، فماذا عن رئيس الوزراء؟ أناط الدستور الفرنسي لعام 1958 بمؤسسة الحكومة (وهي الاصطلاح المستخدم – مثلما هو الحال في مصر – للإشارة إلى مجلس الوزراء) أن ترسم وتنفذ سياسات الدولة. والجدير بالذكر أنه لم ترد أي إشارة إلى رئيس الجمهورية في عملية وضع السياسيات العامة للدولة، وهو أمر لم يأخذه الدستور المصري لعام 1971 من نظيره الفرنسي الذي كان يفترض أنه يتبع نموذجه. ويخوّل الدستور الفرنسي رئيس الوزراء بتسيير أعمال الحكومة، وبضمان تنفيذ التشريعات، والحفاظ على الأمن الوطني. وينص الدستور الفرنسي على عدم جواز جمع الوزراء بين عضويتهم في الحكومة وعضوية أي منصب تشريعي، وهو ما يحاكي إحدى أهم خصائص النظام الرئاسي التي تحدثنها عنها آنفاً، والتي تهدف للفصل بين السلطات وإقامة التوازن فيما بينها. والغريب أن الدستور المصري لعام 1971 لم يأخذ هذا المبدأ، وسمح للوزراء أي يتمتعوا بعضوية مجلس الشعب، وهي الظاهرة التي نعتبرها معيبة، ويتعين إعادة النظر فيها (سنناقش هذا الأمر باستفاضة لاحقاً). أما بالنسبة لاقتراح القوانين، فقد منح الدستور الفرنسي كلاً من رئيس الوزراء وأعضاء البرلمان حق طرح مشروعات قوانين على السلطة التشريعية.
بجانب ما أخذه من النموذج الرئاسي في الحكم، نهل الدستور الفرنسي لعام 1958 من النظام البرلماني أحد أهم خصائصه، وهو حق السلطة التشريعية في محاسبة الحكومة سياسياً من خلال الاقتراع على سحب الثقة منها بناء على طلب من عشر أعضاء البرلمان. ويجرى التصويت على سحب الثقة من الحكومة بعد 48 ساعة من تقديمه، وتعتبر الحكومة قد سقطت بموافقة الأغلبية البسيطة من أعضاء البرلمان. وكما سنرى في القسم المخصص لآليات المحاسبة السياسية للحكومة في النظام الدستوري المصري، فإن دستور 1971 لم يخطو على درب نظيره الفرنسي، ووضع إجراءات غاية في التعقيد لسحب الثقة من الحكومة، وهو أمر آخر سنناقشه باستفاضة لاحقاً ونرى ضرورة مراجعته.
تعد هذه هي الملامح الأبرز لنظام الحكم الذي أقامه دستور 1958 في فرنسا، والتي توضح وجود درجتين أو مرحلتين للفصل والتوازن بين السلطات. ففي المرحلة الأولى يتم الفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية ويتم إقامة توازن بينهما في السلطات والصلاحيات، بحيث لا تفتئت أي منهما على مهام الأخرى، وبما يمكنهما من الرقابة على بعضهما البعض. أما الدرجة الثانية من الفصل بين السلطات فتتمثل في إقامة ثنائية داخل السلطة التنفيذية، وتوزيع اختصاصات إدارة وتسيير عمل الدولة وأجهزتها على مؤسستي رئاسة الجمهورية والحكومة، بحيث لا تستأثر أي منهما على السلطات والصلاحيات، وهي السمة الأكثر تميزاً في النموذج المختلط لأنظمة الحكم. وكان الدافع الأساسي وراء إجراء هذه التعديلات على النظام الدستوري الفرنسي هو تجنب الأزمات السياسية التي شهدتها الجمهورية الفرنسية الرابعة التي أمتد عمرها من 1946 إلى 1958. فقد عانت فرنسا خلال هذه السنوات من عدم استقرار الحكم، حيث شكلت خلال عمر هذه الجمهورية الرابعة 20 حكومة. كما تعثرت الدولة الفرنسية في التعامل مع مستعمراتها في آسيا وأفريقيا والتي كانت تطالب بالاستقلال، وهو ما أدى إلى انهيار هذه الجمهورية عندما قامت تشكيلات من الجيش الفرنسي بالاستيلاء على مقاليد الحكم في إقليم "الجزائر الفرنسية" وفرضت على الحكومة تكليف الجنرال العتيد شارل ديجول بتولي مقاليد الحكم، وهو ما وافق عليه الأخير بشرط تغيير الدستور لتقوية مؤسسة رئاسة الجمهورية لضمان استقرار الحكم في فرنسا، وهو ما تم وأخذ شكل نظام الحكم الذي جسده دستور 1958.
كان هذا الوصف النظري لنظام الحكم الفرنسي. ولكن كيف طبق هذا النموذج على أرض الواقع، وما هي طبيعة الممارسة السياسية الني أفرزها هذا النظام؟ تُعد أبرز شيم الحياة السياسية في فرنسا التي أنتجها تطبيق النظام المختلط هي ظاهرة عُرفت بالـ "تعايش" أو Cohabitation، وهي عبارة تستخدم لتوصيف العلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء الفرنسيين عندما لا يكونا منتميين لنفس الحزب أو التيار السياسي. فرغم أن دستور 1958 لم يضع ضوابط تحكم اختيار رئيس الجمهورية لمن يتولى رئاسة الوزارة، ولم ينص صراحة على تعيين رئيس وزراء من الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية، إلا أن الدستور منح البرلمان حق سحب الثقة من الحكومة، وهو ما تُرجم في الممارسة العملية إلى إلزام رئيس الجمهورية باختيار رئيس وزراء ينتمي للحزب الحائز على الأغلبية النيابية في البرلمان، وذلك حتى يضمن تمتع الحكومة بثقة السلطة التشريعية.
وبالتالي، كشفت الممارسة العملية عن أن قوة ونفوذ رئيس الجمهورية على المسرح السياسي الفرنسي تعتمد إلى حد كبير على نتائج الانتخابات التشريعية، ففي الحالات التي يفوز فيها حزب الرئيس بالانتخابات التشريعية يكون لمؤسسة الرئاسة هامش كبير من الحركة، وتأثير ملموس على إدارة دفة البلاد، ورسم السياسات العامة، وهو الوضع القائم في ظل حكم الرئيس نيكولا ساركوزي، حيث يتمتع حزبه "الاتحاد من أجل الحركة الشعبية" والأحزاب اليمينية المتحالفة معه بأغلبية 45% من مقاعد البرلمان، فيما تسيطر أحزاب المعارضة على 35% من المقاعد، وهو ما سمح للرئيس بتعيين رئيس وزراء من حزبه، وأتاح لمؤسسة الرئاسة حرية كبيرة في تسمية الوزراء في الحكومة، وفي ممارسة نفوذ كبير على المشهد السياسي عامة. أما في الحالات التي يخفق فيها حزب الرئيس في اقتناص الأغلبية النيابية، يلزم الرئيس بتعيين رئيساً للحكومة من الحزب أو التكتل الحزبي صاحب الأغلبية النيابية، وهو ما حدث في أكثر من مناسبة، ومنها عندما عين الرئيس الأسبق فرانسوا ميتيراند اليساري رئيس وزراء يميني هو جاك شيراك خلال الفترة 1986-1988، وهو الوضع الذي تكرر عندما أصبح شيراك رئيساً للجمهورية، حيث اضطر لتعيين رئيس وزراء يساري هو ليونيل جوسبان من 1997 إلى 2002. وفي هذه الأوقات يكون هامش حركة الرئيس محدوداً، وعادة ما يقتصر دوره على متابعة ملفي الدفاع والشئون الخارجية، فيما تنتقل مسئولية قيادة العمل الحكومي في المجالات الأخرى إلى رئيس الوزراء. وبالتالي، يجبر رئيس الجمهورية في هذه الأوقات على التوصل إلى تفاهمات مع رئيس الوزراء وحزبه الذي يحظى بالأغلبية في البرلمان، والتوافق معهما بشأن السياسات العامة للدولة، وهي الحالات التي يطلق عليها "التعايش" أو Cohabitation.
الفرع الثاني: النظام السياسي الأنسب للحالة المصرية:
أما وقد استعرضنا خصائص نظم الحكم الرئيسية المعمول بها في العالم، وتعرفنا على إيجابيات وسلبيات كل منها، ننتقل الآن للبحث في نظام الحكم الأنسب لمصر في مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير، والذي نأمل أنه سيمكّن الأمة المصرية من تحقيق آمالها وطموحاتها، وبناء دولة ديمقراطية عصرية، تُحترم فيها الحقوق والحريات، وتقام فيها سيادة القانون. وقد بدأت تأخذ هذه القضية حيزاً من النقاش العام وبدأ بعض المفكرين والسياسيين في طرح رؤاهم حول النظام السياسي الأفضل الذي ينبغي أن تأخذ به مصر في المستقبل. وقبل تحديد نظام الحكم الذي نراه نحن مناسباً لمصر في هذه الحقبة من تاريخها، نود تدوين بعض الملاحظات حول المنهجية التي يتعين أن يتبعها المشرع الدستوري والمجتمع المصري عند التفكير في نظام الحكم الذي سيتبناه الدستور المصري الجديد.
أول هذه الملاحظات هي أنه لا يوجد نظام مثالي من بين النماذج الثلاثة لأنظمة الحكم التي تناولناها فيما سبق، فلكل منها إيجابيته وعيوبه، ولكل منها جوانبه التي قد تساعد على تأسيس مجتمع ديمقراطي حر، وخصائصه التي يمكن أن تفرز تشوهات في العملية السياسية. وتؤكد الإطلالة السريعة على تاريخ النظم السياسية هذه الحقيقة الثابتة، فالنموذج البرلماني أفرز في المملكة المتحدة – بعد صراع طويل ومرير مع الملكية والأرستقراطية الانجليزية – نظام ديمقراطي عتيد يعد الأعرق في العالم. وفي المقابل، أتى النظام البرلماني في ألمانيا بأكثر الأحزاب تطرفاً وبطشاً في تاريخ البشرية، وهو الحزب النازي الفاشي ورئيسه أدولف هتلر، والذي مارس أقسى أنواع القهر الذي عرفته الإنسانية، وقاد العالم إلى حرب عالمية راح ضحيتها أكثر من 60 مليون إنسان. أما النظام الرئاسي، فقد أخذت به الولايات المتحدة الأمريكية منذ أن صدر دستورها في 21 يونيو 1788، وافرز نظاماً مر بمراحل تطور عديدة على مدار قرنين من الزمن، وواجه تحديات هائلة – كالحرب الأهلية في القرن التاسع عشر، وحركة الحريات المدنية في منتصف القرن العشرين – إلى أن أصبح نموذجاً رائداً للدول الديمقراطية، التي تصان فيها الحقوق وتحترم الحريات، ويعامل فيها البشر المنحدرين من كل الأجناس والأعراق على قدم المساواة. أما في بعض دول أمريكا اللاتينية، كالأرجنتين وشيلي، فقد تحول النظام الرئاسي فيها إلى ديكتاتوريات عسكرية مطلقة أهدرت الكرامة الإنسانية، وبطشت بشعوبها، واقترفت في حقها أبشع وأفظع الجرائم.
وبالتالي، فالبحث عن نظام سياسي تتبناه مصر بعد ثورة 25 يناير ليس بحث عن نموذج "مثالي" من الناحية النظرية البحتة، وإنما ما نصبو إليه هو تحديد معالم النظام "الأنسب" للحالة المصرية، والأكثر تماشياً مع تاريخها السياسي وتراثها الدستوري، والأكثر توافقاً مع واقعها المجتمعي. فلا ينبغي أن نحدد النظام السياسي الأمثل لنا في ضوء دراسة نظرية للأنظمة البرلمانية والرئاسية والمختلطة بمعزل عن الواقع المصري ومقتضياته، وإنما يتعين بناء نظام سياسي يأخذ بعين الاعتبار موازين القوى على المسرح السياسي المحلي ويمكن مصر من تحقيق أهداف ثورة 25 يناير وآمال شعبها.
ثانياً، يتعين أن نستوعب دروس التاريخ وعبره، وأن نستفد من التجارب التي مرت بها دول أخرى في مسيرتها نحو تشييد نظم للحكم تنقلها نحو مجتمعات ديمقراطية، تحترم حقوق الإنسان، وتقيم سيادة القانون. وبالتحديد، يتحتم على المشرع الدستوري المصري، وعلى النخبة المصرية عامة، أن تطلع على الإجراءات والسياسات التي تبنتها دول من مختلف أنحاء المعمورة لتلافي العيوب التي أفرزها وأظهرها التطبيق العملي لنظم الحكم التي تبنتها تلك الدول. فعلى سبيل المثال، رأينا على مدار هذا المبحث، كيف قامت دول نظامها برلماني، كألمانيا، والسويد، وتركيا، بتعديل نظامها الانتخابي للحد من ظاهرة تشرذم البرلمانات وتوزع مقاعدها على عدد كبير من الأحزاب بما يؤدي في نهاية المطاف إلى شل الحياة السياسية وإضعاف مؤسسات الحكم. كما تعرضنا، مثلاً، للخطوات التي اتخذتها فرنسا لطي صفحة الجمهورية الرابعة، ولتأسيس جمهوريتها الخامسة بشكل يعيد التوازن للعلاقة بين السلطات، ويمنح رئيس الجمهورية صلاحيات تقي الدولة والمجتمع شرور غياب الاستقرار السياسي. ونخلص من هذه التجارب التي خاضتها الدول الأخرى إلى حقيقة ثابتة، وهي أن الدساتير ونظم الحكم ليست قوالب جامدة، وإنما كائنات حية قابلة للتغيير والتعديل. فلا يوجد ما يمنع أبداً من أن تأخذ مصر بنظام يناسبها في اللحظة التاريخية المفصلية التي تمر بها حالياً، وثم تعيد النظر في ذلك النظام في مرحلة لاحقة، وتطور بعض ملامحه ليتواءم مع الواقع المتغير لمصر ولمجتمعها.
أما ثالث الملاحظات التي نرغب في تسجيلها هنا، فترتبط بضرورة أن تعي النخبة السياسية في مصر أن اختيار نظام معين للحكم ليس أمر يتوقف مع إعداد دستور جديد للبلاد، وإنما يمتد لما هو أبعد من ذلك بكثير. فكما قلنا على مدار هذا الفصل، ترتبط الدساتير بعلاقة عضوية بالإطار القانوني العام المنظم للحياة في البلاد، فلا يمكن عزل الدستور عن القوانين المكملة له، ولا يمكن دراسة وإصلاح هذه القوانين بمعزل عن الدستور ونظام الحكم الذي يؤسس له. ومن هنا، فإن تطبيق نظام حكم محدد في مصر سيتطلب إعادة النظر في الكثير من القوانين المكملة للدستور لجعلها تتواءم مع النموذج المطبق ولتجنب العيوب التي قد تفرزها العملية السياسية على أرض الواقع. ويعد نظام الانتخاب من أهم هذه الأطر القانونية التي سيتعين التأكد من تماشيها مع نظام الحكم المطبق، لضمان استقرار الحكم، وللتأكد من منح جميع القوى السياسية حق المشاركة والمنافسة في العملية السياسية على قدم المساواة. فهناك نظم انتخابية تعد ملائمة لأنظمة معينة للحكم، وهناك نظم أخرى إذا طبقت قد تثير مشكلات سياسية تعرقل العملية الديمقراطية برمتها.
وفي ضوء ما تقدم من ملاحظات واعتبارات، نرى أن نظام الحكم الأنسب لمصر في المرحلة المقبلة هو النظام المختلط الذي يجمع بين خصائص النظامين الرئاسي الصرف والبرلماني الصرف، والذي يقترب من النموذج الفرنسي الذي سبق ووصفناه. وقد يُرَدُ علينا أن هذا هو النموذج الذي كان مطبقاً في مصر، والذي أفُسِدت في ظله الحياة السياسية، ووقَعت في عهده انتهاكات منهجية لحقوق الإنسان، واستبيحت فيه سيادة القانون. ونحن نرى أن هذا قول مردود عليه، فمصر لم يكن فيها – كما سنرى في بقية هذا الفصل – نظاماً مختلطاً للحكم، بل لم يكن فيها نظام يمكن أن نصنفه ضمن أي من النماذج الثلاثة التي ناقشناها. وإنما كان نظام الحكم القائم في البلاد بدعة مصرية أصيلة، لا مثيل لها في الدول الديمقراطية. فقد قطف هذا النظام وردة من بستان جميع أنظمة الحكم المعروفة، وأخذ منها ما يحقق طموحات الحاكم ويجمع جميع خيوط الحكم والسلطة في يده. فالنظام المصري، أخذ من النظام البرلماني فكرة وجود رئيس للوزراء ووزارة مسئولة أمام البرلمان، إلا أنه أضعف السلطة التشريعية إلى حد جعلها مستأنسة تماماً وتحت رحمة السلطة التنفيذية. وأخذ من النظام الرئاسي ما يمنحه لرئيس الجمهورية من سلطات تنفيذية كبيرة، إلا أنه تغافل عن إدخال الآليات التي تضبط ممارسة الرئيس لسلطاته والتي تضمن وجود رقابة على أدائه ومحاسبة له. كما أخذ من النظام المختلط خاصية "الثنائية" في السلطة التنفيذية، إلا أنه جعلها ثنائية معوجة وغير قويمة، فحوّل مجلس الوزراء إلى تابع مطيع لرئيس الجمهورية. وهذه مجرد نماذج من أوجه العوار العديدة التي شابت نظام الحكم المصري، والتي سنتناولها باستفاضة في بقية هذا المبحث، وهي تثبت أن مصر لم يطبق بها النظام المختلط حتى نزعم أنه فشل وأنه لم يعد صالحاً للحالة المصرية.
وثاني أسبابنا للدعوة للأخذ بالنظام المختلط هو الواقع السياسي المصري، وحالة الأحزاب القائمة على المسرح السياسي، والقوى الآخذة في التبلور والتشكل في الأشهر التالية لثورة 25 يناير. فالمطل على المشهد السياسي سيجده منقسماً على نفسه، وموزعاً بين عدد كبير من التيارات ذات القوة والتأثير المتباين والخبرة السياسية المتفاوتة، فضلاً عن أن ثورة الشعب المصري لم تفرز حزباً أو جهة أو تياراً سياسياً يحوز على ثقة أغلب المصريين ويستطيع أن يطرح برنامجاً شاملاً ومتكاملاً لمرحلة ما بعد الثورة، كما كان الحال بعد ثورة 1919 مثلاً، والتي خرج من رحمها حزب الوفد كمعبر عن ومجسد لإرادة الأمة المصرية. فمن جانب، يوجد حوالي 23 حزباً (بعد حل الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم سابقاً) قائمة منذ سقوط النظام. بعضها، كحزبي الوفد والتجمع، لديه خبرة العمل السياسي، وسبق له دخول البرلمان، ويتمتع بقدر من المؤسسية، ولديه هياكل تنظيمية معقولة. وهناك أحزاب أخرى لا وجود لها في الشارع السياسي، وتعاني من ضعف شديد في شعبيتها، وضمور في أعداد مؤيديها. وعلى جانب آخر، بدأت أحزاب جديدة في التشكل في الأيام والأسابيع التي تبعت نجاح الثورة، بعضها ينتمي لتيار يطلق عليه "الليبرالي" (وهي عبارة نستخدمها هنا بقدر من الحذر لأنها استخدمت كثيراً في مصر في غير موضعها)، وبعضها الآخر له ميول يساري واشتراكي أو "ناصري". ولم يتضح بعد ما إذا كانت هذه القوى ستستطيع أن تندمج في كيانات أكبر أو تتعاون في إطار تحالفات تمكنها من ممارسة تأثير ونفوذ ملموس على مسار السياسية في مصر.
وبالتوازي، توجد قوى على المسرح السياسي تتبنى مرجعيات دينية، وهي قوى لا يمكن الاستهانة بها، وبقدراتها التنظيمية، وكفاءتها في إدارة العمل السياسي المنهجي، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين التي عانت منذ عام 1954 – وحتى من قبله – من العداء المستحكم الذي أضمرته الدولة لها، والذي دفعها إلى اللجوء للعمل السري، وهو الوضع الذي تغير تدريجياً منذ منتصف السبعينيات بالسماح للجماعة بأن تنشط في المجتمع عامة وفي الجامعات خاصة، إلى أن وصل الأمر في عهد الرئيس السابق مبارك إلى معادلة تراوحت بموجبها علاقة الجماعة بالدولة بين التضييق، الذي وصل أحياناً إلى القمع، وبين المهاودة والسماح لها بلعب دور محدود على المسرح السياسي. ولم يتضح بعد كيف سيتغير دور الأخوان المسلمين على المسرح السياسي في ظل نظام يسمح لهم بالعمل السياسي المفتوح، وكيف ستتطور آليات عملها وهياكلها التنظيمية مع واقع جديد يتيح لها تأسيس حزب سياسي رسمي يخوض المعارك الانتخابية بحرية. كما لم تتضح بعد العلاقة التي ستربط الجماعة بغيرها من القوى ذات المرجعية الإسلامية وشعبية كل منها، وما إذا كانوا سيستطيعون – أو سيرغبون – في تشكيل تحالفات ينضوون جميعاً تحت لوائها.
كما لم تتضح بعد الآليات التي ستحتوي وتستوعب الحركات الشبابية التي كانت النواة الأولى للثورة ومفجرها، وما إذا كانت بعض هذه القوى ستتحول إلى أحزاب، أم إذا كانت ستكتفي بالعمل السياسي الميداني دون أن تتحول إلى مؤسسات تسعى للمشاركة في الحكم. كل هذه الأمور تدفعنا للقول بأنه المسرح السياسي المصري غير مهيأ بعد لاستقبال النظام البرلماني الصرف، وأنه لا توجد قوى أو تيارات تتمتع بالقدر الكافي من الشعبية والتأييد التي يمكنها من تشكيل حكومة قوية وفعالة تستطيع التصدي لمسئولية قيادة مصر في المرحلة الحرجة التي ستشهد إعادة بناء العديد من أسس وركائز المجتمع. كما أن تباين قدرات وتفاوت وخبرات القوى السياسية القائمة يعني أن التحول نظام برلماني صرف في هذه اللحظة التاريخية قد يفرز سلطة حاكمة لا تعبر بدقة عن آمال وتطلعات الأمة المصرية.
تأسيساً على ذلك، يعد ثالث الدفوع التي تدعونا للتوصية بالأخذ بالنظام المختلط هو الحاجة الملحة للاستقرار السياسي في مصر خلال الفترة المقبلة، والتي ستشهد القيام بإصلاحات جذرية في مختلف ميادين الحياة في مصر، وهو ما يستلزم وجود حكومة قوية تتمتع بقدر من الاستقرار يمكنها من تنفيذ برنامج إصلاحي شامل في البلاد. كما أن جذب الاستثمارات الخارجية، وتشجيع النشاط الاقتصادي، وإقامة مشروعات ضخمة تساهم في رفع معدلات النمو وتوفير فرص لتشغيل الشباب ومحاربة ظاهرة البطالة يتطلب كله قدراً من الاستقرار السياسي الذي يوفر الطمأنينة لرؤوس الأموال. ومن هنا، فإن الانتقال بمصر في الظرف التاريخي الذي تمر به في الشهور التالية لثورة 25 يناير إلى النظام البرلماني الصرف، كما يطالب البعض، قد يفرز نخبة حاكمة غير قادرة من تولي المسئولية الجسيمة لإعادة بناء الأمة المصرية على أسس من الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان.
في مواجهة هذه الدفوع التي تدعونا للتمهل في تبني النموذج البرلماني، توجد اعتبارات تجعلنا نوصي بالابتعاد عن النظام الرئاسي الصرف، في مقدمتها أن مصر عانت على مدار العقود التي مضت منذ تأسيس الجمهورية الأولى من التركيز الهائل للسلطات في يد الرئيس، وهيمنة مؤسسة رئاسة الجمهورية على مفاصل الدولة ومقاليد الحكم، بشكل يدعونا لأن نتخوف من التحول إلى نظام رئاسي صرف يمنح الرئيس القدرة على الافتئات على صلاحيات السلطات العامة الأخرى. ويتأكد هذا التخوف في ضوء قلة خبرة وفاعلية الأحزاب السياسية في اللحظة الراهنة، بما يعني أن النظام الرئاسي قد يفرز مشهداً سياسياً يتكون من رئيس قوي ومنتخب مباشرة من الشعب، في مواجهة برلمان ضعيف ومنقسم على نفسه ومستأنس بسبب تفتت مقاعده وتوزعها على أحزاب سياسية حديثة العهد نسبياً بالسياسة وأعداد كبيرة من المستقلين، بما يعني أن السلطة التشريعية قد تفتقد للقدرة التي تمكنها من التصدي للرئيس وموازنة سلطاته الواسعة.
ومن هنا، فإننا نرى أن النظام المختلط يساعد في تحقيق التوازن الصعب بين اعتبارين مهمين، أولهما تأمين استقرار الحكم وحمايته من تقلبات الحياة السياسية، وثانيها عدم تركيز السلطات في يد شخص أو مؤسسة واحدة، بما يحولها إلى مهيمن على المسرح السياسي. فهذا النظام يضمن أن الدولة ستكون لها قيادة سياسية مستقرة للأعوام الأربعة المقبلة على الأقل، وفي ذات الوقت سيقلص من صلاحيات تلك القيادة السياسية وسيلزمها بالتعاون مع الحكومة التي ستكون مسئولة سياسية أمام البرلمان وخاضعة لرقابته اللصيقة التي ستمارسها الأحزاب السياسية. وبالتالي، سيوفر ذلك فرصة حقيقية للقوى السياسية لأن تنخرط في العمل السياسي، وأن تمارس نفوذاً على المسرح السياسي يتجاوز بكثير ما كان عليه الحال في العهد السابق.
المبحث السابع
نظام الحكم في ظل دستور 1971
نسعى من خلال هذا المبحث، والذي يمتد إلى نهاية هذا الفصل، لاستعراض نظام الحكم الذي أقامه دستور 1971، ولتعريف القارئ الكريم بالعلاقة التي أسسها الدستور بين سلطات الدولة الثلاثة، وهي السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية. وسنقوم بذلك من خلال عرض وشرح الصلاحيات والمهام التي أناطها الدستور بكل من رئيس الجمهورية، والحكومة، ومجلسي الشعب والشورى، ومرفق القضاء بمختلف أفرعه. وكما فعلنا في الأجزاء السابقة من هذا الفصل، لن نكتفي بشرح نصوص الدستور فحسب، وإنما سنعمل على أبرز المثالب التي اعترت هيكل الحكم، وبيان العيوب التي شابت العلاقة بين مؤسسات الدولة وسلطاتها الثلاثة، وسنطرح رؤيتنا ومقترحاتنا بشأن إصلاح أوجه العوار تلك بما يؤسس لنظام قويم للحكم يقيم جمهورية مصرية ثانية تمكن الشعب المصري العظيم من تحقيق أهداف ثورته التي قام بها يوم 25 يناير 2011.
الفرع الأول: رئيس الجمهورية:
أ. رئيس الجمهورية بوصفه رئيساً للدولة:
يجلس رئيس الجمهورية، وفق المادة 73 من دستور 1971، على قمة هرم الدولة المصرية، "ويسهر على تأكيد سيادة الشعب، وعلى احترام الدستور، وسيادة القانون، وحماية الوحدة الوطنية، والعدالة الاجتماعية، ويرعى الحدود بين السلطات لضمان تأدية دورها في العمل الوطني". ويستوقفنا هنا، وقبل أن نعرج على استعراض اختصاصات وصلاحيات رئيس الجمهورية، ما جاء في هذه المادة من تكليف الرئيس، بموجب عبارة "يرعى الحدود بين السلطات لضمان تأدية دورها في العمل الوطني"، بالاضطلاع بدور الحكم بين السلطات. ومن جانبنا، نرى أن هذا النص يجافي المنطق، فكيف يتولى رئيس الجمهورية، كما سنرى لاحقاً، رئاسة السلطة التنفيذية والهيمنة على عملها ونشاطها، وفي ذات الوقت يكلف بالحكم بين السلطات. أي أن هذه المادة جعلت من رأس إحدى السلطات الثلاثة للدولة، وهي السلطة التنفيذية، حكماً في النزاعات التي قد تنشب بينها وبين السلطتين الأخريين.
ب. أسلوب اختيار رئيس الجمهورية:
أما بالنسبة لطريقة اختيار رئيس الجمهورية، فقد كان النص الأصلي للمادة 76 من دستور 1971 يتبنى أسلوب الاستفتاء الشعبي لانتخاب الرئيس، حيث كان يعرض أسم الرئيس المرشح على الشعب بعد حصوله على موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشعب. وتم تعديل هذا النص في مايو 2005 ليصبح الرئيس منتخباً بالاقتراع السري المباشر بدلاً من الاستفتاء. ورغم أن تبني نظام الانتخاب يعد تطوراً محموداً مقارنة بنظام الاستفتاء الشعبي، إلا أن نص المادة 76 والشروط التي استحدثت للترشح لرئاسة الجمهورية استحقت بالفعل وصف الخطيئة الدستورية، بل وحتى الفضيحة السياسية.
ونحن لن نطيل على القارئ في هذا الشأن، فكلنا قرأنا العديد من المقالات التي انتقدت المادة 76 بعد تعديلها، وسمعنا عشرات السياسيين والفقهاء الدستوريين وهم ينددون بالشروط التعسفية التي أتت بها المادة، فضلاً عن أنه أعيد صياغتها في التعديلات الدستورية الأخيرة التي وافق عليها الشعب المصري في الاستفتاء الدستوري الذي أجري في 19 مارس 2011. لذا، سنكتفي بالقول أن هذه المادة قصرت الترشح لمنصب الرئاسة عملياً على شخصين، هما الرئيس السابق حسني مبارك ونجله جمال مبارك الذي شغل منصب أمين السياسات بالحزب الوطني الديمقراطي الحاكم آنذاك، واستبعدت بشروطها المجحفة أي طرف سياسي من المنافسة الجدية على منصب رئيس الجمهورية، خاصة في ضوء السيطرة الشبه كاملة للحزب الوطني على مجلسي الشعب والشورى والمجالس المحلية.
وبمناسبة حديثنا عن أسلوب وآلية اختيار الرئيس، فإننا نود تسجيل ملاحظات بشأن التعديل الذي أدخل على المادتين 75 و76 من دستور 1971 في أعقاب ثورة 25 يناير والذي ووفق عليه في استفتاء 19 مارس 2011. وبالتحديد، نحن نرى أنه من الناحية الشكلية وقعت التعديلات التي اقترحتها اللجنة التي رأسها المستشار والفقيه الكبير طارق البشري في نفس الخطأ الذي وقع في نص المادة 76 بعد تعديله في عام 2005، فقد جاءت المادة طويلة للغاية ومفصلة بشكل يتنافى مع ما هو معمول به في الدساتير. فالدساتير تهدف لوضع قواعد عامة وخطوط عرضية مع ترك تفاصيل تطبيق هذه القواعد العامة للقانون. فكان من الاوفق أن تكتفي المادتين بالنص على أن: "ينتخب رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع السري العام المباشر"، مع ترك بقية المسائل التنظيمية والشروط المطلوب توافرها في المرشح للرئاسة ليحددها المشرع العادي في القانون، ومنها آلية الطعن في نتائج الانتخابات، والجهة المشرفة على الانتخابات، وعدد من يتعين أن يؤيدوا المرشح حتى يخوض الانتخابات، والحد الأدنى من مقاعد مجلس الشعب التي يتعين أن يحوز عليها أي حزب حتى يسمح له بالتقدم بمرشح، وغيرها من القيود والشروط التفصيلية التي نرى أن المكان الأمثل لها هو في القانون وليس في الدستور.
أما موضوعياً، فنرى أن أهم العيوب التي اعترت هذه المادة تتمثل فيما اشترطته بشأن جنسية المرشح للرئاسة وجنسية أبويه وزوجه، بما ينطوي في نظرنا على قدر من الإجحاف والمغالاة. فكان يمكن الاكتفاء بإحالة الأمر برمته إلى القانون. أما إذا كان من الضروري أن يتم تناول الأمر في الدستور، فكنا نرى الاكتفاء باشتراط أن يكون الرئيس مصري الجنسية ومن أبوين مصريين حتى يتم استبعاد من تجنسوا بالجنسية المصرية، ثم يأتي القانون ليوضح أنه يشترط ألا يكون الرئيس أو أبويه أو زوجه ممن يحملون جنسية دولة أخرى، وهو ما يتيح الفرصة لمن يرغب للترشح للرئاسة من حاملي جنسيات أخرى أن يتنازلوا عن هذه الجنسيات، وهو ما يعد أصدق تعبير على الولاء لمصر.
ج. اختصاصات وسلطات رئيس الجمهورية:
تعد مسألة اختصاصات الرئيس والصلاحيات الممنوحة له بموجب دستور 1971 من أكثر الموضوعات إثارة للجدل، حيث يرى البعض أنها سلطات واسعة تجعل من شاغل منصب الرئاسة فرعوناً متحكماً في كافة مناحي الحياة في البلاد ومهيمناً على مختلف أوجه عمل الدولة المصرية. وسنتناول هنا سلطات رئيس الجمهورية وسنقسمها إلى ثلاثة أقسام: (1) سلطات تنفيذية، (2) سلطات تشريعية، (3) سلطات استثنائية.
أولاً: السلطات التنفيذية لرئيس الجمهورية:
أقام دستور 1971 نظاماً يعتمد على ثنائية السلطة التنفيذية، بحيث تتوزع الاختصاصات بين رئاسة الجمهورية والحكومة، إلا أن هذه الثنائية ليست متساوية أو متوازنة، وإنما تميل لترجيح كفة رئيس الجمهورية الذي يتمتع، وكما سنرى فيما يلي، بسلطات أوسع مما تتمتع بها الحكومة ووزرائها. وتتضح هذه الثنائية في هيكل السلطة التنفيذية من خلال المادتين 137 و138 من الدستور، حيث تنص المادة 137 على أن "يتولى رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية، ويمارسها على الوجه المبين في الدستور"، وتضيف المادة التالية إلى ذلك بالنص على أن "يضع رئيس الجمهورية بالاشتراك مع مجلس الوزراء السياسة العامة للدولة، ويشرفان على تنفيذها على الوجه المبين في الدستور". وتمكيناً للرئيس لممارسة هذه الصلاحيات، منحته المادتين 141 و142 من الدستور حق تعيين رئيس الوزراء، ونوابه، والوزراء، ونوابهم، وإعفائهم أي من هؤلاء المسئولين مناصبهم، بالإضافة إلى حق دعوة مجلس الوزراء للاجتماع، ولترأس اجتماعاته التي يحضرها. من هذه المواد مجتمعة، نخلصُ إلى عدة نتائج، أهمها أن رئيس الجمهورية كان، في ظل دستور 1971، الرئيس الأعلى للسلطة التنفيذية والمسئول الأول، وإن كان ليس الوحيد، عن أعمالها. أي أن رئيس الجمهورية لم يكن ينفرد بشكل مطلق بوضع وتنفيذ سياسات وبرامج الدولة، وإنما كانت الحكومة تشاركه في رسم السياسات العامة وفي تنفيذها، وإن كانت، وكما سيتضح أكثر في القسم المخصص لتناول مهام ومسئوليات الحكومة، بمثابة الشريك الأضعف والأصغر في السلطة التنفيذية.
وسيتضح ذلك أكثر للقارئ وستتجلى له هذه الثنائية في إدارة دفة العمل بالدولة المصرية عندما نستعرض كيفية تطبيق ما منحه الدستور للرئيس من صلاحيات. ومن أهم هذه الصلاحيات هو ما ورد في المادة 143 والتي كلفت الرئيس بتعيين وعزل الموظفين المدنيين والعسكريين بالدولة، على أن يتم ذلك "على الوجه المبين في القانون". وقد أتاحت هذه المادة من الناحية المعلية والتطبيقية إقامة نظام مركب ومعقد يتم فيه تقاسم سلطة تعيين موظفي الدولة بين رئاسة الجمهورية والحكومة والوزراء، فقد كان الرئيس يتمتع بسلطات واسعة في اختيار شاغلي بعض الوظائف العليا، فيما كان القانون ينظم عملية اختيار موظفين آخرين ويمنح الحكومة والوزراء حق اختيارهم وتعيين بعضهم. فعلى سبيل المثال، كان الرئيس يهيمن على عملية اختيار فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الشريف، ورؤساء الجامعات، والنائب العام، وغيرهم من قيادات أهم مؤسسات الدولة، وإن كان ذلك يتم مع أخذ نصوص القوانين ذات الصلة في الاعتبار، وبعد تلقي توصيات من الجهات المعنية بهذه المناصب وبعد التشاور معها. فيما كانت وظائف أخرى يتم شغلها رسمياً بقرار جمهوري وإن لم يكن للرئيس سلطات واسعة في تحديد شاغليها، حيث كان القانون يحدد طرق التعيين والترقية. ومثال ذلك، إجراءات تعيين السفراء وأعضاء السلك الدبلوماسي، حيث كانت تصدر بقرارات جمهورية يوقع عليها الرئيس، ولكن كانت التعيينات والترقيات تتم وفق قانون السلك الدبلوماسي والقنصلي المصري، ونفس الشيء بالنسبة للسلك القضائي وأعضاء النيابة العامة الذين كان يحكم عملية ترقياتهم قانون السلطة القضائية. وأخيراً كان الرئيس يفوض للوزراء سلطات تعيين الموظفين الأقل حساسية في الدولة، فكانت بعض التعيينات تتم بقرارات وزارية أو حتى دون وزارية. والمهم في كل ما تقدم، هو ملاحظة أن السلطة التشريعية، وبخلاف ما هو معمول به في دول أخرى، لم يكن لها أي دور في اختيار موظفي الدولة أو الرقابة على عملية الاختيار. فعلى سبيل المثال، رغم انتهاج الولايات المتحدة للمنهج الرئاسي الصرف في تنظيم شئون الحكم، إلا أن الرئيس الأمريكي والأجهزة التنفيذية بصفة عامة لا تحظ بسلطات مطلقة في تعيين كبار مسئولي الدولة، فيتعين أن يحصل المرشحين للعمل كوزراء أو نواب الوزراء أو السفراء أو قضاة المحكمة العليا والمحاكم الفدرالية أو رؤساء لهيئات ومؤسسات حكومية (وهم كلهم معينون من قبل الرئيس في النظام الأمريكي) على تصديق مجلس الشيوخ قبل مباشرة مهاهم. وبالتالي، فإن كان لنا أن نقدم توصية في هذا الشأن، فهي تتلخص في أمرين، أولهما ضرورة إضفاء قدر أكبر من الشفافية والوضوح على آليات وأساليب ومعايير اختيار المسئولين البارزين في الأجهزة الإدارية بالدولة، وثانيهما تتعلق بتقليص السلطة التقديرية للجهات التنفيذية من خلال إلزام الدولة بإتباع قواعد القانون المنظم لعمل الوزارات والهيئات الحكومية ومنح بعض الجهات – كالأزهر الشريف والجامعات – حرية أكبر في اختيار قياداتها. وبطبيعة الحال، فنحن نعي أن الإجراءات المحددة التي يمكن أن تتخذ في هذا الشأن ستختلف بحسب المناصب المطلوب شغلها والمؤسسات التي تنتمي إليها، ولكن المقصد العام من هذه التوصيات هو تقليص سطوة السلطة التنفيذية على اختيار كبار المسئولين الحكوميين، وإعلاء الحرفية والكفاءة كمعايير حاكمة لتعيين قيادات العمل التنفيذي في مصر.
وإضافة لما تقدم من صلاحيات تعيين الموظفين العموميين، منح الدستور للرئيس حق إصدار نوعين من اللوائح الإدارية، وهي "اللوائح التنفيذية"، و"لوائح الضبط". وبالنسبة للنوع الأول من هذه اللوائح، ألا وهي اللوائح التنفيذية، فهي "تُفصل ما أجمِل في القانون، وتُفسر حيث عمم القانون، وتضع الإجراءات حيث لم يضع القانون إلا القواعد الموضوعية، واللائحة بصفة عامة تسهل على السلطات العامة مهمة تنفيذ القوانين في الدولة". ويحق للرئيس كذلك تفويض الوزراء أو من يراه حق إصدار هذه اللوائح، على أن تَحترم كافة اللوائح حدود ما وضعه القانون وألا تعدل فيه أو تعطله. أما لوائح الضبط، فغرضها حفظ الأمن العام والسكينة في المجتمع والصحة العامة. وأهم ما يميز هذه اللوائح عن اللوائح التنفيذية هو استقلالها عن القانون، فلا تأتي مكملة لقانون أو موضحة لآليات إعماله ووضعه موضع التنفيذ، وإنما تصدر بناء على السلطة التقديرية لرئيس الجمهورية لتحقيق مقاصد ترتبط – نظرياً – بالصالح العام وحماية الأمن والاستقرار في المجتمع. ويلاحظ هنا أنه بخلاف ما تضمنته المادة 144 من ضمانات لعدم إساءة استغلال الرئيس لحق إصدار اللوائح التنفيذية، وأهمها منع تعديل أو تعطيل القانون بموجب هذه اللوائح، لم تتضمن المادة 145 التي تمنح الرئيس حق إصدار لوائح الضبط أية ضمانات بشأن هذه اللوائح أو نطاق تطبيقها، رغم ما تنطوي عليه من مساس بالحقوق والحريات العامة. وقد دفع ذلك بعض الفقهاء لانتقاد منح السلطة التنفيذية حق إصدار لوائح الضبط لكونها "شديدة الخطر على الحريات العامة لأنها تفتح الباب على مصراعيه أمام السلطة التنفيذية لتتخذ من سياسة الأمر الواقع من الضرورات العملية التي لا ضابط لها، تكأة تستند عليها في اتخاذ ما تشاء من إجراءات ماسة بالحريات، مخالفة للدستور وقوانين البلاد". وبالتالي، لم يكن مستغرباً ألا نجد مثل هذا النص في أي من الدساتير المصرية إبان الحقبة الملكية، كما لم تُضمّن لجنة الخمسين التي أعدت مشروع دستور 1958 نصاً يبيح للسلطة التنفيذية إصدار مثل هذه اللوائح، وإنما بدأ العمل بهذه الصلاحية بدستور 1956، وهو كما سبق وأشرنا، أول الدساتير التي سُنت بعد ثورة يوليو 1952. لذا، فنحن نوصي بإعادة النظر في هذا النص أثناء إعداد دستور مصر المقبل، وألا تطلق يد مؤسسة الرئاسة أو السلطة التنفيذية في إصدار هذه اللوائح التي قد يساء استغلالها على نحو يفتئت على حقوق المواطنين وحرياتهم العامة.
وإضافة لما تقدم، فقد أناط الدستور بالرئيس سلطة إعلان الحرب بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة، على أن يحصل على موافقة مجلس الشعب. وأخيراً، في إطار تناولنا للصلاحيات التنفيذية التي منحها دستور 1971 لرئيس الجمهورية، نجد أنه تم تكليف الرئيس بإصدار القرارات المنشئة والمنظمة للمرافق العامة. وهذه القرارات، مثلها في مثل لوائح الضبط، مستقلة عن القانون، بحيث لا تصدر مكملة لقانون أو مفصلة لما جاء فيه، الأمر الذي يضيف إلى السلطات الواسعة التي يحظى بها منصب رئيس الجمهورية في تسيير أعمال الأجهزة الحكومية. وتم في عام 2007 تعديل الدستور ليصبح لزاماً على الرئيس أن يحصل على موافقة رئيس الوزراء قبل إصدار قرارات إنشاء المرافق العامة. ودون شك، فإن ذلك كان تطوراً محموداً، إلا أنه لم يلب بحال من الأحوال مطالب الإصلاح الدستوري الجذري التي كانت يمكن أن ترسي أسس نظام ديمقراطي حقيقي في مصر. فرغم اشتراط موافقة رئيس الوزراء، لم يحدث هذا النص أثراً يذكر على طبيعة العلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، فهذا الأخير ظل تابعاً مطيعاً للرئيس لأن التعديلات الدستورية لم تعالج الثنائية غير المتكافئة في السلطة التنفيذية في مصر ولم تصلح اختلال التوازن الذي شاب علاقة مؤسستي الرئاسة والحكومة. فقد جعل دستور 1971 (وما سبقه من دساتير صكت منذ ثورة يوليو 1952) من مؤسسة الرئاسة المهمين على السلطة التنفيذية، والموجه لنشاطها، والمشرف على عملها، وهو ما خلق قدراً من عدم الاتزان في العلاقة بين رئاسة الدولة والحكومة، وحول الأخيرة لمنفذ مطيع لتوجيهات الأولى.
ثانياً: السلطات التشريعية لرئيس الجمهورية:
أما وقد بحثنا في السلطات التنفيذية لرئيس الجمهورية، نتحول الآن لتناول للسلطات التشريعية لمؤسسة الرئاسة في ظل دستور 1971. وأول هذه الصلاحيات هو حق اقتراح القوانين والذي جاء بموجب المادة 109 التي نصت على: "لرئيس الجمهورية ولكل عضو من أعضاء مجلس الشعب حق اقتراح القوانين". ولا يعد هذا النص فريداً من نوعه، بل أن معظم دساتير العالم تمنح السلطة التنفيذية حق اقتراح القوانين والتشريعات. وتعد عملية اقتراح القوانين من قبل السلطة التنفيذية من الأمور التي أقام دستور 1971 بشأنها قدراً من التوازن بين الرئاسة والحكومة، حيث يتعين قراءة المادة 109 في ضوء المادة 156 التي تكلف الحكومة بإعداد مشروعات القوانين، مما يعني أنه عملياً تقوم الحكومة بإعداد مشروع القانون وإحالة للرئاسة للحصول على تصديق وتوقيع الرئيس الذي يحيله لمجلس الشعب لبحثه. ولا يميز الدستور بين مشروعات القوانين المقدمة من السلطة التنفيذية وتلك المقترحة من أعضاء مجلس الشعب، اللهم فيما يرتبط بإجراءات دراسة تلك المشروعات، فالقوانين المطروحة من أعضاء مجلس الشعب يتعين، وفق المادة 110 من الدستور، أن تعرض أولاً على لجنة خاصة لدراسة مدى جواز نظرها من قبل المجلس، فيما تحال المشروعات المقترحة من السلطة التنفيذية مباشرة إلى اللجنة الفنية المختصة بمجلس الشعب لإبداء الرأي فيها. كما أناط الدستور بالرئيس سلطة إصدار القوانين، وهي سلطة لا ترتبط بسن أو إعداد التشريعات، وإنما هي خطوة إجرائية تعد خاتمة شكلية للعميلة التشريعية، ويتبعها نشر القوانين في الجريدة الرسمية لتصبح سارية المفعول بعد مرور شهر من تاريخ نشرها.
يمنح الدستور كذلك الرئيس – كغيره من رؤساء الجمهورية في دول أخرى كالولايات المتحدة – حق الاعتراض على مشروعات القوانين التي يقرها مجلس الشعب، وإن لم يأت هذا الحق مطلقاً. أي أن رئيس الجمهورية لا يتمتع بـ"فيتو" في مواجهة القوانين المقرة بمجلس الشعب. وإنما نظم الدستور هذا الأمر من خلال منح الرئيس حق الاعتراض على مشروع قانون خلال 30 يوماً من إحالته إليه من مجلس الشعب، فإذا لم يعترض عليه اعتبر القانون نافذاً وصادراً، وإن اعترض عليه وجب رده لمجلس الشعب مجدداً، فإذا وافق عليه المجلس بأغلبية الثلثين اعتبر القانون صادراً رغم اعتراض الرئيس. وتعد هذه السلطة من الأمور التي يمكن مراجعتها عند إعداد الدستور المصري الجديد. فكما رأينا عندما تحدثنا عن نظام الحكم الفرنسي، لا يتمتع رئيس الجمهورية الفرنسية بحق الاعتراض على القوانين المقرة من قبل البرلمان الفرنسي، وإنما أقصى ما يستطيع أن يقوم به هو دعوة السلطة التشريعية لإعادة فتح النقاش في مشروع القانون الذي أقرته، وهو النموذج الذي يمكن أن تتبناه مصر. وتوفر الدساتير الأخرى نماذج متعددة يمكن للمشرع الدستوري المصري أن يأخذ بها للحد من سلطات رئيس الجمهورية في الاعتراض على القوانين الصادرة من مجلس الشعب. فالدستور البرازيلي، مثلاً، يلزم الرئيس بإعلان أسباب اعتراضه على أي قانون وافق عليه البرلمان، وثم جعل الأغلبية اللازمة لإعادة إقرار القانون الذي اعترض عليه الرئيس 50% + 1 وليس الثلثين كما هو الحال في مصر.
ثالثاً: السلطات الاستثنائية لرئيس الجمهورية:
كل ما سبق من صلاحيات – رغم اتساع نطاقها – هي سلطات يمارسها رئيس الجمهورية في أوقات السلم والاستقرار. أما أثناء الحرب أو في الحالات الاستثنائية، فقد خوّل الدستور لمؤسسة الرئاسة أداء مهام أوسع وأخطر مما مُنحت في الأوقات الطبيعية. وتتلخص هذه السلطات الاستثنائية فيما يلي:
المادة 74: "لرئيس الجمهورية إذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية، أو سلامة الوطن، أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوري، أن يتخذ الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر، ويوجه بياناً إلى الشعب، ويجرى الاستفتاء على ما اتخذه من إجراءات خلال ستين يوماً من اتخاذها". وقد تم تعديل هذا النص في عام 2007 ليضاف إليها شرط قيام رئيس الجمهورية بأخذ رأي كل من رئيس مجلس الوزراء ورئيسي مجلسي الشعب والشورى. كما حظر تعديل عام 2007 أن تشتمل الإجراءات التي تسمح هذه المادة لرئيس الجمهورية باتخاذها على حل مجلسي الشعب والشورى.
يثير هذا النص الكثير من التحفظات، وتطوله العديد من المطاعن في مدى ملاءمته ليكون في دستور دولة ديمقراطية حقيقية. فكما هو واضح للقارئ، لم يحدد الدستور طبيعة أو جسامة الخطر الذي يستدعي اللجوء للإجراءات الاستثنائية التي تنص عليها المادة 74 من الدستور. ولم تعرّف المادة ماهية "سلامة الوطن" أو "الوحدة الوطنية" أو قدر الإعاقة التي يتعين أن تتعرض لها المؤسسات الدستورية حتى يكون اتخاذ الإجراءات الاستثنائية مشروعاً. هذا فضلاً عن عدم وضع أي حدود لتلك الإجراءات الاستثنائية وغياب أي ضوابط لرقابة جهات أخرى بالدولة على قرارات الرئيس في هذا الشأن، اللهم إلا ما يرتبط باستفتاء الشعب في الإجراءات التي يتخذها الرئيس، بالإضافة إلى أخذ رأي كل من رئيس الوزراء ورئيسي مجلسي الشعب والشورى، وهو النص المضاف في عام 2007، والذي لا يلزم الرئيس إلا بأخذ رأي هؤلاء المسئولين دون أن يكون رأيهم ملزماً.
ورغم محاولة بعض الفقهاء الدستوريين المصريين لوضع قيود على هذه المادة من خلال اشتراط أن يكون الخطر الذي تواجهه البلاد حال وجسيم، أي أنه خطر مؤكد لا وشيك أو محتمل وألا تكون الإجراءات القانونية العادية والمألوفة مُجدية للتعامل مع هذا الخطر، إلا أنه يظل أن الدستور لم ينص على أي من هذه الشروط، وإنما منح الرئيس سلطة تقديرية واسعة تتيح له اللجوء لهذه الإجراءات في أي حالة يعتبرها هو مهددة للوحدة الوطنية أو لسلامة الوطن أو لأداء مؤسسات الدولة لمهامها، دون رقيب عليه من السلطات الأخرى بالدولة. والغريب أن المادة 16 من الدستور الفرنسي لعام 1958 الذي استقت منه المادة 74 من الدستور المصري لعام 1971 ألزمت الرئيس الفرنسي باستشارة رئيس الوزراء ورئيسي مجلسي النواب والشيوخ ورئيس المجلس الدستوري قبل مباشرة السلطات الممنوحة له بموجب المادة 16 من الدستور الفرنسي. وتعتبر هذه الضمانات منطقية ومفهومة في إطار النظام الفرنسي الذي أوضحنا في المبحث السابق طبيعة العلاقة التي تربط رئيس الجمهورية برئيس الوزراء، وكيف أوجد هذا الدستور توازناً في قوة والصلاحيات بين شاغلا هاذين المنصبين. أما في مصر، فقد جعل الدستور من رئيس الوزراء تابع مطيع لرئيس الجمهورية لا يقدر أن يرفض له أمر أو توجيه، وهو ما يفرغ من الناحية العملية التعديل الذي أدخل في عام 2007 من مضمونه وينزع منه أي أثر حقيقي.
أما فيما يتعلق بضرورة استفتاء الشعب خلال 60 يوماً من اتخاذ الرئيس لإجراءات مواجهة الخطر الذي يواجه البلاد، فيلاحظ أن الاستفتاء ليس لإقرار أو لمراجعة الرئيس في تقديره بوجود خطر يتطلب اللجوء للمادة 74، وإنما ينسحب الاستفتاء فقط على الإجراءات التي اتخذها. ومن جانبنا، فنحن نتشكك في مدى فاعلية هذه ضمانة، وذلك لأن التاريخ وتجارب الدول الأخرى أثبتت أنه في حالة التهديدات الطارئة الذي تواجه أي دولة فإن الوعي الجمعي للمجتمع عادة ما ينتابه شعور بالخطر الداهم ويكون مستعداً معه لتقبل وجهة نظر السلطة التنفيذية بشأن الحالة الاستثنائية التي تواجه البلاد، الأمر الذي يستبعد معه أن يرفض الشعب الإجراءات الطارئة التي اتخذها رئيسه.
المادة 108: "لرئيس الجمهورية عند الضرورة وفي الأحوال الاستثنائية وبناء على تفويض من مجلس الشعب بأغلبية ثلثي أعضائه، أن يصدر قرارات لها قوة القانون، ويجب أن يكون التفويض لمدة محدودة، وأن تبين فيه موضوعات هذه القرارات والأسس التي تقوم عليها، ويجب عرض هذه القرارات على مجلس الشعب في أول جلسة بعد انتهاء مدة التفويض. فإذا لم تعرض أو عرضت ولم يوافق المجلس عليها زال ما كان لها من قوة القانون"
يتضح، عند مقارنة هذه المادة بما ورد في المادة 74، أن المشرع الدستوري أحاط حق الرئيس بإصدار قرارات جمهورية لها قوة القانون بضمانات أكبر وأوثق من تلك التي اشترطها بالنسبة لتطبيق أحكام المادة 74. فقط وضعت المادة 108 ثلاثة اشتراطات لتفعيل صلاحيات الرئيس الواردة فيها، وهي أن نكون بصدد حالة استثنائية، وأن تكون هناك ضرورة للجوء لإصدار قرارات جمهورية تحوز على قوة القانون، وأن يصدر تفويضاً محدد زمنياً وموضوعياً من مجلس الشعب بأغلبية ثلثي الأعضاء للرئيس لمباشرة صلاحياته. وثم، إمعاناً في تقييد وغل يد مؤسسة الرئاسة، ألزمت المادة 108 الرئيس بعرض ما أصدره من قرارات لها قوة القانون على مجلس الشعب في أول جلسة له بعد انقضاء مدة التفويض لإقرار أو إلغاء قرارات الرئيس. هذا، ويشير الفقه الدستوري إلى أنه حين تتحقق الشروط المذكورة، فإنه ينتقل للرئيس كافة الصلاحيات التشريعية لمجلس الشعب في حدود الموضوعات الواردة في التفويض ولمدته المقررة.
ومن جانبنا، نرى أن الضمانات التي أحيطت بها المادة 108 كافية لضمان رقابة السلطة التشريعية على أعمال السلطة التنفيذية، فالرئيس لا ينفرد بتقرير وجود حالة تستدعي اتخاذ إجراءات استثنائية، كما أن الأغلبية المطلوبة لموافقة مجلس الشعب على تفويض الرئيس تتلاءم مع الطبيعية الاستثنائية للأوضاع التي تواجه البلاد، فضلاً عن أن إلزام الرئيس بعرض ما أصدره من قرارات على مجلس الشعب فور انتهاء التفويض يضمن عدم ديمومة أي قوانين لا تحظى بموافقة وقبول ممثلي الشعب.
المادة 147: "إذا حدث في غيبة مجلس الشعب ما يوجب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير، جاز لرئيس الجمهورية أن يصدر في شأنها قرارات تكون لها قوة القانون. ويجب عرض هذه القرارات على مجلس الشعب خلال 15 يوماً من تاريخ صدورها إذا كان المجلس قائماً، وتعرض في أول اجتماع له في حالة الحل أو وقف جلساته، فإذا لم تعرض زال بأثر رجعي ما كان لها من قوة القانون دون حاجة إلى إصدار قرار بذلك، وإذا عرضت ولم يقرها المجلس زال بأثر رجعي ما كان لها من قوة القانون، إلا إذا رأى المجلس اعتماد نفاذها في الفترة السابقة أو تسوية ما ترتب على آثارها بوجه آخر".
ويستفاد من هذا النص أنه رغم أن الأصل العام هو تولي السلطة التشريعية دون غيرها سن القوانين، إلا أن المشرع الدستوري احتاط لاحتمال حدوث ظروف استثنائية أثناء غياب مجلس الشعب يتطلب مواجهتها اتخاذ إجراءات تشريعية سريعة. لذا، كلف الدستور رئيس الجمهورية بإصدار قرارات تحوز قوة القانون للتصدي لهذه الظروف، وإن كان أحاط هذه السلطة الممنوحة للرئيس بالعديد من الضمانات التي تحول دون إساءة استخدام هذه الصلاحية. وبالتحديد، اشترط الدستور أن تكون ممارسة هذه السلطة في حالة غيبة مجلس الشعب، أي أثناء فترة عطلة مجلس الشعب بين دورات انعقاده أو إذا كان المجلس منحلاً. كما أوجبت المادة 147 أن يلجأ الرئيس إلى هذه السلطة في الحالات التي يتحتم فيها اتخاذ إجراءات لا يمكن التباطؤ بشأنها. وتعد الضمانة الأهم لعدم إساءة استغلال مؤسسة الرئاسة لهذه الصلاحية هو إلزام الرئيس بعرض الإجراءات التي اتخذها على مجلس الشعب خلال 15 يوماً من صدورها إذا كان المجلس غير منحل، وفي أول اجتماع له إذا كان منحلاً وقت صدور قرارات الرئيس.
أما أهم مثالب هذه المادة، فتتمثل في عدم إلزام الرئيس بدعوة مجلس الشعب للاجتماع للموافقة على قراراته إذا كان المجلس منحلاً أو غير قائماً، الأمر الذي قد يساء استغلاله، فيمكن مثلاً أن يقوم الرئيس بحل مجلس الشعب وإصدار قرارات لها قوة القانون لا تعرض على هيئة تشريعية إلا بعد إجراء انتخابات برلمانية جديدة، وهو ما يعني أنه سيمر وقت طويل إلى حين مراجعة المجلس الجديد لقرارات الرئيس. وبالتالي، فإننا نوصي بإعادة النظر في هذه المادة مستقبلاً والنص على ضرورة دعوة المجلس للاجتماع فوراً – حتى لو كان منحلاً – لإقرار القرارات التي تحوز قوة القانون التي أصدرها الرئيس.
المادة 148: "يعلن رئيس الجمهورية حالة الطوارئ على الوجه المبين في القانون، ويجب عرض هذا الإعلان على مجلس الشعب خلال الخمسة عشرة يوماً التالية ليقرر ما يراه بشأنه. وإذا كان مجلس الشعب منحلاً يعرض الأمر على المجلس الجديد في أول اجتماع له. وفي جميع الأحوال يكون إعلان حالة الطوارئ لمدة محدودة ولا يجوز مدها إلا بموافقة مجلس الشعب".
يخطأ من يتصور أن فرض حالة الطوارئ في مصر هي ظاهرة انفردت بها الأعوام الثلاثين التي حكم مصر خلالها الرئيس السابق محمد حسني مبارك، فقد عانى المصريون من فرض حكامهم لحالة الطوارئ في أغلب سنوات القرن العشرين. وسيُفاجأ القارئ عندما يعلم أن الاحتلال البريطاني كان أول من فرض حالة الطوارئ في مصر وذلك في 2 نوفمبر 1914 (وكانت تسمى "الأحكام العرفية") بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى. واستمرت الأحكام العرفية سارية إلى أن رفعت في 5 يوليو 1923. وثم عادت الأحكام العرفية لتطبق في الأول من سبتمبر 1939 بسبب اجتياح جيوش هتلر لأوروبا واندلاع الحرب العالمية الثانية، وهو ما استمر لحين انتهاء الحرب بتوقيع اتفاقية استسلام ألمانيا للحلفاء. ولم تمر سوى ثلاثة أعوام حتى أعيد فرض الأحكام العرفية بسبب قيام حرب فلسطين في 14 مايو 1948 إلى أن رفعت في 29 إبريل 1950، إلا أنها عادت وفُرضت مجدداً بعد حريق القاهرة يوم 26 يناير 1952 واستمر تطبيقها طوال الفترة التي وقعت خلالها ثورة 23 يوليو 1952 وامتدت إلى يونيو 1956، حيث ألغيت بعد إصدار دستور 1956. وبعد شهور معدودة وقع العدوان الثلاثي على مصر بعدما أمم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الشركة العالمية لقناة السويس، مما أدى إلى الإعلان للمرة الأولى عن "حالة الطوارئ" بدلاً من الأحكام العرفية. وأبقت الحكومة المصرية على حالة الطوارئ منذئذ وطوال سنوات الوحدة بين مصر وسوريا وإلى ما بعد الانفصال حتى رُفعت في 24 مارس 1964.
وكانت المرة التالية لإعلان حالة الطوارئ بسبب العدوان الإسرائيلي على مصر في 5 يونيو 1967. واستمر تطبيق حالة الطوارئ لأكثر من 13 سنة بعد ذلك شهدت مصر خلالها أحداث جسام، بدأت بإعادة بناء الجيش، وحرب الاستنزاف، ووقف إطلاق النار بموجب مبادرة روجرز، ثم وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، وتولي الرئيس السادات مقاليد الحكم، وقيامه بثورة التصحيح ضد مراكز القوى. وبقيت حالة الطوارئ خلال حرب أكتوبر 1973 المجيدة، وبعد اتفاقي فض الاشتباك الأول والثاني مع إسرائيل، وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد في 1978، وحتى بعد توقيع اتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية في 1979، إلى أن أنهى الرئيس السادات حالة الطوارئ يوم 15 مايو 1980. ولكن القدر أبى أن تحيا مصر لفترة طويلة دون تطبيق حالة الطوارئ، فأعيد فرضها في مساء 6 أكتوبر 1981 بعد اغتيال الرئيس أنور السادات في حادث المنصة.
وبقيت حالة الطوارئ مفروضة على مصر منذ ذلك التاريخ وطوال الأعوام الثلاثين لتولي الرئيس السابق حسني مبارك حكم مصر، حيث كانت الحكومات المتعقبة تجدد تطبيق حالة الطوارئ كل ثلاثة أعوام بموافقة مجلس الشعب، وكان المد الأخير لحالة الطوارئ قد تم في 11 مايو 2010. وبالإطلاع على هذا تاريخ الطويل لفرض الأحكام العرفية وحالة الطوارئ على مصر خلال القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحالي يتجلى للقارئ الظاهرة التي سبق وأن وصفناها بـ "تطبيع الاستثناء"، وتحويل حالة شاذة إلى قاعدة ثابتة أتاحت للسلطة التنفيذية أن تتغول وتفتئت على ولاية ومهام السلطات الأخرى بالدولة، وأن توسع صلاحيات وسطوة الأجهزة الأمنية، وأن تلتف على أحكام الدستور والقانون، وأن تسيء لمبدأ سيادة القانون وأن تتعدى على الحقوق الأساسية والحريات العامة للمواطنين.
ما من شك أنه يوجد لمزيد الذي يمكن أن نقوله بشأن تطبيق حالة الطوارئ وأثارها على مصر ومجتمعها والحياة السياسية فيها، إلا أننا هنا بصدد مراجعة نصوص دستور 1971 والتعليق عليها وأوجه العوار التي شابتها والنواقص التي اعترتها والمثالب التي عانت منها، وذلك كله بهدف تبصير المواطن المصري لما يتعين تلافيه ونحن مقبلون على رسم مستقبل أفضل لمصر وبناء جمهوريتها الثانية، وهو ما يتطلب التعلم من أخطاء الماضي والتأكد من عدم تكرارها.
وفي هذا الإطار، فإنه بالتدقيق في نص المادة 148 من دستور 1971، يتضح أنه أوجبت امتثال الرئيس لمجموعة من الشروط لإعلان حالة الطوارئ، وهي:
1. اختص الرئيس – دون غيره – بصلاحية إعلان حالة الطوارئ.
2. يحدد القانون الحالات التي تستوجب إعلان حالة الطوارئ.
3. ألزم الرئيس بعرض قراره بإعلان حالة الطوارئ على مجلس الشعب خلال 15 يوماً.
4. لمجلس الشعب أن "يقرر ما يراه بشأنه".
5. وإذا كان مجلس الشعب منحلا، يعرض الأمر على المجلس الجديد في أول اجتماع له.
6. يكون إعلان حالة الطوارئ لمدد محددة، ولا يجوز مدها إلا بموافقة مجلس الشعب.
وتعتبر أهم مواطن القصور التي شابت هذه المادة هو أنها اقتصرت على شروط إجرائية يتعين على رئيس الجمهورية إتباعها لإعلان حالة الطوارئ، دون إدخال أي اشتراطات موضوعية تكفل عدم إساءة استغلال الرئيس والسلطة التنفيذية لحالة الطوارئ. ففيما يتعلق بمجلس الشعب، اتسمت الصلاحيات الموكلة إليه بقدر كبير من الإبهام، فاكتفت المادة 147 بالنص على أن يقرر المجلس "ما يراه" بشأن حالة الطوارئ، وهو نص لا يشرط بشكل قطعي أن تعلن حالة الطوارئ بالموافقة الصريحة لمجلس الشعب، فضلاً عن تغافل تحديد الأغلبية المطلوبة للموافقة على إقرار إعلان الرئيس لحالة الطوارئ، وهي الأغلبية التي نتصور أنها يتعين أن تكون الثلثين. كما يلاحظ أن الدستور سمح لرئيس الجمهورية أن يعلن حالة الطوارئ حتى ولو كان مجلس الشعب منحلا ولا يلزمه بدعوة المجلس للانعقاد أو أن يدعو لانتخابات في وقت محدد أو أي إجراء آخر يضمن أن يعرض قرار إعلان حالة الطوارئ على المجلس دون إبطاء.
ولم تتضمن المادة 147 أية ضمانات أخرى بجانب هذه الاشتراطات الهزيلة المرتبطة بمجلس الشعب. وبدلاً من أن يدخل المشرع الدستوري على هذه المادة ما يحول دون إساءة استخدامها، اكتفى بإحالة الأمر برمته إلى القانون، وهو ما أفضى إلى أن دستور 1971 أتاح للدولة أن تُبقي القانون رقم 162 لسنة 1958 بشأن حالة الطوارئ سارياً، والذي كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قد أصدره بقرار جمهوري له قوة القانون. أي أن السلطة التشريعية في مصر – رغم أنها كانت تئن تحت سطوة وهيمنة السلطة التنفيذية حينئذ – لم يتح لها حتى مناقشة وإقرار قانون الطوارئ ومضمونه، وإنما اقتصر دورها على المصادقة على قرار الرئيس بإعلان حالة الطوارئ وتمديده.
وبالإطلاع على هذا القانون، سينجلي للقارئ مدى خطورة النص الدستوري الذي ترك عملية تنظيم وتحديد سلطات الدولة أثناء حالات الطوارئ للقانون بدلاً من أن توضع في الدستور. فقد أطلق القانون – الذي لم تقره أو تناقشه أي سلطة نيابية – العنان للأجهزة الأمنية لاتخاذ إجراءات استثنائية تقيد الحريات العامة وتتعدى على الحقوق الأساسية. فقد أجاز القانون رقم 162 لسنة 1958 بموجب مادته الأولى أن يعلن الرئيس حالة الطوارئ إذا "تعرض الأمن العام أو النظام العام في أراضي الجمهورية أو في منطقة منها للخطر سواء كان ذلك بسبب وقوع حرب أو قيام حالة تهدد بوقوعها أو حدوث اضطرابات في الداخل أو كوارث عامة أو انتشار وباء". وفي هذه الحالات، أتاح القانون في مادته الثالثة للرئيس – أو من يفوضه – أن يأمر كتابة أو شفهياً بـ "وضع قيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والانتقال الإقامة والمرور في أماكن أو أوقات معينة، والقبض على المشتبه بهم أو الخطرين على الأمن والنظام العام واعتقالهم، والترخيص في تفتيش الأشخاص والأماكن دون التقيد بأحكام قانون الإجراءات الجنائية". ويتضح من أسلوب صياغة هذا القانون أنه لم يضع حدوداً لما للدولة أن تقترفه من تجاوزات في حق المواطنين. فاستخدم عبارة "وضع قيود" لوصف الإجراءات التي يحق للدولة أن تتخذها، وهي عبارة فضفاضة يمكن للأجهزة الأمنية أن تفسرها بالشكل الذي يحلو لها. كما أباحت المادة ذاتها القبض على الأشخاص واعتقالهم وتفتيش بيوتهم دون التقيد بقواعد قانون الإجراءات الجنائية التي تعد بمثابة درعاً منيعاً لصد تغول الدولة واذرعها الأمنية على حقوق المواطنين وسلبهم أعز ما يملكون، وهو حريتهم. كما سمحت هذه المادة بمراقبة المراسلات الشخصية، وضبط ومصادرة إغلاق الصحف، والاستيلاء على أي عقار أو مال منقول وفرض الحراسة على الشركات.
ورغم ما تنطوي عليه هذه المادة الثالثة من قانون الطوارئ من خطورة، إلا أننا نرى أن الفقرات المتعلقة بالرقابة القضائية على تطبيق هذا القانون هي الأشد خطورة والأكثر مساساً بالحقوق الأساسية للمواطنين. وبالتحديد، فقد خلق القانون 162 لسنة 1958 مساراً قضائياً استثنائياً ومنفصلاً عن القضاء الجنائي العادي الذي يفترض أن ينظر في الدعاوى المقامة ضد كل من يقترف جريمة يعاقب عليها قانون العقوبات. فقد سمح قانون الطوارئ لرئيس الجمهورية أن ينشأ "محاكم أمن دولة (طوارئ)" للنظر في الجرائم التي تقع بمخالفة الأوامر الصادرة بهدف مواجهة حالة الطوارئ. ويعتري تشكيل وأسلوب عمل هذه المحاكم الكثير من المثالب والعيوب التي يصعب معها تمتع المتهم الماثل أمامها بحقوقه التي كفلها الدستور والقانون. ومن مظاهر القصور الذي يشوب بنية هذه المحاكم أن قانون الطوارئ يتيح لرئيس الجمهورية تعيين ضباط من القوات المسلحة للعمل كقضاة في هذه المحاكم، بما يخل بحق كل إنسان في أن يحاكم أمام قاضيه الطبيعي. وإمعاناً في الالتفاف على استقلال ونزاهة القضاء، منحت المادة 9 من قانون الطوارئ لرئيس الجمهورية أن يحيل إلى محاكم أمن الدولة من يتهمون بارتكاب جرائم القانون العام، وهي الجرائم التي لا ترتبط بحالة الطوارئ أو الإجراءات المتخذة للتصدي لها، وإنما هي جرائم منصوص عليها في قانون العقوبات ويفترض أن تنظر أمام القضاء الجنائي العادي. وبالفعل، كان قد صدر أمر رئيس الجمهورية رقم 1 لسنة 1981 بإحالة بعض الجرائم الواردة في قانون العقوبات من ولاية القضاء الجنائي إلى محاكم أمن الدولة طوارئ، وهي جرائم الرأي والنشر التي تقع بواسطة الصحف، وجرائم تعطيل المواصلات، وجرائم الأسلحة والذخائر، وجرائم متعلقة بالتسعير وتحديد الأرباح على بعض السلع، وجرائم متصلة بالحفاظ على الأمن في المعاهد التعليمية، والجرائم الخاصة بقانون الأحزاب. وإضافة لما تقدم حرم قانون الطوارئ المتهم الماثل أمامها من حق الطعن في الحكم الصادر في حقه، وترك لرئيس الجمهورية سلطة التصديق على الأحكام لجعلها نهائية، مع منحه حق العفو عمن تدينهم محاكم أمن الدولة (طوارئ) أو التخفيف من العقوبات الصادرة بحقهم، بما يمثله ذلك كله من تدخل في أعمال القضاء.
وعودة للمادة 147، سيتضح للقارئ الكريم مدى القصور الذي شاب هذه المادة عندما نقارنها، مثلاً، بالمادة 199 من مشروع دستور 1954، والتي تناولناها بالتفصيل فيما سبق، والتي يمكن أن توفر أفكاراً يمكن الرجوع إليها والاستئناس بما عند إعداد مشروع الدستور المقبل لمصر، والتي سيتضمن بطبيعة الحال مادة تتناول تعامل الدولة مع حالات الطوارئ. ومن هنا فإننا نرى أن أهم العناصر التي يجب أن تتضمنها هذه المادة ما يلي:
1. تحديد الحالات التي يجوز فيها إعلان حالة الطوارئ بشكل حصري. نقترح أن تكون ما يلي: الحرب، أو الاعتداء على أراضي جمهورية مصر العربية، أو ما يهدد بوقوع أي من هاتين الحالتين، أو وقوع اضطرابات جسيمة تخل إخلالاً جسيماً بالأمن العام وتعرض حياة الأمة للخطر، أو كوارث طبيعية، أو انتشار وباء.
2. يتقدم رئيس الجهورية بطلب لمجلس الشعب للموافقة على إعلان حالة الطوارئ. ويتضمن طلب الرئيس السبب الداعي لإعلان حالة الطوارئ، لمدة سريان حالة الطوارئ، والإجراءات الاستثنائية المقترح أن تتخذها السلطة التنفيذية.
3. يشترط لسريان حالة الطوارئ أن يوافق مجلس الشعب بالأغلبية البسيطة، على أن يلزم المجلس بالرد على طلب الرئيس خلال غضون ثلاثة أيام كحد أقصى. أي أن قرار رئيس الجمهورية بإعلان حالة الطوارئ لا يسري إلى بعد موافقة مجلس الشعب عليه.
4. وإذا كان مجلس الشعب منحلاً يدعى للاجتماع فوراً.
5. يبقى المجلس منعقداً طوال فترة إعلان حالة الطوارئ، إلا إذا قرر أن يعلق اجتماعاته لأي سبب يراه المجلس. ويحق للمجلس إلغاء حالة الطوارئ، أو تعديل أسباب إعلانها، أو مدة سريانها، أو والإجراءات المقترح اتخاذها، وذلك بموجب قرار صادر بالأغلبية البسيطة.
6. نقترح ألا تتعدى مدة سريان حالة الطوارئ 6 أشهر، على أن تُمد بموافقة ثلثي مجلس الشعب.
7. تكليف المحكمة الدستورية العليا بمراقبة التزام السلطة التنفيذية بالشروط الموضوعية والإجرائية لإعلان حالة الطوارئ المنصوص عليها في الدستور.
8. منع إنشاء أي محاكم أو هيئات قضائية خصيصاً لنظر الجرائم المتصلة بقانون الطوارئ.
9. منع إحالة المدنيين للمحاكم العسكرية.
10. النص على مجموعة من الحقوق والحريات الأساسية التي لا يجوز المساس بها إذا أعلنت حالة الطوارئ، وهي: الحق في الحياة، منع التعذيب والمعاملة المهنية واللاإنسانية، منع الاستعباد، المساواة أمام القانون، والاعتقال التعسفي، ومبادئ الشرعية الجنائية (كمبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص)، وحرية العقيدة والدين.
ولا يفوتنا هنا أن نتناول بإيجاز ما جاءت به التعديلات الدستورية الأخيرة من تغييرات على المادة 147. فقد أقر الناخبون يوم 19 مارس 2011 النص المقترح من قبل لجنة إعداد التعديلات الدستورية والذي جاء فيه: "يعلن رئيس الجمهورية حالة الطوارئ على الوجه المبين في القانون ويجب عرض هذا الإعلان على مجلس الشعب خلال السبعة أيام التالية ليقرر ما يراه بشأنه فإذا تم الإعلان في غير دور الانعقاد وجبت دعوة المجلس للانعقاد فورا للعرض عليه وذلك بمراعاة الميعاد المنصوص عليه في الفقرة السابقة وإذا كان مجلس الشعب منحلا يعرض الأمر على المجلس الجديد في أول اجتماع له ويجب موافقة أغلبية أعضاء مجلس الشعب على إعلان حالة الطوارئ وفي جميع الأحوال يكون إعلان حالة الطوارئ لمدة محدودة لا تتجاوز ستة أشهر ولا يجوز مدها إلا بعد استفتاء الشعب و موافقته على ذلك".
وتنسحب معظم ملاحظاتنا بشأن المادة 147 من دستور 1971 على النص المعدل الذي الوارد في الإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس 2011، فقد أحال النص الدستوري إلى القانون لتحديد الحالات التي تستدعي إعلان حالة الطوارئ، وسمح للرئيس بإعلان حالة الطوارئ حتى لو كان مجلس الشعب منحلاً، ولم يحدد الحقوق والحريات التي لا يجوز المساس بها أثناء سريان حالة الطوارئ، وترك للقانون تحديد الإجراءات التي يجوز للرئيس أن يتخذها لمواجهة الأوضاع الطارئة دون أن يكون لمجلس الشعب دور رقابي على هذه الإجراءات ومدى ملاءمتها ومناسبتها للحالة التي استوجبت إعلان حالة الطوارئ، ولم يتح للمجلس إلغاء حالة الطوارئ إذا ارتأى أن أسبابها زالت. هذا، ونرى أن اشتراط النص المعدل موافقة مجلس الشعب قبل تطبيق حالة الطوارئ ووضعه حد زمني أقصى لسريانها هو 6 أشهر هي جوانب محمودة، إلا أننا نعيب على النص أنه أجاز مد حالة الطوارئ باستفتاء شعبي. ونحن نرى أنه كان من الأنسب اشتراط موافقة مجلس الشعب على مد حالة الطوارئ لأكثر من 6 أشهر، ولذلك لأن الشعوب عادة ما تصدق ما تسوقه الحكومات حول وجود أخطار داهمة تحدق بالأوطان، ولأن هناك حكومات احترفت إشاعة وصناعة الخوف والريبة واختلاق الذرائع والفزاعات لإرهاب الشعوب وإيهامها بضرورة اتخاذ إجراءات استثنائية للتصدي لهذه المخاطر، خاصة إذا كان لهذه الحكومات هيمنة على الإعلام الرسمي وغيره من وسائل التأثير على الرأي العام. ومن هنا نرى أنه من الأوفق أن يشترط موافقة مجلس الشعب بأغلبية الثلثين لمد حالة الطوارئ لأكثر من الأشهر الستة الأولى.
رابعاً: المسئولية السياسية لرئيس الجمهورية:
رغم كل من منحه الدستور للرئيس من سلطات في أوقات السلم وفي حالات الطوارئ، إلا أنه لم يتم إقرار أي وسيلة للمساءلة السياسية للرئيس أو محاسبته سياسياً من قبل السلطة التشريعية، وإنما اكتفى الدستور بالتحدث عن المسئولية الجنائية لرئيس الجمهورية خلال توليه منصبه. فقد حددت المادة 85 أنه يمكن اتهام الرئيس إما بالخيانة العظمى أو جريمة جنائية بناء على اقتراح من ثلث أعضاء مجلس الشعب، على ألا يصدر قرار الاتهام إلا بثلثي المجلس. ويقول الدستور انه في هذه الحالة يتوقف الرئيس أن أداء مهامه ويتولى نائب الرئيس مسئوليات الرئاسة لحين الفصل في الاتهام الموجه للرئيس، على أن يحدد القانون تشكيل وإجراءات محكمة تنشأ خصيصاً لمحاكمة الرئيس.
ولدينا بشأن هذا النص عدة ملاحظات، أولها أن هذا النص يقصر مساءلة الرئيس على الجوانب الجنائية ويستبعد إمكانية محاسبته سياسياً عن أدائه. ودون شك ينبع هذا النص من المنطق القائل بأن الرئيس منتخب مباشرة من الشعب، وبالتالي فإنه ليس للسلطة التشريعية أن تفتئت على رأي الشعب وقراره، فإذا كان الشعب هو الذي اختار الرئيس فإنه الشعب فقط الذي يحق له أن يزيح الرئيس من منصبه، وهي الرؤية التي عبر عنها جانب من الفقه في مصر. وهذه نظرية لها وجهاتها ومنطقها الذي نتفهمه، وإن كنا نتخلف معها. ففي الحالة المصرية ليس من المنطقي أبداً أن يترك رئيس له هذا القدر الهائل من الصلاحيات بلا رقابة سياسية من قبل السلطة التشريعية، وهو ما أثبتت التجربة العملية والخبرة التاريخية صحته، فكان أحد أوجه ضعف السلطة التشريعية وخضوعها للسلطة التنفيذية غياب أي وسيلة تمكنها من التصدي لتغول رأس السلطة التنفيذية الذي يحوز فعلياً على صلاحيات توجيه عمل الحكومة والجهاز الإداري للدولة. هذا بجانب أن مصر لم تكن تجرى فيها حتى عام 2005 انتخابات رئاسية، وإنما كان الرئيس يرشح من قبل مجلس الشعب – المسيطر عليه من قبل الحزب الحاكم أصلاً – ويعرض على الشعب للاستفتاء عليه، أي أن حتى آلية الرقابة الشعبية على أداء الرئيس كانت غائبة.
وقد فطنت دول عديدة من مختلف الأنظمة السياسية والدستورية إلى أهمية إيجاد وسيلة للسلطة التشريعية لمحاسبة الرئيس والرقابة على أدائه سياسياً، وذلك بجانب الرقابة الجنائية. وعلى سبيل المثال، منحت المادة الرابعة من القسم الثاني من دستور الولايات المتحدة للكونجرس حق عزل كل من الرئيس أو نائب الرئيس أو أي موظف عام من مناصبهم إذا ثبت تورطهم في الخيانة، أو تلقي الرشاوى، أو ما يعرف بـ "الجرائم والجنح العليا" (High Crimes and Misdemeanors)، وهو نص اقتبسه المشرع الدستوري الأمريكي من القانون البريطاني ويتأسس على تاريخ طويل من الممارسة السياسية في المملكة المتحدة. وللتوضيح، قد يتبادر إلى القارئ أن عبارة "الجرائم والجنح العليا" تشير إلى جرائم منصوص عليها في قانون العقوبات، مما يعني أنها لا تختلف عن إقرار المسئولية الجنائية للرئيس. إلا أن هذا ليس صحيحاً، فالمراد من هذه العبارة ليس معاقبة الرئيس جنائياً، وإنما عزله إذا أخل إخلالاً جسيماً بمهام منصبه أو خالف الدستور مخالفة فادحة أو أساء استغلال سلطته بشكل كبير بما يستدعي تدخل السلطة التشريعية لإقالته. وبالتالي فالمقصود ليس أن يعزل الرئيس لمخالفته مواد قانون العقوبات – وإن كان من الممكن أن يتضمن تصرف الرئيس الذي استوجب عزله شق جنائي، ويمكن أن يحاكم بسببه أمام القضاء العادي بعد عزله – وإنما المقصود هو منح الكونجرس سلطة عزل الرئيس إذا استقر يقين الكونجرس على أن الرئيس اقترف أعمالاً تعد مخالفة فادحة لأهداف وظيفته ومنصبه لا يجوز التهاون معها. ونظراً لخطورة هذه الصلاحية، فقد اشترط الدستور الأمريكي أن يوافق مجلس النواب أولاً على عزل الرئيس وأن يصدر قراراً بذلك، ثم يحال الأمر إلى مجلس الشيوخ الذي يتعين أن يوافق بأغلبية الثلثين حتى ينفذ قرار العزل الصادر من مجلس النواب.
ونحن لا ندعو لأن يقوم المشرع الدستور المصري باستيراد مواد دستورية من الدستور الأمريكي أو أن يقوم بعملية تقليد أعمى لما هو متبع في بريطانيا، علماً بأن هذين النظامين الدستوريين ليسا الوحيدان اللذان أقاما نظاماً لمحاسبة رئيس الدولة أو المسئولين السياسيين سياسياً، بل أخذت دول عديدة تنحدر من ثقافات دستورية وقانونية متنوعة بهذا النظام. فما نرجوه هو أن ينظر واضعو دستور مصر الجديد بجدية في إدخال آلية لمساءلة الرئيس سياسياً في الدستور الجديد لمصر، فلا يمكن أن نعود إلى الوضع السابق في مصر، والذي تركزت فيه سلطات هائلة في مؤسسة الرئاسة دون أن تكون هناك أي آلية للرقابة التشريعية على هذه المؤسسة أو محاسبتها سياسياً إذا تجاوزت حدود سلطاتها الدستورية أو ارتكبت مخالفات سياسية جسيمة. وما من شك أنه إذا قرر المشرع الدستوري تضمين مثل هذا النص في الدستور الجديد أنه يتعين أن يحيطه بضمانات تحول دون إساءة استغلاله من قبل البرلمان. فيمكن أن يشترط ألا يقبل النظر في طلب عزل الرئيس إلا بموافقة مجلس الشعب بالأغلبية البسيطة، وألا يصدر القرار إلا بموافقة ثلثي المجلس وبعد السماح لرئيس الجمهورية أن يشرح وجهة نظره أو يدافع عن نفسه قبل اتخاذ القرار.
خامساً: تقييم سلطات رئيس الجمهورية:
استعرضنا فيما سبق الصلاحيات التنفيذية والتشريعية والاستثنائية التي خولها دستور 1971 لرئيس جمهورية مصر العربية، والتي يتضح منها مدى اتساع سلطات الرئيس في النظام السياسي المصري الذي أقامه هذا الدستور. فلن يكون من قبيل المبالغة إذا خلصنا إلى أن الرئيس كان هو عماد النظام وركيزة الدولة، فقد جمع بين يديه سلطات هائلة تمكنه من الهيمنة على كافة مفاصل الدولة ومؤسساتها وتوجيه دفة العمل في أجهزته الإدارية والتنفيذية. وتدفعنا قراءتنا لاختصاصات الرئيس لمعاودة تأكيد ما بدأنها به هذا القسم، وهو أنه رغم وجود حكومة مسئولة تتكون من رئيس للوزراء وزراء، إلا أن دستور 1971 لم يقم توازناً في السلطات بين رئاسة الجمهورية والحكومة، فجعل الثانية تابعة للأولى التي ألقى على عاتقها بمسئوليات جسيمة وركز في يدها صلاحيات ضخمة دون أن يقرر لها مسئولية سياسية. وبالتالي، فإننا نعود ونكرر تحفظنا على اعتبار رئيس الجمهورية وفق دستور 1971 بمثابة حكماً بين السلطات، فكيف يكلف الرئيس الفعلي للسلطة التنفيذية والمهيمن على كيانها والموجه لأعمالها بالحكم في المنازعات التي قد تنشب بين السلطة التي يتولاها والسلطات الأخرى في الدولة. فهذا يخل إخلالاً جسيماً بفلسفة الفصل والتوازن بين السلطات.
أما فيما يتعلق بالسلطات الاستثنائية لرئيس الجمهورية، فإننا لم نجد لها مثيلاً ولا قريناً في دساتير أي دولة ديمقراطية، فقد تعددت هذه الصلاحيات الاستثنائية بل وتضاربت في بعض الأحيان، ففي الوقت الذي شرّعت المادتين 108 و147 لممارسة مجلس الشعب رقابة محدودة على الإجراءات التي يتخذها رئيس الجمهورية لمواجهة الحالات الاستثنائية، فتحت المادة 74 الباب على مصراعيه للرئيس لأن يتجاهل السلطة التشريعية برمتها وأن يتخذ أي خطوات يراها لازمة لمواجهة أي خطر يعتبره هو – دون رقيب – مهدداً لسلامة للوطن. وذلك كله في الوقت الذي جاءت المادة 148 الخاصة بحالة الطوارئ خالية من أي ضوابط أو معايير موضوعية تنظم الإجراءات التي يمكن للرئيس والسلطة التنفيذية ممارستها في إطار حالة الطوارئ وأحالت الأمر برمته للقانون، وهو ما تحول فعلياً وبالممارسة العملية إلى أداة تسلطية في يد الأجهزة الأمنية لإرهاب خصوم النظام وسيف مسلط على أي شكل من أشكال المعارضة الجدية للحاكم.
وحتى لا يدعي البعض بأننا غير واقعيين، فإننا لا نطالب بإلغاء كافة الصلاحيات الاستثنائية الموكلة للسلطة التنفيذية، فهذا غير منطقي وسيكبل يد أجهزة الدولة للقيام بعملها ومهامها، خاصة ما يرتبط بحفظ الأمن والاستقرار والتصدي لمخاطر الإرهاب المحدقة بمصر. وإنما ما ندعو له هو ترشيد هذه الاختصاصات والابتعاد عن جعلها مطلقة، وذلك بمنح السلطة التشريعية دور أكبر في إقرار وجود حالة تستدعي اللجوء لإجراءات استثنائية وفي مراجعة السلطة التنفيذية في الإجراءات التي تتخذها لمواجهة الأحوال الطارئة، وهذا كله مع وضع هذه الصلاحيات الاستثنائية تحت رقابة قضائية صارمة. وللتوضيح أكثر، ولإيجاز ما تضمنه هذا الجزء من توصيات محددة، فإننا نرى ما يلي:
1. إلغاء المادة 74 لما تتيحه للرئيس بلغتها المبهمة واتساع نطاقها من الالتفاف على السلطة التشريعية واتخاذ أي إجراءات يراها هو مناسبة لمواجهة أي حالة أو وضع يعتبره هو مهدداً لأمن وسلامة الوطن.
2. إدخال تعديلات طفيفة على المادة 108 لتقوية رقابة مجلس الشعب على سلطة الرئيس لإصدار قرارات لها قوة القانون. وبالتحديد، نوصي بالسمح لمجلس الشعب أن يلغي أو يراجع أو يعدل التفويض الممنوح للرئيس لإصدار هذه القرارات وذلك في أي وقت أثناء سريان التفويض. كما نوصي بأن يصبح من حق المجلس أن يعترض على أي قرار يتخذه الرئيس في إطار التفويض الممنوح له. باستثناء ذلك، فإننا نرى الإبقاء على ما ورد في المادة من ضمانات أخرى كاشتراط موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشعب على منح التفويض، وأن يمنح هذا التفويض في حالات الضرورة الاستثنائية فقط، مع إلزام الرئيس بعرض القرارات التي يتخذها على المجلس للموافقة عليها بعد انتهاء مدة التفويض.
3. مراجعة المادة 147 لجعلها تتواءم مع المادة 108 وذلك من خلال إلزام الرئيس بدعوة مجلس الشعب للاجتماع فوراً للنظر في القرارات التي اتخذها في غبية المجلس، وذلك حتى لو كان المجلس منحلاً. وإذا رأى الرئيس أنه يتعين أن الأوضاع الاستثنائية التي تمر بها البلاد تستلزم الاستمرار في إصدار قرارات لها قوة القانون، فله أن يطلب الحصول على تفويض بذلك من مجلس الشعب وفق المادة 108.
4. أما المادة 148، والخاصة بقانون الطوارئ، فقد فصّلنا مقترحاتنا بشأنها آنفاً. وترتكز مقترحاتنا على منح السلطة التشريعية صلاحيات رقابية أكبر فيما يتعلق بإعلان حالة الطوارئ والإجراءات المتخذة في إطارها. فأوصينا بالنص في الدستور – وليس في القانون كما هو قائماً الآن – على الأسباب الداعية لإعلان الطوارئ، واشتراط موافقة ثلثي البرلمان على إعلانها وعلى الإجراءات التي ستتخذ في إطارها، مع منح البرلمان حق إلغاء حالة الطوارئ، أو تعديل مدة سريانها، أو الإجراءات المتخذة، وذلك بموجب قرار بالأغلبية البسيطة، فضلاً عن تحديد مجموعة من الحقوق الأساسية التي لا مساس بها أثناء إعلان حالة الطوارئ، مع وضع الأمر برمته تحت الرقابة القضائية الصارمة للمحكمة الدستورية العليا.
الفرع الثاني: الحكومة:
ننتقل الآن لتناول وشرح صلاحيات الشريك الأصغر في السلطة التنفيذية، وهي الحكومة (أطلق دستور 1971 على مجلس الوزراء لفظ الحكومة). وسنستعرض في هذا القسم الاختصاصات التي كلف دستور 1971 الحكومة بالاضطلاع بها، ومن ثم نعرض أساليب تحديد مسئولية الحكومة.
أولا: اختصاصات الحكومة:
وردت هذه الاختصاصات في الفرع الثاني من الفصل الثالث من الباب الخامس من دستور 1971، والذي استُهل بتعريف الحكومة بأنها "الهيئة التنفيذية والإدارية العليا للدولة"، والتي تتكون من رئيس الوزراء ونوابه والوزراء ونوابهم. كما أناطت المادة 156 بالحكومة ممارسة مجموعة من الاختصاصات، هي: مشاركة الرئيس في وضع السياسة العامة للدولة والإشراف على تنفيذها، وتنسيق أعمال الوزارات والهيئات الحكومية، وإصدار القرارات الإدارية، وإعداد مشروعات القوانين، وإعداد مشروع الموازنة العامة للدولة، وملاحظة تنفيذ القوانين وحفظ الأمن وحماية حقوق المواطنين. كما وصف الدستور الوزير بأنها "الرئيس الإداري الأعلى لوزارته" وكلفه برسم سياسة الوزارة في حدود السياسة العامة للدولة.
وباستقراء هذه الاختصاصات، يتأكد من سبق وأن قلناه بشأن غياب التوازن بين جناحي السلطة التنفيذية وهما رئاسة الجمهورية والحكومة (أو مجلس الوزراء). وبالتالي، فنحن نوصي بالنظر في إشراك الحكومة في بعض الاختصاصات التي يتولاها الرئيس واشتراط موافقتها على بعض القرارات والإجراءات المخولة لرئيس الجمهورية. وبالتحديد، فنحن نقترح أن ينظر المشرع الدستوري أثناء إعداد الدستور المصري الجديد فيما يلي:
1. النص صراحة في الدستور على أن "يتولى كل من رئيس الجمهورية والحكومة السلطة التنفيذية على النحو المبين في الدستور"، بحيث يتم تقسيم المهام بينهما وتحدد الآليات والضوابط التي تحقق هدفين، أولهما التوازن فيما بين الرئاسة والحكومة وثانيهما تحقيق الفاعلية والسلاسة في العمل الجهاز التنفيذي؛ فنحن نحتاج في مصر لهذين الأمرين: تقويض صلاحيات مؤسسة الرئاسة وكبح جماحها مع تمكينها ومعها الحكومة من العمل بكفاءة وفاعلية لتقديم الخدمات للمواطنين.
2. اشتراط حصول حكومة على ثقة البرلمان قبل بدء عملها. أي أننا نرى أن يُبقيَ الدستور المقبل على حق رئيس الجمهورية في تعيين رئيس الوزراء، مع إضافة شرط هام يتمثل في ضرورة أن تحوز الحكومة على ثقة البرلمان قبل أن تباشر مهامها. وسيعني ذلك عملياً أن رئيس الجمهورية لن يختار رئيس الوزراء إلا بعد التشاور مع مجلس الشعب وبعد أخذ رأي الحزب أو الكتلة أو الائتلاف الحائز على أغلبية مقاعد المجلس، وهو ما سيقيم توازناً وندية أكبر بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وهو ما يختلف عما كان قائماً في ظل دستور 1971 الذي لم يتطلب سوى أن يعرض رئيس الوزراء برنامج حكومته على مجلس الشعب الذي يقوم بمناقشته دون أن يشترط الدستور حتى إقرار البرلمان للبرنامج.
3. اشتراط توقيع رئيس الحكومة على قرار رئيس الجمهورية بإصدار كل من اللوائح التنفيذية ولوائح الضبط.
4. إلغاء المادة 146 التي تمنح الرئيس حق إصدار قرارات إنشاء المرافق والمصالح العامة، وجعل إنشاء هذه الأجهزة بقانون تعده الحكومة ويحيله الرئيس إلى مجلس الشعب.
5. قصر سلطة الرئيس في تعيين موظفي الدولة على قيادات الوزارات والجهات السيادية، كقيادات القوات المسلحة والممثلين السياسيين للدولة بالخارج، على أن يتم ذلك وفق القوانين ذات الصلة وبعد التشاور مع رئيس الوزراء. أما بالنسبة للوظائف الأخرى في الدولة فيُترك لرئيس الوزراء اختيارهم وفق القوانين واللوائح المنظمة لذلك.
6. عدم تقدم الرئيس بطلب لإعلان حالة الطوارئ أو الحصول على تفويض من البرلمان لإصدار قوانين لها قوة القانون سوى بموافقة مجلس الوزراء، على أن تصدر القرارات الجمهورية الحائزة على قوة القانون بعد موافقة مجلس الوزراء.
ثانياً: المسئولية السياسية الحكومة:
انتهج دستور 1971 منهجاً نراه معيباً في تقرير مسئولية الحكومة. فقد أرست المادة 126 مبدأ المسئولية السياسية للوزراء بنصها على أن "الوزراء مسئولون أمام مجلس الشعب عن السياسة العامة للدولة، وكل وزير مسئول عن أعمال وزارته. ولمجلس الشعب أن يقرر سحب الثقة من أحد نواب رئيس مجلس الوزراء أو أحد الوزراء أو نوابهم، ولا يجوز عرض طلب سحب الثقة إلا بعد استجواب، وبناء على اقتراح عُشر أعضاء المجلس. ولا يجوز للمجلس أي يصدر قراره في الطلب قبل ثلاثة أيام على الأقل من تقديمه. ويكون سحب الثقة بأغلبية أعضاء المجلس".
أما بالنسبة لمسئولية الحكومة بأكملها، فقد أتاح الدستور "لمجلس الشعب أن يقرر بناء على طلب عشر أعضائه مسئولية رئيس مجلس الوزراء، ويصدر القرار بأغلبية أعضاء المجلس. ولا يجوز أن يصدر هذا القرار، إلا بعد استجواب موجه إلى الحكومة وبعد ثلاثة أيام على الأقل من تقديم الطلب. وفي حالة تقرير المسئولية يُعد المجلس تقريراً يرفعه إلى رئيس الجمهورية متضمناً عناصر الموضوع وما انتهى إليه من رأي في هذا الشأن وأسبابه. ولرئيس الجمهورية أن يرد التقرير إلى المجلس خلال عشرة أيام، فإذا عاد المجلس إلى قراره من جديد جاز لرئيس الجمهورية أن يعرض موضوع النزاع بين المجلس والحكومة على الاستفتاء الشعبي. ويجب أن يجري الاستفتاء خلال ثلاثين يوماً من تاريخ الإقرار الأخير للمجلس، وتوقف جلسات المجلس في هذه الحالة. فإذا جاءت نتيجة الاستفتاء مؤيدة للحكومة اعتبر المجلس منحلاً، وإلا قبل رئيس الجمهورية استقالة الحكومة".
ومن جانبنا، نرى أن هذا النص انتابه عوار شديد يؤدي واقعياً إلى استحالة سحب الثقة من الحكومة، ويحيّد أحد أهم أدوات السلطة التشريعية في الرقابة على السلطة التنفيذية، ألا وهي سحب الثقة. وتتمثل أهم مثالب المادة آنفة الذكر في أنها جعلت من رئيس السلطة التنفيذية حكماً في نزاع بين هذه السلطة التي يرأسها هو والسلطة التي يفترض أن تراقبها، وهي السلطة التشريعية. كما أن الدستور لم يلزم الحكومة بالاستقالة إذا سحب البرلمان ثقته فيها، وإنما نص على إحالة الأمر للرئيس الذي ترك له أن يتخذ ما يراه بشأن قرار مجلس الشعب، بما في ذلك بأن يقرر رد الأمر للمجلس مجدداً لإعادة النظر فيه. وحتى لو أعاد البرلمان تقرير سحب الثقة من الحكومة للمرة الثانية فإن الدستور لم يلزم الحكومة بالاستقالة، وإنما أجاز للرئيس (أي لم يلزمه) بالدعوة لإجراء استفتاء شعبي حول النزاع بين الحكومة والبرلمان.
وخلاصة القول أن هذا النظام المعقد لتقرير مسئولية الحكومة يعد إهداراً لمبدأ الفصل والتوازن بين السلطات ويؤدي عملياً لاستحالة سحب البرلمان للثقة من الحكومة وإسقاطها، وهو ما نعتبره إهداراً لفلسفة المسئولية التضامنية للوزارة. لذا، فإننا نوصي بإلغاء المادة 127 برمتها واستبدلها بنص بسيط يمنح البرلمان حق سحب الثقة من الحكومة واعتبار الأخيرة مستقيلة بمجرد صدور قرار من مجلس الشعب بالأغلبية البسيطة، وهو ما يماثل ما نصت عليه أغلب الدساتير المصرية السابقة على دستور 1971.
1. السلطة التشريعية: مجلس الشعب:
يعد البرلمان أداة للتعبير عن ضمير الأمة ويوفر منبراً للتيارات والتوجهات التي يزخر بها أي مجتمع للتعبير عن رأيها في مستقبل الأمة ومصيرها. وبالتالي، تعد السلطة التشريعية من أهم دعائم الديمقراطية الحديثة، ودرع يقي الشعوب من سيف تسلط الحكومات واستبدادها. وفي إطار استعراضنا لما جاء به دستور 1971 من نصوص بشأن السلطة التشريعية وكيفية تنظيم عملها واختصاصاتها، فإننا سنتناول في هذا القسم موضوعين نرى أنهما الأكثر إلحاحاً في المرحلة المقبلة والأجدر بأن يكونا موضع نقاش وحوار مجتمعي معمق لما تمثله من أهمية لمستقبل الهيئة النيابة المصرية، هي: شروط عضوية مجلس الشعب، واختصاصات مجلس الشعب.
أولاً: شروط عضوية مجلس الشعب:
يموج المشهد السياسي المصري منذ قيام ثورة 25 يناير 2011 بالمزيد من النقاشات حول المستقبل السياسي للبلاد. وتعد مسألة تشكيل وعضوية مجلس الشعب من أكثر القضايا إثارة للجدل، حيث تعددت الآراء ووجهات النظر بشأن شروط العضوية في البرلمان المصري ومدى ملاءمة الإبقاء على بعض المبادئ التي ورثناها من دستور 1971 وما قبله. ويتركز الحوار المجتمعي حول أمرين رئيسيين هما: تحديد النظام الانتخابي الأمثل، ومراجعة شرط أن يكوّن نصف البرلمان من العمال والفلاحين. وسنؤجل بحث أولى هذين الموضوعين إلى الفصل (رقم) المتعلق بإقامة حياة ديمقراطية سليمة في مصر، وذلك لكونه في المقام الأول موضوع سياسي وقانوني لا دستوري، فيما نتعرض هنا لنصوص دستور 1971 الخاصة بشروط العضوية في مجلس الشعب.
حددت المواد 87 و88 و89 من دستور 1971 شروط العضوية في مجلس الشعب، حيث قرر المشرع الدستوري في المادة 88 أن يترك للمشرع العادي تحديد الشروط الواجب توافرها فيمن يترشح للمجلس. وقد صدر القانون رقم 38 لسنة 1972 لتفصيل المؤهلات المطلوب أن تتوافر للمرشح لعضوية مجلس الشعب. وأوجب هذا القانون أن يتمتع المرشح لعضوية المجلس بالمواصفات الآتية:
1. أن يكون مصرياً من أب مصري. ومرد ذلك هو استبعاد من تجنسوا بالجنسية المصرية. ونحن نرى أنه من المهم أن يعاد النظر في هذه المادة لمنح حاملي الجنسية المصرية من أم مصرية حق الترشح للبرلمان المصري في المستقبل.
2. أن يكون أسمه مقيداً في أحد جداول الانتخاب. والمقصود بهذا الشرط هو استبعاد من لا يحق لهم ممارسة حقوقهم السياسية من الترشح لعضوية المجلس، فليس من المتصور أن يسمح لشخص محروم من الانتخاب أصلاً أن يكون مرشحاً لعضوية البرلمان.
3. ألا يقل سن المرشح عن 30 سنة.
4. أن يجيد القراءة والكتابة.
5. أداء الخدمة العسكرية الإلزامية أو أعفي منها.
ثم جاءت المادة 87 لتشترط ألا تقل نسبة العامل والفلاحين في مجلس الشعب عن 50%، وهي المادة التي أثارت لغطاً ونقداً شديدين وأحدثت قدراً من الاستقطاب في المجتمع، فرأى العديد من الفقهاء الدستوريين أنها تُعد مخالفة لمبدأ عدم التمييز بين المواطنين لكونها تفضل فئة بعينها على فئات المجتمع الأخرى، فيما انتقدها بعض المثقفين لما يرون فيها من استبعاد أو تهميش للنخبة المتعلمة من العمل البرلماني، واعتبرها سياسيون أنها كانت وسيلة يوظفها الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم سابقاً لإحكام قبضته على الحياة النيابية في مصر. وفي المقابل، أصرت بعض القوى الفاعلة في المجتمع، ومنها منظمات نقابية، على الإبقاء عليها لما تمثله هذه المادة من تعبير عن الحقوق المشروعة للعمال والفلاحين، فيما وصف البعض – وفي مقدمتهم المجلس الأعلى للقوات المسلحة – هذا الشرط الوارد في دستور 1971 بأنه أحد مكاسب ثورة 1952، الأمر الذي استلزم الإبقاء عليها في الإعلان الدستوري الذي أصدرته القوات المسلحة يوم 30 مارس 2011. وبين هذا الرأي وذاك، نرى أن إبداء الرأي السديد بشأن نسبة 50% عمال وفلاحين يتطلب أولاً التعرف على من هو العامل والفلاح، وثانياً دراسة الظروف التاريخية التي أنجبت هذا الشرط الذي لا مثيل له في دساتير الدول الديمقراطية. وقد تصدت المادة 2 من القانون 38 لسنة 1972 لتعريف العمال والفلاحين، حيث قالت أنه "يقصد بالفلاح من لا يحوز هو وأسرته أي زوجته وأولاده القصر أكثر من عشرة أفدنة، على أن تكون الزراعة مصدر رزقه وعمله الوحيد وأن يكون مقيماً في الريف. ويقصد بالعامل من يعمل يدوياً أو ذهنياً في الصناعة أو الزراعة أو الخدمات، ويعيش من دخله الناتج عن هذا العمل، ولا يحق له الانضمام إلى نقابة مهنية، ولا يكون من خريجي الجامعات أو المعاهد أو الكليات العسكرية. ويستثنى من ذلك من بدأ حياته عاملاً وحصل على مؤهل جامعي وقى في نقابته العمالية".
أما بالنسبة للظرف التاريخي الذي واكب اشتراط تكوين نصف البرلمان من العامل والفلاحين والفلسفة التي ارتكنت إليها هذه الفكرة، فسيُدهش القارئ عندما يعرف أن ثورة يوليو 1952 لم تتبن في بادئ الأمر هذا المبدأ، وإنما ظهرت هذه الفكرة بعد قيام الثورة بعقد كامل، أي في عام 1962 وثم ترجمت إلى مبدأ دستوري في المادة 49 من دستور 1964. وقد شرح الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مقاصد منح العمال والفلاحين أفضلية نسبية في تكوين البرلمان في الميثاق الوطني الذي أصدره في 1962، حيث قال الرئيس:
"إن مصر وقعت بعد الحركة الشعبية سنة 1919 في الخديعة الكبرى للديمقراطية المزيفة، واستسلمت القيادات الثورية – بعد أول اعتراف من الاستعمار باستقلال مصر – إلى ديمقراطية الواجهات الدستورية التي لا تحتوي على أي مضمون اقتصادي. إن ذلك لم يكن ضربة شديدة ضد الحرية في صورتها الاقتصادية فقط؛ وإنما ما لبثت الضربة أن وصلت إلى هذه الواجهة السياسية الخارجية ذاتها؛ فإن الاستعمار لم يقم وزناً لكلمة الاستقلال المكتوبة على الورق؛ ولم يتورع عن تمزيقها في أي وقت وفقاً لمصالحه ... إن ذلك كان أمراً طبيعياً ... إن واجهة الديمقراطية المزيفة لم تكن تمثل إلا ديمقراطية الرجعية؛ والرجعية ليست على استعداد لأن تقطع صلتها بالاستعمار، أو توقف تعاونها معه؛ ولذلك فقد كان المنطق الطبيعي – بصرف النظر عن الواجهات الخارجية المزيفة – أن نجد الوزارات في عهد ديمقراطية الرجعية وفي ظل ما كان يسمى بالاستقلال الوطني؛ لا تستطيع أن تعمل إلا بوحي من ممثل الاستعمار الرسمي في مصر، بل أنها ف بعض الأحيان لم توجد إلا بمشورته وبأمره، بل وصل الحال في إحدى المرات أنها جاءت إلى الحكم بدباباته ...إنه من الحقائق البديهية التي لا تقبل الجدل أن النظام السياسي في بلد من البلدان ليس إلا انعكاساً مباشراً للأوضاع الاقتصادية السائدة فيه، وتعبيراً دقيقاً للمصالح المتحكمة في الأوضاع الاقتصادية، فإذا كان الإقطاع هو القوة الاقتصادية التي تسود في بلد من البلدان؛ فمن المحقق أن الحرية السياسية في هذا البلد لا يمكن أن تكون غير حرية الإقطاع لأنه يتحكم في المصالح الاقتصادية ويملي الشكل السياسي للدولة ويفرضه خدمة لمصالحه ...إن تحالف الرجعية ورأس المال المستغل يجب أن يسقط، ولابد أن ينفسح المجال بعد ذلك ديمقراطياً للتفاعل الديمقراطي بين قوى الشعب العاملة؛ العمال والفلاحين والجنود والمثقفين والرأس المالية الوطنية ... [لذلك] عن التنظيمات الشعبية والسياسية التي تقوم بالانتخاب الحر المباشر لابد لها أن تمثل بحق وبعدل القوى المكونة للأغلبية؛ وهي القوى التي طال استغلالها، والتي هي صاحبة مصلحة عميقة في الثورة ... ومن هنا فإن الدستور الجديد يجب أن يضمن للفلاحين والعمال نصف مقاعد التنظيمات الشعبية والسياسية على جميع مستوياتها".
وباستقراء ما تقدم، يتضح أن مبررات الرئيس الراحل عبد الناصر لاشتراط تخصيص نصف مقاعد البرلمان للعمال والفلاحين تتلخص في القضاء على الطبقة الأرستقراطية الإقطاعية التي حكمت مصر قبل 23 يوليو 1952 والتي هيمنت على المشهد السياسي وعلى الأحزاب في البلاد، والتي كان يرى الرئيس أنها أفسدت الحياة السياسية وتحالفت – وفق قراءته للتاريخ – مع الاستعمار لخدمة مصالحها، فضلاً عن رغبته في تغيير الخريطة الاقتصادية لمصر وإحداث ثورة اجتماعية شاملة تنقل مصر بخطى أوثق نحو الاشتراكية، والانحياز لطبقة عانت التهميش والاستغلال على أياد الأقلية الثرية من المصريين. ويضاف إلى ذلك رغبة النظام في ترسيخ وتعزيز دعائمه في المجتمع وتوسيع وتعميق قاعدته الشعبية بعدما تعرض لهزة عنيفة بانفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة في أوائل 1962.
ومن هنا، فإننا نتساءل، هل المنعطف التاريخي الذي تمر به مصر اليوم يشبه اللحظة التي أفرزت فكرة تخصيص نصف البرلمان للعمال والفلاحين؟ وهل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أوقدت ثورة 25 يناير تماثل المظالم المجتمعية التي بررت ما جاء به ميثاق 1962؟ وهل أدت سياسيات الميثاق للارتقاء بحال فلاحي وعمال مصر؟ وهل صُممت أفكار 1962 لتكون أبدية، أم أنها جاءت لعلاج اعوجاج معين شاب بنيان المجتمع المصري؟ وهل من المنطقي ونحن في العقد الثاني من الألفية الثالثة أن يشترط القانون أن يكون نصف مشرعي الأمة من غير حاملي المؤهلات العالية؟ كل هذه التساؤلات تدفعنا لضم صوتنا للمنادين بإلغاء شرط تكوين نصف البرلمان من العمال والفلاحين، وذلك للاعتبارات الآتية:
1. من الناحية النظرية البحتة، فإن عضو البرلمان يفترض أن يكون ممثلاً للأمة بأسرها، وليس معبراً عن فئة أو جماعة أو شريحة اجتماعية بعينها – كالعمال والفلاحين. ونحن نعي تماماً أن قسماً من مهام البرلمانيين هو تمثيل دوائرهم والتعبير عن آراء ناخبيهم ورعاية مصالحهم، إلا أن هذا الشق من العمل النيابي لا يجب أن يطغى على الهدف الأعم والأسمى لعضوية البرلمان، ألا وهو التشريع وسن القوانين، وهو ما يتطلب أخذ مصالح الأمة بكامل عناصرها وطوائفها بعين الاعتبار.
2. قانونياً، يخل مبدأ 50% عمال وفلاحين بقاعدة المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، فكيف يشرّع الدستور لمحاباة الدولة لجماعة بعينها وكيف يقيم الدستور تمييزاً منهجياً لصالح فئة على حساب فئات وطبقات الأخرى في المجتمع.
3. أما تاريخياً، فإنه رغم غياب العدالة الاجتماعية في مصر ما قبل ثورة 1952 واتساع الفوارق بين الطبقات، فإن العمال والفلاحين لم يحرموا قانوناً من الترشح لمجلس النواب ولم تحجب عنهم حقوقهم السياسية. هذا بالطبع لا ينقص ولا ينفي حقيقة تهميش هذه الطبقات الكادحة التي لم تحظ بالقدر الكافي من الرعاية من قبل المجتمع.
4. وواقعياً، فرغم ما تحقق من إنجازات وما اتخذت من إجراءات لتحسين أوضاع الفلاح والعامل المصريين، إلا أن هذه الطبقات مازالت لا تتمتع بالمستوى الملائم من المعيشة الذي كان يفترض أن يحققه نظام سياسي انحاز – نظرياً – للعمال والفلاحين. فلم تنهض الدولة بالشكل المطلوب بمستوى الخدمات في الريف، ولم تحقق نقلة نوعية في مستوى التعليم وأخفقت في الارتقاء بمؤشرات الصحة ومعدلات النمو في أوساط هؤلاء المصريين، الأمر الذي يدفعنا للقول أن اشتراط أن يتكون البرلمان من 50% من العامل والفلاحين أثبت عدم جدواه كوسيلة لتحسين حال ومعيشة عمال وفلاحي مصر.
5. أما زمنياً، لم يُصمم شرط أن يكون نصف أعضاء البرلمان من العمال والفلاحين ليكون أبدياً، ذلك لأنه يندرج تحت ما يعرف بالتمييز الإيجابي (أو الـ Affirmative Action كما عرف في الغرب) الذي يهدف لمعاونة ومساعدة طبقة أو شريحة مجتمعية أو جماعة أثنية أو عرقية عانت في أزمان وحقب فائتة من تمييز واضطهاد على يد جماعة أخرى، الأمر الذي يتطلب أن تتيح الدولة لهذه الطبقة فرصة أكبر للحاق بباقي شرائح المجتمع من خلال التمييز الإيجابي لصالحها. إلا أن هذه الإجراءات لا تكون دائمة، وإنما تنتهي بزوال الفوارق وبتأهيل الجماعة التي حظيت بالمعاملة التفضيلية وإعدادها للمشاركة بفاعلية في المجتمع على أساس من المساواة مع باقي الشرائح. وبالنسبة لمصر، فإننا نرى أن اعتبار شرط 50% عمال وفلاحين من "مكاسب ثورة يوليو 1952" يوحي ويومئ بأن هذا شرط لا يجوز المساس به، وهو ما لا يستقيم مع كونه إجراء وقتي مؤقت يتعين أن يزول بزوال الظرف التاريخي الذي جاء لمعالجته، والمتمثل في سيطرة قوى الرجعية والإقطاع على السياسة والاقتصاد في البلاد وتعاون الطبقة الحاكمة مع الاحتلال والاستعمار الأجنبيين – وهو ما نرى أنه انتهى بالفعل.
6. وحتى مستقبلياً، فإننا لا نتصور أن يبقي الدستور جديد الذي سينقل الأمة المصرية إلى آفاق المستقبل على نص يشترط أن يكون نصف مشرعي مصر من غير حاملي الشهادات الجامعية، فكيف نتوقع ممن لم تتح لهم فرصة الإطلاع على ما حققه العالم من نهضة فكرية وثقافية وعلمية أن يقودوا مصر في مسيرة بناء دولة حديثة ومتطورة وناهضة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.
7. وأخيراً، فإذا كان المصريون قد عانوا قبل ثورة 1952 من استئثار طبقة بعينها بالسياسة وبالاقتصاد وبمقدرات البلاد، وهو ما قامت حركة الجيش لتغييره وأيدته الجماهير فيه، فإن المصريين الذين ثاروا في 25 يناير 2011 لم ينتموا لطبقة أو فئة بعينها. بل قاد الثورة شباب مصر الراغب في خلق مستقبل أفضل لنفسه وثم انضمت لهم جموع المصريين بأقباطهم ومسلميهم، وبفقرائهم وأغنيائهم، وبالمتعلمين والأميين، الأمر الذي يعني أننا أمام لحظة تاريخية مفصلية يتعين أن تفرز مؤسسات وهياكل سياسية تعي أخطاء الماضي وتتلافاها وتعكس متطلبات الحاضر وتؤهلنا لتحقيق آمال المستقبل وطموحاته.
بالإضافة لقضية تكوين نصف البرلمان من العامل والفلاحين، نرى أنه يتعين أن يعيد المشرع الدستوري النظر في المادة 89 من دستور 1971 التي تجيز "للعاملين في الحكومة وفي القطاع العام أن يرشحوا أنفسهم لعضوية مجلس الشعب". ذلك لما يمثله السماح لموظفي الدولة المصرية ولأعضاء أجهزتها الإدارية والبيروقراطية بالانضمام للبرلمان من إخلال خطير بمبدأ الفصل والتوازن بين السلطات، ويحد من قدرة البرلمان في الاستقلال بإرادته وأن يذود عن نفسه من تدخل الجهات الإدارية في عمله، فكيف يتسنى لعضو في البرلمان أن يحاسب وزيراً أو مسئولاً حكومياً يكون عضو البرلمان موظفاً تابعاً له؟ لذا، فإننا ندعو لحذف هذه المادة من الدستور المقبل، وأن ينص في قانون مباشرة الحقوق السياسية على عدم جواز أن ينضم موظفي الجهاز الإداري بالدولة إلى البرلمان لما يمثله ذلك من تعارض بين وظائفهم وعملهم النيابي بما يعد إخلالاً بمبدأ الفصل بين السلطات.
ويبقى لنا موضوع أخير نود تناوله في هذا الجزء المتعلق بعضوية مجلس الشعب، ألا وهو آلية الطعن في نتائج الانتخابات وفي عضوية مجلس الشعب، والتي كانت مثار جدل واسع في المجتمع. ونظمت المادة 93 من دستور 1971 هذا الموضع بنصها على أن "يختص المجلس بالفصل في صحة عضوية أعضائه. وتختص محكمة النقض بالتحقيق في صحة الطعون المقدمة إلى المجلس بعد إحالتها إليها من رئيسه". وقد عرف مبدأ استقلال مجلس الشعب بالفصل في صحة عضوية أعضائه شعبياً بـ "سيد قراره"، أي أن المجلس لا سلطان عليه في تقرير صحة عضوية من انتخبوا لعضويته. وتعرض هذا المبدأ لنقد لاذع نظراً لكونه وضع سلطة البت في صحة الانتخابات البرلمانية في يد جهة غير محايدة لديها مصلحة سياسية في نتائج الانتخابات وتشكيل البرلمان.
تعود فكرة منح البرلمان سلطة التحقيق في سلامة عضوية أعضائه للقرن التاسع عشر، حيث كانت المجالس النيابية في فرنسا والمملكة المتحدة تتمتع بصلاحية البت في الطعون الانتخابية، وذلك إعمالاً لنظرية سيادة البرلمان والتي تقضي أنه لا يحق لأي جهة أو سلطة في الدولة أن تراجع قرارات البرلمان أو أن تتدخل في عمله حفاظاً على استقلاليته لكونه المعبر عن الإرادة الشعبية. إلا أنه هذا المنهج تم تنحيته جانباً منذ منتصف القرن التاسع عشر، حيث أناطت الدول الأوروبية بالسلطات القضائية مسئولية النظر في الطعون المقدمة في نتائج الانتخابات البرلمانية. فأصدرت بريطانيا قانوناً في 1868 يمنح المحكمة العليا حق تلقي الطعون الانتخابية وإصدار أحكام واجبة النفاذ بشأنها.
أما في مصر، فقد أخذ دستور 1923 بفكرة تولي البرلمان سلطة البت في الطعون الانتخابية. إلا أن المشرع المصري أعاد النظر في هذا الأمر وأصدر القانون رقم 141 لسنة 1951 والذي أوكل إلى محكمة النقض – بوصفها أعلى محكمة في البلاد – سلطة الفصل في صحة العضوية البرلمانية. وللأسف لم تأخذ الدساتير الجمهورية المصرية بهذا النهج، وإنما أعادت صلاحية البت في الطعون الانتخابية بالكامل إلى البرلمان، وإن كان دستور 1971 قد كلف محكمة النقض ببحث الطعون المقدمة وإصدار تقرير بشأنها يحال لمجلس الشعب ليتخذ ما يراه، أي أن هذه التقارير لم تكن ملزمة للمجلس. ولحسن الحظ، جاءت المادة 40 من الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 30 مارس 2011 بنص يعيد لمحكمة النقض سلطة البت في الطعون الانتخابية وإصدار أحكام ملزمة بشأنها، وهو المبدأ الذي نراه صائباً ويتعين الإبقاء عليه في الدستور المصري الجديد. ونود، في هذا الصدد، التنويه إلى أن الأخذ بهذا النص، بما ينطوي عليه من رقابة قضائية على صحة العضوية البرلمانية، لا يخل بمبدأ الفصل بين السلطات، حيث أن التأكد من صحة وسلامة العملية الانتخابية يعد من الأعمال السابقة على تكوين المجلس التشريعي، أي أنه لا يعد تدخلاً في عمل البرلمان. كما أن السلطة القضائية تتمتع بالفعل بحق الرقابة على أعمال السلطة التشريعية من خلال رقابة المحكمة الدستورية العليا على التشريعات التي يقرها مجلس الشعب.
ثانياً: اختصاصات مجلس الشعب:
نعرض في هذا القسم للمهام التي أوكلها دستور 1971 للبرلمان المصري، وذلك لتعريف القارئ بأهم الوظائف التي يفترض أن يؤديها البرلمان والأدوات المتاحة لهذه المؤسسة لتأدية وظيفتها. كما سنطرح بعض أفكارنا وتصوراتنا لكيفية النهوض بالهيئة النيابية في مصر وتمكينها بالاضطلاع بدور أكبر في الحياة السياسية المصرية في المستقبل. وسنبدأ بالوظائف التشريعية لمجلس الشعب، وثم نستعرض اختصاصاته المالية، ونختم هذا الجزء بعرض أدوات رقابته على السلطة التنفيذية.
وإذا بدأنا بالوظيفة الرئيسية والأساسية لمجلس الشعب، وهي التشريع وسن القوانين، فسنجد أن دستور 1971 جعلها في طليعة مواده المتعلقة بالمجلس، حيث نصت المادة 86 على أن "يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع"، وثم أضافت هذه المادة لمهام المجلس بالإشارة إلى أنه "يقرر السياسة العامة للدولة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والموازنة العامة للدولة، كما يمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية". وتفعيلاً لكون مجلس الشعب هو المعني أساساً بسلطة التشريع جاءت المادة 109 لتتيح لجميع أعضاء المجلس أن يتقدموا بمشروعات قوانين. وكما أشرنا عند شرحنا للمهام التشريعية لرئيس الجمهورية، فإن إجراءات طرح مشروعات القوانين من قبل أحد أعضاء مجلس الشعب تختلف قليلاً عما هو متبع بالنسبة للقوانين المقدمة من الرئيس، فيتعين أن يحال المشروع إلى لجنة خاصة لدراسته قبل إحالته للجنة المختصة بموضوع المشروع لمناقشته، وذلك لما تتمتع به السلطة التنفيذية من قدرات وإمكانات تتيح لها دراسة مشروعات القوانين وإعدادها بالشكل الملائم للعرض على السلطة التشريعية، وهي القدرات التي عادة ما لا تكون متاحة لأعضاء البرلمان. وفي هذا الإطار، فإننا نقترح أن ينظر مجلس الشعب في المستقبل في إنشاء جهاز للمعلومات والأبحاث لمعاونة نواب الشعب في أداء عملهم. فعلى سبيل المثال، أمر الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون في 1914 بإنشاء مركز أبحاث الكونجرس (Congressional Research Service) ليخدم أعضاء مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين ويوفر لهم كافة المعلومات ذات الصلة بمجالات عمل الكونجرس، بما فيها الأبحاث تاريخية وسياسية واقتصادية وإحصاءات وتحليلات، كما تتعدى مهمة هذا المركز مجرد تجميع المعلومات لتشمل تحليل وتقييم الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المطروحة على الساحة والتي تهم أعضاء الكونجرس، مما يساعدهم في تكوين آراء ومواقف على أسس علمية مدروسة.
بالإضافة إلى هذا الاختصاص التشريعي العام، أناط الدستور بالبرلمان مسئولية المصادقة على طوائف معينة من المعاهدات التي تبرمها مصر مع الدول والهيئات الدولية، وهي تلك التي تتصل بالصلح أو التحالف أو التجارة أو الملاحة، فضلاً عن كافة الاتفاقيات التي تنطوي على تعديل أراضي الدولة أو المرتبطة بحقوق السيادة أو التي تحمل خزانة الدولة النفقات لم ترد في الموازنة العامة التي وافق عليها المجلس. وبالنسبة لهذه الاتفاقيات، فإنها لا تسري ولا تحدث أثر قانوني إلا بعد موافقة مجلس الشعب عليها. أما الاتفاقيات الأخرى التي ليست ضمن تلك التي اشترطت المادة 151 موافقة مجلس الشعب لسريانها، فيحق لرئيس الجمهورية أن يبرمها دون موافقة المجلس، وإن ألزمت الرئيس بإبلاغ المجلس بعقد هذه الاتفاقيات. ونحن نرى أنه من الأوفق أن يأتي الدستور الجديد بشرط عام يسري في مواجهة كافة الاتفاقيات الدولية بغض النظر عن نوعها أو الغرض منها تلزم السلطة التنفيذية بموجبه بإحالة جميع المعاهدات الدولية إلى البرلمان للمصادقة عليها قبل أن تسري، وذلك تفادياً لتكرار ما حدث إبان توقيع بروتوكول تصدير الغاز الطبيعي المصري لإسرائيل، حيث جاءت الاتفاقية في شكل مذكرة تفاهم وتحججت الحكومة بكونها اتفاقية من النوع البسيط التي لا يشترط الدستور موافقة مجلس الشعب عليها لبدء العمل بها.
أما بالنسبة لرقابة مجلس الشعب على أداء وعمل السلطة التنفيذية، وهو من أهم مهام السلطة التشريعية ومن أبرز ملامح وتطبيقات مبدأ التوازن بين السلطات الذي تتأسس عليه نظم الحكم الديمقراطية، فقد حدد الدستور وبعض القوانين المكملة له الأدوات المتاحة للبرلمان لممارسة هذه السلطة، وهو ما نستعرضه فيما يلي. أولى هذه الوسائل المخصصة لمجلس الشعب لمتابعة عمل الحكومة ومحاسبتها هو "السؤال"، حيث نصت المادة 124 من دستور 1971 على أنه "لكل عضو من أعضاء مجلس الشعب أن يوجه إلى رئيس مجلس الوزراء أو أحد نوابه أو أحد الوزراء أو نوابهم أسئلة في أي موضوع يدخل في اختصاصاتهم. وعلى رئيس مجلس الوراء أو نوابه أو الوزراء أو من ينيبونه الإجابة عن أسئلة الأعضاء. ويجوز للعضو سحب السؤال في أي وقت ولا يجوز تحويله في نفس الجلسة إلى استجواب". ويتضح من هذا النص أن السؤال يعد استفساراً يوجهه أحد أعضاء المجلس إلى من يرى أنه معني بالموضوع. وقد يكون هدف السؤال الاستعلام عن رأي المسئول الحكومي الموجه له السؤال في موضوع يهم عضو البرلمان، أو قد يكون الغرض هو لفت الانتباه إلى الموضوع محل السؤال واسترعاء انتباه الحكومة إلى اهتمام البرلمان بالموضوع. ويفسر الفقهاء الدستوريين هذه المادة بأنها تقيم علاقة ثنائية بين عضو مجلس الشعب الذي وجه السؤال والمسئول الحكومي الذي تلقى السؤال، أي أن هذه المادة لا تسمح بإدخال باقي أعضاء البرلمان في النقاش ولا تفتح الموضوع محل السؤال للتداول في المجلس. لذا، فإننا نقترح أنه يمكن مستقبلاً أن تنص اللائحة الداخلية وقواعد الإجراءات لمجلس الشعب على تعميم الأسئلة الموجهة من أعضاء مجلس الشعب والردود التي ترد إليها من الحكومة على جميع أعضاء المجلس وإتاحتها للإعلام وللجمهور، إلا إذا ارتأى المجلس إبقائها سرية لدواعي سياسية أو أمنية.
منحت المادة 194 من اللائحة الداخلية لمجلس الشعب الحق لأعضائه أن يوجهوا طلبات إحاطة للوزراء أعضاء الحكومة للتعرف على رأييهم بشأن موضوعات تدخل ضمن اختصاص المسئول الذي وجه إليه طلب الإحاطة. وتنص المادة 196 من اللائحة الداخلية على أنه لعضو المجلس المتقدم بطلب الإحاطة أن يتلو بياناً في المجلس حول الموضوع محل الطلب وللوزير أو المسئول المعني بهذا الطلب أن يرد على الطلب في نفس الجلسة. وبالإضافة لتوجيه الأسئلة وطلبات الإحاطة، أجاز الدستور لعشرين من أعضاء مجلس الشعب أن يطلبوا إجراء مناقشة في البرلمان حول أي موضوع عام، ويكون الغرض من هذه المناقشات هو تبادل الرأي بين القوى السياسية الممثلة في البرلمان حول قضية معينة والتعرف على رأي الحكومة بشأنها.
أما رابع الأدوات المتاحة لأعضاء مجلس الشعب لمحاسبة الحكومة على أدائها، فهي الاستجوابات، والتي جاءت في المادة 125 من دستور 1971. وتختلف هذه الأداة عن الأسئلة وطلبات الإحاطة في أن هذين الوسيلتين يعبران عن رغبة عضو مجلس الشعب في التعرف على موقف الحكومة أو الوزير المختص في أمر معين، دون أن يرتبط الأمر بالضرورة بمساءلة أو محاسبة مباشرة. أما الاستجواب، فإنه يحمل في طياته شيئاً من الاتهام وقدراً من النقد لأداء الحكومة ويطلب من ممثلها أن يبرر سياسة السلطة التنفيذية وأن يشرح للبرلمان أسباب ودواعي الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في موضوع معين، وهو ما نصت عليه المادة 125 صراحة بقولها أن الغرض من توجيه الاستجوابات لرئيس الوزراء وأعضاء الحكومة هو "لمحاسبتهم في الشئون التي تدخل في اختصاصاتهم". ويمتاز الاستجواب كذلك بكونه يتخطى حدود العلاقة الثنائية التي يقيمها السؤال بين عضو البرلمان وممثل الحكومة، حيث يحق لجميع أعضاء مجلس الشعب المشاركة في النقاش حول الاستجواب. ويشترط الدستور أن يجرى النقاش حول الاستجواب بعد 7 أيام على الأقل من طرحه، إلا في حالات الضرورة التي يقررها المجلس.
إضافة لما تقدم من وسائل، يحق لمجلس الشعب وفق المادة 131 من الدستور أن ينشئ لجان بغرض "فحص نشاط إحدى المصالح الإدارية والمؤسسات العامة، أو أي جهاز تنفيذي أو إداري، أو أي مشروع من المشروعات العامة، وذلك من أجل تقصي الحقائق، وإبلاغ المجلس بحقيقة الأوضاع المالية أو الإدارية أو الاقتصادية أو إجراء تحقيقات في أي موضوع يتعلق بعمل من الأعمال السابقة". ويفهم من هذا النص أنه يحق للمجلس أن ينشئ لجنة من أعضائه أو أن يكلف لجنة من لجانه القائمة للتحقيق في واقعة ما أو فحص أساليب عمل إحدى الهيئات الحكومية أو الأجهزة التنفيذية، وهو ما تم في أكثر من مناسبة، منها مثلاً اللجنة التي نظرت في واقعة غرق العبارة "السلام 98". وما يستوقفنا بشأن هذا النص هو أن الدستور لم يحدد مآل التقارير التي تعدها لجان تقصي الحقائق البرلمانية، والجهة التي ستعرض عليها، حيث نخشى من أن يكون نص دستور 1971 قد مكّن الحكومة من تجاهل هذه التقارير. لذلك، فإننا نوصي بأن يدرج الدستور الجديد للبلاد نص يضمن التفات الحكومة إلى هذه التقارير وأن تأخذها بعين الاعتبار. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يلزم الدستور الحكومة بأن تطلع على تقرير لجان مجلس الشعب وأن تعد رداً مكتوباً عليه، أو يمكن أن يستلزم الدستور أن مثول الوزير المختص أو حتى رئيس الوزراء أمام البرلمان لمناقشة التقرير، مع إمكانية أن يتم التصويت على حجب الثقة عن الحكومة أو الوزير المعني إذا لم يرض مجلس الشعب عن رد الحكومة على تقرير اللجنة البرلمانية.
أما إذا استنفد مجلس الشعب كافة الوسائل الأدوات المتاحة أمامه من توجيه أسئلة وطلبات إحاطة وطرح موضوعات عامة للنقاش وإنشاء لجان لتقصي الحقائق وثم استجواب الحكومة، فإنه يظل أما البرلمان أن يسعى لحجب الثقة عن أحد وزراء الحكومة أو أن يقرر مسئولية رئيس الوزراء. وقد ناقشنا في القسم الخاص بالمسئولية السياسية للحكومة الإجراءات المتعلقة بسحب الثقة من الوزراء ومن الحكومة بأكملها، وبينا ما نعتبره عوار وخلل في هذه البنود وقلنا أنها تنطوي على تقليص لصلاحيات السلطة التشريعية بما يحد من فاعلية أهم أدواتها للرقابة على أداء السلطة التنفيذية، وهي إمكانية إسقاط الحكومة. لذا، اقترحنا أن تراجع النصوص الخاصة بتقرير مسئولية رئيس الوزراء (أي حجب الثقة عن الوزارة) لجعلها أكثر يسراً ولتمكين البرلمان من إسقاط الحكومة بمجرد موافقة أغلبية أعضائه.
أما وقد ناقشنا الوظيفتين التشريعية والرقابية لمجلس الشعب، نعرج هنا باختصار على ثالث الوظائف الرئيسية للبرلمان، وهي المسئوليات المالية. وتاريخياً، تعتبر سيطرة البرلمانات على حق التصرف في الموارد المالية للدولة وأوجه صرف هذه الموارد من أهم أدوات رقابة السلطة التشريعية على الحكومات. ومن هنا برزت عبارة "Power of the Purse" في الدول الغربية التي ترسخت لديها ثقافة الديمقراطية، وهي تعني حرفياً "قوة المحفظة"، أي أن قوة السلطة التشريعية تنبع من سيطرتها على "محفظة النقود" الخاصة بالدولة وآليات التصرف في هذه الأموال.
وتعد أهم الأدوار التي تضلع بها الهيئات النيابية في الدول الديمقراطية هي مناقشة وإقرار هذه المؤسسات للميزانية السنوية للدولة، وهو المبدأ الذي أخذت به الدساتير المصرية منذ دستور 1923. وبالنسبة لدستور 1971، فقد أوجبت المادة 115 "عرض مشروع الموازنة العامة على مجلس الشعب قبل شهرين على الأقل من بدء السنة المالية، ولا تعتبر نافذة إلا بموافقته عليها. ويتم التصويت على مشروع الميزانية باباً باباً وتصدر بقانون، ولا يجوز لمجلس الشعب أن يعدل مشروع الموازنة إلا بموافقة الحكومة، وإذا لم يتم اعتماد الموازنة الجديدة قبل السنة المالية عمل بالموازنة القديمة إلى حين اعتمادها". ثم أتت المادة 116 لتوجب موافقة مجلس الشعب على نقل أي مبالغ من أحد أبواب الميزانية إلى أبواب أخرى، بالإضافة إلى اشتراط موافقة المجلس على أي مصروفات لم ترد بالموازنة. وبعد انتهاء السنة المالية، ألزم الدستور أن تقدم الحكومة إلى البرلمان الحساب الختامي لميزانية الدولة.
والنقد الرئيسي الذي نود أن نوجهه لهذه النصوص يتمثل في حرمان مجلس الشعب من تعديل أو مراجعة الميزانية، بما يقصر دور البرلمان على مجرد التصديق على ما تقدمه له الحكومة، فلا يملك المجلس إلا الموافقة أو الاعتراض على الميزانية بأكملها، وهو نص لم يرد في دستوري 1923 و1930، وإنما استحدثته دساتير العهد الجمهوري. لذا، فإننا نرى أنه يمكن للجمعية التأسيسية التي ستضع الدستور المصري الجديد أن تستقي من خبرات الدول الأخرى في هذا الشأن بهدف تقوية شوكة مجلس الشعب المصري في مواجهة السلطة التنفيذية من خلال منحه صلاحيات أكبر فيما يتعلق بالميزانية. وبالتحديد، فإننا نود استرعاء الانتباه إلى ما يقوم به الكونجرس الأمريكي من إجراءات أثناء مناقشته للموازنة الأمريكية، حيث تتضمن الموازنة 13 باباً، يتم مناقشة كل منها على حدة، ويصادق الكونجرس على كل منها بموجب قانون يصدره، ثم يتبعه قانون موحد للموازنة الفدرالية الأمريكية ككل. والغرض من ذلك هو إتاحة الفرصة للكونجرس لمناقشة الحكومة في كل بند من بنود الموازنة وكافة أبوابها وإقرار كل منها على حدة، مما يعني أن مناقشات الكونجرس تكون ثرية ويتاح لنواب الشعب الأمريكي أن يناقشوا السلطة التنفيذية في المبالغ التي حددتها لمختلف الوزارات والهيئات والبرامج الحكومية.
ونحن لا نقول أنه يتعين على المشرع الدستوري المصري أن ينهل مباشرة من التجربة الأمريكية، وإنما الغرض هو أن نقترح أن نتبع ذات الفلسفة التي تتيح للمؤسسة التشريعية سيطرة اكبر ونفوذ أوسع في عملية إعداد وإقرار الميزانية. لذا، فيمكن أن يسمح الدستور المقبل للبرلمان أن يقر كل باب من أبوب الميزانية على حدة بعد مناقشته مع وزارة المالية ومع الوزارة أو الهيئة الحكومية المعنية بهذا الباب، بالإضافة إلى منح مجلس الشعب حق تعديل مشروع الميزانية المقدم له من الحكومة، وذلك للتأكد من أن أوجه إنفاق الموارد المالية للدولة تعبر بصدق عن أولويات ورغبات الشعب المصري.
وإضافة لما تقدم، فإننا نرى أن من أهم الخطوات التي يتعين أن نتخذها في اتجاه الحياة الديمقراطية السليمة في مصر هي تحقيق الشفافية فيما يتعلق بميزانية الدولة وأوجه صرفها، وهو ما سيسهم في مكافحة ظاهرة الفساد التي كشفت التحقيقات التي جرت في أعقاب ثورة 25 يناير عن مدة استشرائه في العديد من أجهزة الدولة. وستتحقق الشفافية من خلال الإجراءات التي اقترحناها فيما سبق كالسماح للبرلمان بتعديل الميزانية المقترحة من قبل الحكومة، وتكليفه بإقرار كل باب من أبوب الميزانية على حدة، بدلاً من الاكتفاء بمناقشته للحكومة بشأنها وإقرار الميزانية برمتها. كما نقترح أن يعاد النظر في المادة 123 من دستور 1971 التي تقول: "يحدد القانون القواعد والإجراءات الخاصة باستغلال موارد الثروة الطبيعية والمرافق العامة، كما يبين أحوال التصرف بالمجان في العاقرات المملوكة للدولة والنزول عن أموالها المنقولة والقواعد والإجراءات المنظمة لذلك". ونحن نرى أن من أخطر ما اتسم به الفساد في مصر قبل ثورة 25 يناير هو أنه كان مقنناً ومشرعناً من خلال القوانين واللوائح. وليس هذا مقام الحديث عن آليات التصدي للفساد الإداري، فموضوعنا هنا هو شرح ونقد نصوص دستور 1971. ولكن في إطار تناولنا للدستور وتقديمنا لمقترحات لملامح دستور جديد يؤسس لحياة ديمقراطية سليمة في البلاد، فإننا نرى إمكانية اشتراط موافقة البرلمان على إقامة مشروعات ترتبط باستغلال الموارد الطبيعية للبلاد. ونحن لن تطرح نص دستوري محدد في هذا الشأن لأن الأمر يتطلب مناقشة ودراسة معمقة من قبل المختصين في مجال مكافحة الفساد والملمين بأساليب عمل الأجهزة البيروقراطية للدولة في المجالات المرتبطة بالموارد الطبيعية وكيفية إدارتها وتنميتها، إلا أننا نرى ضرورة أن ترتكز فلسفة النص الدستوري على عدم إحالة مسألة إدارة الموارد الطبيعية برمتها للقانون، بحيث يصدر قانون بشأنها مرة واحدة يترك تنفيذه بالكامل للسلطة التنفيذية. وإنما نرى إمكانية أن يمنح البرلمان دور أكبر في مراجعة المشروعات التي تقوم بها الحكومة والعقود التي تبرمها لاستغلال الموارد الطبيعية للبلاد والامتيازات التي تمنحها للشركات المحلية والأجنبية لإدارة هذه الموارد والتصرف فيها.
وتعزيزاً للشفافية وتعميقاً لرقابة البرلمان على أداء الحكومة فإننا نرى إعادة النظر فيما جرت عليه العادة من إبقاء بعض أوجه الإنفاق الحكومي سرية وغير متاحة للمناقشة في البرلمان. وبالتحديد، هناك ضرورة لإضفاء قدر أكبر من الشفافية على عملية مناقشة وإقرار ميزانيات كافة الهيئات والأجهزة الحكومية في مصر، بما في ذلك رئاسة الجمهورية والأجهزة المرتبطة بالأمن القومي كوزارات الدفاع والخارجية والداخلية. وإدراكاً منا لخطورة وحساسية هذه الموضوعات التي تمس أمن مصر وسلامتها، ورغبة منا في إقامة توازن بين مبدأ الشفافية واعتبارات الأمن، فإننا نرى إمكانية بحث تقسيم ميزانيات هذه الأجهزة إلى أنواع متعددة تتمتع كل منها بمستوى مختلف من درجات سرية. فيمكن أن تناقش ميزانيات بعض الجهات بعلنية وشفافية كاملتين، كميزانية وزارتي الخارجية والداخلية وبخاصة ميزانية جهاز الأمن الوطني الذي حل محل جهاز مباحث أمن الدولة. أما ميزانيات وزارة الدفاع وأجهزة أمنية أخرى، فيمكن أن تعرض ميزانياتها على للجان برلمانية متخصصة تجرى جلساتها سريا، على أن تناقش هذه اللجان بعض بنود ميزانيات هذه الجهات (كميزانية جهاز الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة ومفردات مرتبات ومعاشات الشرائح المختلفة من ضباط هذه الوزارات والأجهزة)، فيما تبقى بنود أخرى سرية وتعرض في شكل مبالغ كلية وإجمالية غير مفصلة (كميزانية الإنتاج الحربي ومجمل ميزانية الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة وميزانيات التسليح وأوجه صرف برامج التعاون الأجنبية وميزانيات أجهزة الأمن القومي السرية). ونود أن ننوه إلى أن هذه الإجراءات متبعة بالفعل في دول أخرى، فعلى سبيل المثال تظل حسابات وميزانيات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية سرية وغير معلنة للجمهور، ولكنها تراجع من قبل الـ Office of Management and Budget (مكتب الشئون المالية والإدارية التابع للبيت الأبيض)، ولجنتي شئون الاستخبارات في مجلسي الشيوخ والنواب اللتان تعقدان جلساتهما سرياً.
أما بالنسبة لجباية الضرائب، وهو آخر صلاحيات مجلس الشعب التي سنتناولها، فقد اشترط دستور 1971 ألا تنشأ الضرائب العامة أو تعدل أو تلغى إلا بقانون. ومعنى هذا أنه لا يجوز إقامة الضرائب العامة إلا بموافقة مجلس الشعب. والمقصود بالضرائب العامة هي تلك التي تكون سارية في جميع سكان الجمهورية، بعكس الضرائب المحلية التي تصدر وتنشأ بقرار من المجالس المحلية، والتي لا تتطلب موافقة مجلس الشعب لإقامتها. وقد اتفق دستور 1971 في ذلك مع ما سبقه من دساتير في العهدين الجمهوري والملكي.
2. مجلس الشورى:
لم ينص دستور 1971 في بادئ الأمر على إنشاء مجلس للشورى، إنما أضيف هذا المجلس إلى السلطة التشريعية المصرية بموجب تعديل دستوري في عام 1980. وكانت أغلب صلاحيات المجلس وفق نص تعديلات 1980 الدستورية استشارية، فكان المادة 195 تنص على وجود أخذ رأي المجلس في مجموعة من الأمور التشريعية والقانونية، دون أن يكون رأي المجلس إلزامياً، إلا أن التعديلات الدستورية التي أقرت في 2007 عادت وراجعت صلاحيات مجلس الشورى ووسعتها لتمنحه سلطات تشريعية من خلال اشتراط موافقة المجلس على التعديلات الدستورية المقترحة من قبل رئيس الجمهورية أو مجلس الشعب، ومشروعات القوانين المكملة للدستور، وبعض أنواع المعاهدات الدولية. فيما أبقت التعديلات الدستورية الأخيرة على المهام الاستشارية لمجلس الشورى من خلال النص على ضرورة أخذ رأي المجلس في بعض الأمور، من بينها خطة التنمية الاقتصادية للدولة، ومشروعات القوانين التي يرى الرئيس إحالتها إليه، وما يطلب الرئيس التعرف على رأي المجلس بشأنه من أمور تتصل بالسياسة العامة أو الشئون الخارجية.
أما بالنسبة لتشكيل مجلس الشورى، فقد قسمت نصوص الدستور وتعديلاتها عضوية المجلس إلى ثلثين ينتخبون بالاقتراع السري المباشر، يكون نصفهم من العمال والفلاحين، وثلث يعينهم رئيس الجمهورية، دون أن يشترك أن يكونوا من العمال والفلاحين. وتكون عضوية المجلس ستة أعوام.
وقد طالب العديد من الخبراء والسياسيين في أعقاب ثورة 25 يناير بإلغاء مجلس الشورى إما لأن معظم اختصاصاته استشارية، أو بسبب توظيف النظام السابق له كأداة للمجاملات السياسية ولمحاباة المقربين من السلطة. ومن جانبنا، فنحن نميل للإبقاء على مجلس الشورى، لأسباب متعددة سنوجزها لاحقاً. ولكن قبل أن نستعرض دوافعنا لتفضيل الإبقاء على المجلس، يتعين أن نشير مجدداً إلى أن أحد أهم مشاكل الحكم في مصر كانت إساءة تطبيق مبادئ دستورية ونماذج لنظم سياسية مما أفرز مؤسسات مشوهة الشكل والبنيان، أي أن المشكلة لم تكن في تبني نظرية قانونية معينة أو منهج معين لإدارة الدولة، وإنما كانت في تطبيق مبادئ دستورية بشكل ملتوي ويشوبه العوار. وهذا هو ما حدث بالنسبة بمجلس الشورى، فوجود مجلس أو محفل آخر في البرلمان بجانب مجلس الشعب ليس بالضرورة أمر سيء وقد تكون له فوائده، وهو ما نناقشه هنا.
عادة ما تقرر الدول أن تتكون سلطتها النيابية من مجلسين أحدهما للنواب وآخر للشيوخ في حالتين، إما أن تكون دولة فدرالية تحتاج لمحفل تُمثل فيه كافة الوحدات المكونة للاتحاد الفدرالي على قدم المساواة، أو أن تكون دولة ملكية يتطلب نظام حكمها – عادة لأسباب تاريخية – لوجود هذا المجلس ليضم في عضويته النخب الأرستقراطية التي كانت مهيمنة على الحياة السياسية في أزمان وحقب سابقة. لذلك، فإننا مقتنعين بأنه لا توجد حاجة ملحة لوجود مجلساً آخر في السلطة التشريعية المصرية بجانب مجلس الشعب، خاصة وأنه تم الاستغناء عن هذا المجلس بالفعل في ظل جميع الدساتير التي صدرت خلال سنوات حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ولم يعاد إنشائه إلى في عام 1980 وفي صورة مجلساً للشورى لا يتمتع بنفس السلطات الواسعة التي كانت موكلة لمجلس الشيوخ في ظل دستوري 1923 و1930. ولكن، وبرغم عما تقدم، فإننا نرى فائدة في وجود هيئة تشريعية أخرى بجانب مجلس الشعب تسانده في أداء وظائفه الرقابية والتشريعية وتعاونه في مناقشة القضايا الوطنية الملحة. وتنبع توصيتنا هذه من واقع قراءتنا للمشهد السياسي المصري. فهناك أربعة طوائف من القوى على المسرح السياسي المصري حاليا، هي التيارات الدينية بمختلف مشاربها وتوجهاتها وبتعدد تجاربها السياسية، وقوى متناثرة في شتى أنحاء ومحافظات الجمهورية ترتكن إلى عوامل العصبية القلبية والعلاقات العائلية، وأطراف تعتمد على قوة وسطوة المال لديها مصالح تحتم عليها الاشتغال بالسياسة، وأخيراً أحزاب سياسية ورثناه من فترة ما قبل ثورة 25 يناير ومعظمها غير فعال وينقصها القواعد الشعبية التي تمكنها من تحقيق مكاسب سياسية كبيرة وبعضها الآخر مازال في مرحلة الإنشاء والتكوين وهي أيضاً سيصعب عليها فرض نفسها على الخريطة السياسية.
وبين هذا وذاك، قد يلاحظ القارئ أن الفئة الأقل حظاً والأكثر تهميشاً ستكون مثقفي مصر ومفكريها وغيرهم من أصحاب الخبرات المتميزة في مختلف مناحي الحياة، وهم كلهم سيصعب عليهم المساهمة في الحياة السياسية، فلا هم ممن تكونت لديهم ثروات تمكنهم من الإنفاق على العمل السياسي، وعادة يكونون ممن لديهم شبكة علاقات عائلة وقبلية تصل بهم إلى البرلمان، كما أن العديد منهم ليسوا ممن ينتمون إلى تيار ديني معين. لذا، تبقى الأحزاب السياسية هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن لهذه الفئة من المصريين أن تشتغل بالسياسة. إلا أن هذه الأحزاب، وكما أسلفنا، ستحتاج لفترة قد تطول لبناء هياكلها وترسيخ جذورها وبلورة برامجها وتعريف الشعب المصري بها، مما يعني أن هذه النخبة المصرية التي نحن في أمس الحاجة لمساهماتها قد تجد نفسها مهمشة نسبياً في المشهد السياسي.
لذا، فقد يكون من الملائم أن ينظر المشرع الدستوري في إنشاء مجلس للشورى على شاكلة مجلس الشيوخ الذي اقترحته لجنة الخمسين التي أعدت مشروع دستور 1954، والذي ضم في عضويته ممثلين لطوائف مجتمعية مهمة قد يجعل واقع الحياة السياسية من الصعب أن يحظوا بعضوية مجلس الشعب. وإذا اتبعنا نفس منهجية واضعي دستور 1954، فإنه يمكن أن يتكون مجلس الشورى من 150 عضواً ينتخب خمسيهم بالاقتراع السري المباشر، ويعين رئيس الجمهورية الأعضاء الستين الآخرين، على ألا تترك عملية الاختيار خاضعة لأهواء الرئيس كما كان الحال في ظل دستور 1971، وإنما أن ينص الدستور الجديد على قواعد وضوابط تحدد أسلوب الاختيار والشرائح والطوائف والجهات التي يحق للرئيس أن يختار منها أعضاء مجلس الشورى المعينين. وبالتحديد، نرى انتهاج نفس الأسلوب الذي تبناه مشروع دستور 1954 والقائم على تخصيص 30 مقعداً لشخصيات تنتخب من قبل مجموعة من هيئات العاملة في المجال الاقتصادي والاجتماعي، كنقابات العامل والعاملين بالمهن الزراعية (وهو ما يمثل نوعاً من التعويض لإلغاء نسبة 50% عمال وفلاحين) والغرف التجارية والحرفية ونقابات المهن الحرة كالأطباء والمهندسين والمحامين. أما الفئة الثانية من الأعضاء غير المنتخبين وهي أيضاً تتكون من 30 عضواً، فيمكن أن تشمل شخصيات سياسية بارزة ورموز الفكر والعلم والدين كرؤساء حكومة ووزراء سابقين، وقضاة وضباط قوات مسلحة ودبلوماسيين متقاعدين، ومديرين عموم متقاعدين من الجهاز الإداري للدولة، وشخصيات كنسية وأئمة وشيوخ سابقين من الجامع الأزهر الشريف، وممثلين من المجالس القومية المتخصصة، كالمجلس القومي لحقوق الإنسان. وبالنسبة لهذه الفئات التي تعين مباشرة من قبل الرئيس، فإنه يمكن اشتراط موافقة الحكومة لضمان عدم استئثار مؤسسة الرئاسة بتحديد الشخصيات المعنية في المجلس.
أما بالنسبة لاختصاصات مجلس الشورى، فإننا نرى أنها يمكن أن تقسم إلى ثلاثة أقسام، الأول تشريعي، ويضم اشتراط مناقشة المجلس وموافقته على أي تعديلات دستورية تقترح من مجلس الشعب أو السلطة التنفيذية، بالإضافة إلى تكليفه بالموافقة على التشريعات المكملة للدستور في بعض المجالات التي يحددها المشرع الدستوري (ونرى أن الموضوعات الواردة في المادة 194 من دستور 1971 تشكل أساساً جيداً لتحديد اختصاصات المجلس)، على ألا تمس مجالات نرى ضرورة استئثار مجلس الشعب بها. وثانياً، نرى أن يساهم مجلس الشورى في الرقابة على السلطة التنفيذية من خلال تكليف رئيس الوزراء بإلقاء بيان الحكومة أمام المجلس، الذي يحب له مناقشته وإبداء الرأي بشأنه، دون أن يكون له حق التصويت عليه، والذي نرى أنه حق يتعين أن يظل في يد مجلس الشعب وحده. كما يمكن أن يكون لأعضاء المجلس توجيه أسئلة للوزراء ومناقشتهم فيها، دون أن يكون لهم حق طرح الثقة في الحكومة أو الوزراء. وثالثاً اختصاصات استشارية، ومنها أن يتاح لرئيس الجمهورية أو الحكومة استطلاع رأي مجلس الشورى فيما تراه من موضوعات تتصل بالصالح العام. كما يمكن أن يسمح لأعضاء المجلس طرح ما يرون أنه يمس الصالح العام للنقاش، على أن يحيطوا مجلس الشعب والحكومة علماً بالرأي الذي خلصوا في الموضوع محل النقاش.
وبذلك يتحول مجلس الشورى إلى وعاء لمفكري الأمة وحكمائها ومنبر يساهمون من خلاله في صياغة مستقبل البلاد، مع تفادي العيوب التي شابت تجربة مجلس الشورى منذ إنشائه في عام 1980، فلن يكون لرئيس الجمهورية أو للسلطة التنفيذية حرية اختيار أعضاء المجلس المعينين وفق أهوائهم أو مصالحهم السياسية، وإنما سيُلزمون بتعيين من تنتخبهم مجموعة من الهيئات والجهات الفاعلة في المجتمع، بالإضافة إلى اختيار شخصيات تنتمي لجهات محددة وطوائف معينة في المجتمع، الأمر الذي نرى أنه سيسهم في الارتقاء بمستوى ومضمون النقاشات والآراء في السلطة التشريعية وسيثري الحياة النيابية المصرية.
3. سيادة القانون والسلطة القضائية:
نتناول في هذا القسم، وهو الأخير في استعراضنا وتعليقنا على دستور 1971، أجزاء الدستور التي تنظم السلطة القضائية وترسي مبدأ سيادة القانون. والسلطة القضائية هي العنصر والمكون الثالث الذي يكتمل به، بجانب السلطتين التنفيذية والتشريعية، بنيان الدولة وكيانها، حيث يتولى القضاء الفصل في المنازعات التي تنشب بين المواطنين وبعضهما البعض، بالإضافة إلى فض المنازعات التي تقوم بين المواطنين وأجهزة الدولة. أما مبدأ سيادة القانون، والذي نتناوله ونشرح مضمونه في الفصل (رقم)، فهو الأساس الذي تنبني عليه مشروعية قرارات الدولة وأحكام القضاء، فبدون سيادة قانون يتحول الحكم في البلاد من نظام له أسس وقواعد إلى فوضى تسود فيها شهوة من هم في السلطة.
وسنبدأ هذا القسم بعرض تنظيم القضاء الدستوري في البلاد، ثم نعرج على فصول دستور 1971 المنظمة لمرفق القضاء، ومنها إلى الفقرات الخاصة بسيادة القانون، ثم نختتم بالتعليق على النصوص التي أوردها الدستور بشأن مكافحة الإرهاب.
أولاً: القضاء الدستوري:
يقصد بالقضاء الدستوري تلك الأجهزة القضائية المكلفة بمراجعة وتقرير مدى دستورية القوانين المطبقة في البلاد. وتتميز مصر، رغم عراقة قضائها وشموخه، بخبرة محدودة نسبياً في مجال القضاء الدستوري، حيث كان دستور 1971 هو الأول الذي نص صراحة على إنشاء محكمة دستورية عليا تختص بنظر الطعون المقدمة في دستورية القوانين، فقد خلت جميع الدساتير السابقة على دستور 1971 من أي إشارة إلى قضاء دستوري، إلا أن هذا لا يعني أن مصر لم تعرف القضاء الدستوري مطلقاً. وإنما كانت جميع المحاكم المصرية بمختلف درجاتها واختصاصاتها تمارس حق الرقابة الدستورية، دون أن تختص محكمة أو جهة واحدة بممارسة تلك المهمة.
وقد عالج المشرع المصري هذا الفراغ في منظومة القضاء المصري وأنشأ المحكمة العليا بموجب القانون رقم 81 لسنة 1969، والتي وصفت بأنها الهيئة القضائية العليا في البلاد، واختصت، ضمن أمور أخرى، بالنظر في دستورية القوانين. وثم جاء المشرع الدستوري ونص في دستور 1971 صراحة على إنشاء المحكمة الدستورية العليا التي تتولى هي مهمة تلقي الطعون الدستورية. وبالتحديد، تتولى المحكمة الدستورية العليا عدة مهام جاء بعضها في المادة 175 من الدستور، وهي أولاً "الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح"، وثانياً "تفسير النصوص التشريعية". وأضاف قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر في 1979 إلى هذه الاختصاصات مهمة الفصل في المنازعات التي تنشب بين الجهات القضائية بشأن موضوعات الاختصاص.
وقد نص الدستور على مجموعة من الضمانات المهمة بشأن المحكمة وقضاتها، حيث وصفت المحكمة بأنها "هيئة قضائية مستقلة قائمة بذاتها" ، وأن أعضائها "غير قابلين للعزل". ومن جانبنا، كنا نفضل أن ينص الدستور في هذا الفصل المخصص للمحكمة الدستورية العليا على أن "قضاة المحكمة الدستورية العليا مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون"، ولذلك مثلما ورد في المادة 165 من الدستور بشأن السلطة القضائية، حيث أن اختلاف الصياغة قد يومئ للقارئ أن قضاة المحكمة الدستورية لا يتمتعون بنفس ما يحظى به أقرانهم في القضاء العادي من ضمانات لاستقلالهم. أما بالنسبة لآليات تعيين القضاة الدستوريين، فقد جاءت المادة 3 من قانون المحكمة لتحدد الفئات التي يجوز أن يختار من بينهم أعضاء المحكمة، وهم أعضاء المحكمة العليا التي ألغيت بصدور دستور 1971، وأعضاء الهيئات القضائية، وأساتذة القانون، والمحامين الذين ترافعوا أمام محكمتي النقض والإدارية العليا. أما بالنسبة لآلية اختيار قضاة المحكمة، فقد أناط القانون برئيس الجمهورية مهمة تعيين رئيس المحكمة، دون اشتراط موافقة أي جهة أخرى على اختيار الرئيس. أما بالنسبة لأعضاء المحكمة، فقد نص القانون على قيام الرئيس بالاختيار بين مرشحين الأول مقدم من رئيس المحكمة والثاني من الجمعية العامة للمحكمة، على أن يتشاور الرئيس مع المجلس الأعلى للهيئات القضائية قبل اتخاذ القرار النهائي. ونرى أن هذه الآلية في اختيار تشوبها عيوب كثيرة تتمحور حول السلطة الزائدة التي يتمتع بها رئيس الجمهورية – الذي يرأس السلطة التنفيذية – في تحديد عضوية المحكمة. لذا، فإننا نقترح أن يراجع المشرع المصري آلية تعيين قضاة المحكمة الدستورية العليا، بحيث يتم إخراج رئيس الجمهورية والسلطة التنفيذية من عملية الاختيار والتعيين، أو على الأقل الابتعاد عن استئثارهما بها من خلال إشراك مجلسي الشعب والشورى والمجلس الأعلى للقضاء.
ثانياً: السلطة القضائية:
أفرد دستور 1971 الفصل السابع من الباب الخامس لتنظيم السلطة القضائية وذلك في 9 مواد أرست المادتين الأولى والثانية منها على مبدئي استقلال القضاء والقضاة، فجاءت المادة 165 بأن "السلطة القضائية مستقلة، وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفق القانون"، وأضافت المادة التالية أن "القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضايا أو في شئون العدالة". ويشير الفقه إلى أن مبدأ استقلال القضاء لا يعني أن ينفصل القضاء عن الدولة ومؤسساتها، فالقضاء، وكما أشرنا سابقاً، هو أحد الأعمدة الثالثة التي ترتكن عليها الدولة. وإنما يقصد باستقلال القضاء أنه يتولى وحده دون تدخل من أي جهة أو سلطة أخرى الفصل في المنازعات القانونية المعروضة عليه، بالإضافة إلى استقلال القضاة في عملها وعدم تلقيهم أوامر أو توجيهات أو تأثيرات من أي جهة وعدم خضوعهم لأي اعتبار سوى القانون وأحكامه وضمائرهم وما تمليه عليهم.
هذا، وقد أحال الدستور إلى القانون مهمة تنظيم مرفق القضاء وتحديد اختصاصات المحاكم ودرجاتها وكيفية عملها. وبالتالي فلن نتطرق لما قد يعتري القوانين المنظمة للأجهزة القضائية من مثالب أثرت على أدائها خلال الأعوام الماضية لكوننا نركز هنا أساساً على مواد دستور 1971 ونعلق عليها. وفي هذا الإطار، يستوقفنا في المواد التسعة التي أفردها المشرع الدستوري للسلطة القضائية ما جاء بالمادة 173 بأن "يقوم على شئون الهيئات القضائية، مجلس أعلى يرأسه رئيس الجمهورية. ويبين القانون طريقة تشكيله واختصاصاته وقواعد سير العمل فيه، ويؤخذ رأيه في مشروعات القوانين التي تنظم شئون الهيئات القضائية". وتعد هذه المادة تجسيداً وتعبيراً آخر لما تحدثنا عنه طوال تناولنا لدستور 1971 وطبيعة نظام الحكم الذي أقامه، حيث أضفت على رئيس الجمهورية – الذي يفترض أنه يرأس السلطة التنفيذية وليس غيرها – صفة رئيس المجلس الأعلى للهيئات القضائية الذي أناط به الدستور سلطة إدارة شئون القضاء، وهو ما يعد إخلالاً فادحاً بمبدأ الفصل والتوازن بين السلطات. وسينجلي للقارئ مدى الضرر الذي ألحقته هذه المادة باستقلال القضاء والقضاة عندما يعلم أن هذا المجلس ضم في تشكيله، بجانب رئيس الجمهورية الذي رأسه، كل من وزير العدل، ورئيس هيئة قضايا الدولة (وهي الهيئة المكلفة بالدفاع عن الحكومة أمام المحاكم)، والنائب العام (المعين من قبل رئيس الجمهورية والتابع إدارياً لوزير العدل)، ومدير النيابة الإدارية، بالإضافة إلى عضوين آخرين يعينهما رئيس الجمهورية. أي أن السلطة التنفيذية تستحوذ على سبعة من أصل أربعة عشر عضواً يضمهم المجلس، الأمر الذي يؤمن للحكومة نفوذاً كبيراً على السلطة القضائية وشئونها. لذا، فإننا نوصي بإلغاء المادة 173 وإعادة صياغتها بشكل يقصي رئيس الجمهورية من رئاسة المجلس الأعلى للهيئات القضائية ويضمن الاستقلال الكامل للقضاء عن سيطرة أي جهة أخرى في الدولة ويبعد السلطة التنفيذية عن عملية إدارة وتسيير شئون القضاء.
إضافة لما تقدم، فإننا نرى أنه لا داعياً للإبقاء على المادة 170 من دستور 1971 والتي تنص على أن "يسهم الشعب في إقامة العدالة على الوجه وفي الحدود المبينة في القانون"، وهو نص يتعين أن نعترف أننا لا نفهم مغزاه أو جدواه أو لزومه. فما معنى أن يساهم الشعب في إقامة العدالة؟ وما المقصود بالعدالة أصلاً، هل هي العدالة الاجتماعية، أم العدالة بمفهومها القانوني؟ وما علاقة ذلك بعمل القضاء؟ وهل يعني ذلك أن ذلك بالنسبة لعمل المحاكم والقضاة؟ وما أشكال مساهمة الشعب في إعلاء كلمة العدل؟ فهل يفتح ذلك الباب للمحاكم الشعبية وغيرها من الممارسات التي تغيب عنها ضمانات العدالة والمشروعية؟ كلها تساؤلات تثيرها المادة 170 والتي نرى أن ينأى المشرع الدستوري بمصر ودستورها المقبل عن هذه الصياغات الغامضة المبهمة التي تثير اللغط وينقصها الانضباط والوضوح وتبتعد عن المنطق والمنهج القويم.
وأخيراً، نتعرض لمجموعة من أهم الموضوعات التي وجهت الانتقادات لدستور 1971 بسببها، ألا وهي السلطات التي منحها الدستور للحكومة لإنشاء قضاء استثنائي والافتئات على الحقوق والحريات العامة في سبيل مكافحة الإرهاب. وقد جاءت هذه الموضوعات مقسمة على عدة مواد، أولها المادة 171 التي منحت الدولة إنشاء محاكم أمن الدولة وتركت للقانون تحديد ولايتها واختصاصها وإجراءاتها والقضاة الجالسين على منصتها، وهي المحاكم التي انتُقد نظامها لما كان يتسم به من تقليص لحقوق تعد من شروط المحاكمات العدالة. ورغم إلغاء الحكومة للقانون رقم 105 لسنة 1980 الخاص بمحاكم أمن الدولة في عام 2007، إلا أن هذا النص ظل في الدستور، مما كان يتيح للدولة إعادة إنشاء هذه المحاكم إن أرادت. لذا، فإننا نوصي بحذف هذه المادة والابتعاد في الدستور المقبل عما يُنقصُ من ولاية القضاء أو ينشئ قضاء موازي للقضاء الطبيعي أو يؤسس لمحاكم يكون أشخاص من غير القضاة أعضاء فيها، كما كان الحال في محاكم أمن الدولة العليا. هذا لا يعني أنه ليس من حق الدولة أن تنشئ دوائر تتخصص في القضايا الأمنية، ولكن بشرط أن تراعى فيها كافة ضمانات المحاكمات العادلة والشرعية الجنائية.
أما الموضوع الآخر الذي أثار حفيظة الكثير من مدافعي حقوق الإنسان وخلق سخطاً عميقاً على التعديلات الدستورية التي أجريت في عام 2007، فهو ما جاءت به المادة 179 التي كانت تتناول دور المدعي العام الاشتراكي وثم استبدلت بمادة تكون وحدها الفصل السادس من دستور 1971 المعنون "مكافحة الإرهاب". وهنا يتعين أن نقول أننا لسنا على علم بأي دستور آخر في أي دولة أفرد فيه فصل بأكمله – حتى ولو كان من مادة واحدة – لمكافحة الإرهاب. فالدساتير عادة ما تسعى لوضع الأسس العامة لنظام الحكم وتحدد صلاحيات السلطات العامة وتقرر الحقوق والحريات العامة، وليس للتعامل مع قضية أمنية بعينها وهي مكافحة الإرهاب. أما إذا نظرنا إلى مضمون المادة فسنرى أنها تضمنت أحكاماً خطيرة للغاية، على رأسها أنها سمحت للدولة أن تتجاهل أثناء اتخاذها الإجراءات الكفيلة بالتصدي للإرهاب كافة الحقوق الواردة في المواد 41 التي تكفل الحرية الشخصية وتصون المواطنين من التفتيش والحبس وتقييد حريتهم دون وجه حق ودون أمر قضائي، و44 التي تقرر حرمة المساكن وتحظر تفتيشها أو دخولها إلا بأمر قضائي، و45 التي تحمي الحياة الخاصة للمواطنين، من الدستور. وإضافة لذلك، منحت هذه المادة لرئيس الجمهورية أن يقرر إحالة أية جريمة إلى أية محكمة أو جهة قضائية منصوص عليها في الدستور. وكان الغرض من هذه المادة هو إضفاء الشرعية الدستورية على قيام الرئيس السابق بإحالة المدنيين إلى المحاكم العسكرية رغم ما تفتقده تلك المحاكم، المخصصة لمحاكمة رجال القوات المسلحة أصلاً وليس المدنيين، من ضمانات للمحاكمات العادلة والمنصفة. وقد استخدمت هذه المحاكم بالفعل للنظر في قضايا تلونت بالطابع السياسي البحت، كإحالة قيادات وأعضاء بجماعة الإخوان المسلمين إليها بتهمة الانتماء لجماعة محظورة، وذلك رغم تبرئتهم من قبل محاكم مدنية، وهو ما يعد التفاف على الشرعية القانونية وعلى سيادة القانون واستقلال القضاء.
ويدفعنا هذا النص إلى القول أنه يبدو أن الحكومة لم تكفها السلطات الاستثنائية الواسعة التي منحها الدستور للرئيس والصلاحيات العريضة التي تمتعت بها الأجهزة الأمنية بموجب قانون الطوارئ، فرأت أن تضفي على إجراءاتها الاستثنائية شرعية دستورية إضافية وأن تفرغ الباب الخاص بالحقوق والحريات العامة من مضمونه وأن تجعله غير فعال في الأوقات التي تكون فيه هذه الحقوق أكثر عرضة للمساس بها، فضلاً عن إمعانها في تقويض صلاحيات وسلطات القضاء وخلق مسار قضائي مواز للقضاء الجنائي العادي تتمتع السلطة التنفيذية في مواجهته بنفوذ يجعلها المهيمن على عمله والموجه لنشاطه، وهو أمر يهدم يقضي على الشرعية الجنائية ويهدم سيادة القانون. وبالطبع، فإننا ضرورة ابتعاد المشرع الدستوري عن أن يتضمن الدستور المقبل للبلاد مثل هذه المادة، والاكتفاء بما سبق وأوصينا به بشأن صلاحيات السلطة التنفيذية في أوقات الطوارئ والضرورة التي تناولناها سابقاً.
ثامناً: خلاصة وخاتمة حول دستور 1971 والانتقال إلى الجمهورية الثانية:
أربعون عاماً مضت ومصر تحكم بموجب دستور 1971 الذي دعا الرئيس الراحل أنور السادات إليه ليكون دستوراً دائماً للبلاد، ولكن حركة التاريخ أبت أن تتوقف وإرادة الشعب المصري عصت على أن تستكين، فأسقطت دستور 1971 "الدائم" ونظامه الحاكم. ومن مفارقات القادر أن تكون آمالنا وطموحاتنا لمصر ولمستقبلها ودستورها المقبل مشابهة تماماً لما كان يخالج الرئيس الراحل السادات عندما دعا لإعداد الدستور "الدائم"، حيث قال في كلمته أمام مجلس الأمة في 20 مايو 1971: "عايزين نبني هذا المجتمع الجديد اللي إحنا نريده لنفسنا ... مجتمع الحرية مجتمع الكرامة ... مجتمع يحس فيه كل فرد بالأمن والطمأنينة على يومه وعلى غده وعلى أبنائه من بعده". وسؤالنا هنا هو هل نجحت الدولة المصرية على مدار العقود الأربعة التي مضت منذ كلمات الرئيس السادات أن تقيم مجتمعاً حراً ينعم فيه المصريون بالكرامة؟ ونحن نرى أنه رغم النجاحات التي تحققت – والتي يجب الاعتراف بها إحقاقاً للحق والتاريخ – فإن ثورة 25 يناير 2011 لما كانت أن تقوم وتطيح بالرئيس السابق حسني مبارك ونظامه إذا كانت الدولة قد أقامت العدل وكفلت الحرية وصانت الكرامة. فقد تعددت وتنوعت أعراض فشل الدولة المصرية للنهوض بالمجتمع، فمن نظام تعليمي خرج أجيالاً جاهلة إلى منظومة صحية أمرضت المصريين، ومن خدمات اجتماعية أهملت المجتمع بمن فيه إلى اقتصاد أفقر في ظله أغلب أبناء الشعب، ومن حياة سياسة جرفت ونضبت إلى ديمقراطية غابت عن البلاد. وما من شك أن أسباب إخفاق النظام السياسي اختلفت وتعددت، فمنها ما هو سياسي ومنها ما ارتبط بالفساد وآخر ما اتصل بالاقتصاد وآخر تعلق بقوانين وتشريعات.
وبين هذا وذاك يأتي دستور 1971 وتعديلاته الثلاثة (1980 و2005 و2007) ليحتل مركزاً متقدماً بين الأسباب العديدة التي أودت بالنظام الحاكم في مصر إلى الهاوية. وقد سعينا على مدار هذا القسم لبيان طبيعة نظام الحكم الذي أقامه الدستور وتحديد أبرز العيوب والمثالب التي اعترت بنيان هذا الدستور ونصوصه، كما طرحنا اقتراحات لما يمكن أن يدخله المشرع الدستوري من تغييرات في شكل الدولة ومؤسساتها والعلاقة فيما بينها في الدستور الجديد حتى يصبح هذا الدستور أحد قاطرات التحول الديمقراطي والرخاء الاقتصادي والازدهار الاجتماعي في البلاد. ومنطقنا في ذلك أنه عندما تجلس الجمعية التأسيسية التي ستتولى إعداد الدستور المصري الجديد فإنه سيتعين عليها أن تنظر إلى الماضي القريب وتتعلم من دروسه وتستطلع والحاضر ومتطلباته حتى تستطيع أن تصوغ دستوراً ينقلنا إلى المستقبل الذي نرجوه لبلدنا. لذا، فكان الهدف من هذا القسم، وكما أسلفنا، إبراز نقاط الضعف في الدستور وتقديم رؤى لكيفية معالجتها في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة في البلاد.
وبعد أن استعرضنا دستور 1971 بتفاصيله ونصوصه، يمكننا أن نطل على هذه الوثيقة التي مثلت قمة الهرم القانوني المصري على مدار أربعة عقود وأن نخلص إلى مجموعة نتائج وملاحظات، أولها أن هذا الدستور – كغيره من الدساتير الصادرة بعد ثورة 1952 – جاء من رحم النظام وبناء على مبادرة من السلطة وصيغ بإيعاز وتوجيه منها. فرغم أن السلطة قالت أن هذه الدساتير كانت معبرة عن رغبات الشعب وآماله، إلا أنها كانت في حقيقة الأمر انعكاساً لرؤية "الزعيم الخالد" جمال عبد الناصر و"الرئيس المؤمن بطل الحرب والسلام" أنور السادات، فكليهما لم يتركا للمشرع الدستوري حرية صياغة النظام السياسي الذي يراه مناسباً للبلاد، بل حددا وبوضوح وعلنية رؤيتهما لشكل وهيكل الدولة الذي ينبغي للدساتير أن تؤسسها، وهي الرؤية التي تركت بصمتها على الدستور وحددت طبيعته وملامحه. لذا، فإننا نقول أن دستور 1971 لم يأت معبراً عن إرادة شعبية خالصة، بل جاء من عباءة السلطة ومعبراً عن رؤيتها ومجسداً لأفكار الزعيم أو الرئيس.
لذا، فإننا نعود هنا لما اقترحناه سابقاً حول ضرورة منح الفئات المختلفة في الشعب المصري حق المشاركة في صياغة الدستور المقبل للبلاد. ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال تعريف الجمهور دورياً وإحاطته علماً بما يجري في أروقة وجلسات الجمعية التأسيسية من نقاشات ومداولات حول الدستور، مما سيطلق حوار مجتمعي ثري مثل الذي شهدته البلاد إبان الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذي أجري يوم 19 مارس 2011 ويعطي لمعدي الدستور فكرة وافية عن التيارات والتوجهات التي تموج بها الأمة ورأي مثقفيها فيما هو مطروح أن يرد في الدستور. كما نرى إمكانية عقد جلسات استماع للمواطنين والهيئات المختلفة، كالنقابات والجمعيات الأهلية وحتى المواطنين العاديين من خلال مؤتمرات شعبية تعقد في مختلف المحافظات، الأمر الذي سيخلق إحساساً بالملكيّة لدى المواطن المصري وسيجعله طرفاً فاعلاً في عملية إعداد الدستور الذي سيحكمه، بما يرسخ قيم الحرية والديمقراطية والمشاركة السياسية. كما سيسهم ذلك في توعية المواطن بالدستور وما فيه من مواد وحقوق وواجبات، الأمر الذي سيجعله يدلي بصوته خلال الاستفتاء على الدستور وأن يحسم رأيه إزائه وهو على بينة من أمرة.
وثاني التحفظات التي نسجلها على دستور 1971 ترتبط بما وصفناه على مدار هذا القسم بأنه "تطبيع الاستثناء"، فلم يكتف الدستور بالإخلال بالتوازن بين السلطات وتركيز الصلاحيات في يد السلطة التنفيذية، بل تمادى في ذلك بإنشاء أطر وأدوات تنفيذية وتشريعية وقضائية استثنائية كبديل مواز للوسائل الدستورية الطبيعية لإدارة شئون البلاد. فاختلق الدستور مسارات قضائية متعددة بجانب القضاء الطبيعي كمحاكم أمن الدولة ومحاكم أمن الدولة (طوارئ) والمحاكم العسكرية، كما منح الرئيس المزيد من الصلاحيات الاستثنائية للانفراد بحكم البلاد وإدارة دفتها بحجة التصدي لأحوال طارئة، كما انشأ مساراً تشريعياً موازياً للطرق الطبيعية لإصدار القوانين بمنح الرئيس حق إصدار قرارات لها قوة القانون دون وضع الضوابط المناسبة امنع إساءة استغلال هذه السلطة.
وقد أتاحت هذه الثغرات الدستورية للسلطة التنفيذية أن تفتئت على الدستور ذاته وأن تفرغ العديد من مبادئه من مضمونها وتبطل مفعولها وأن تضفي شرعية زائفة على إجراءات يعتريها العوار. وجعلت من إدارة دفة البلاد بالوسائل الاستثنائية أمر طبيعي، وخلقت ثقافة تستهين بالدستور وبسيادة القانون. لذا، فقد اقترحنا على مدار هذا القسم العديد من الخطوات الواجب النظر فيها وبحثها لتقليص ظاهرة السلطات الاستثنائية والأجهزة الموازية للطرق العادية والطبيعية لحكم البلاد، ومنها تقليص صلاحيات الرئيس والحكومة في أحوال الطوارئ، وتقوية شوكة مجلس الشعب للرقابة على الإجراءات المتخذة من قبل الدولة للتصدي لهذه الحالات، والابتعاد عن إقامة الهيئات القضائية الاستثنائية أو إحالة المدنيين إلى محاكم عسكرية، وتعظيم دور الحكومة في مواجهة مؤسسة الرئاسة، وإخضاع السلطة التنفيذية بصفة عامة لرقابة أكثر صرامة من قبل البرلمان.
أما الخلاصة الثالثة والأخيرة، وهي الأهم في نظرنا، فتتعلق بنظام الحكم الذي أقامه دستور 1971، فقد يتبادر لمن يتأمل ملامح دستور 1971 أنه أسس نظام يمكن وصفه بأنه "رئاسي/برلماني مختلط"، أي أنه مزج بين خصائص النظامين البرلماني والرئاسي. كما قد يتصور قارئ دستور 1971 أن المشرع الدستوري المصري سعى لمحاكاة نظام الحكم الذي أسسه الدستور الفرنسي لعام 1958 والذي يعد النموذج الأبرز للدساتير التي تخلط بين النظامين الرئاسي والبرلماني. إلا أن من يطالع تفاصيل دستور 1971 المصري ونصوصه يكتشف أنه دستور فريد من نوعه. فإذا اعتبرنا أن الفلسفة التي ترتكن إليها النظم البرلمانية – كالقائم في بريطانيا أو أسبانيا أو الهند – هي إقصاء رئيس الدولة من المعادلة السياسية وجعل منصبه شرفياً ورمزياً، فهذا يعني أن مصر لم تكن بحال من الأحوال جمهورية برلمانية. أما إذا اعتبرنا أن النظام الرئاسي الصرف – كالمطبق بالولايات المتحدة الأمريكية – يقوم على تكليف رئيس الجمهورية بإدارة السلطة التنفيذية دون وجود رئيساً للوزراء، واقتصار دور الوزراء على معاونة الرئيس وتنفيذ أوامره، على أن يقابل سلطات الحكومة صلاحيات واسعة للسلطة التشريعية، فبالتأكيد لم تكن مصر جمهورية رئاسية. وإذا قلنا أن النظام المختلط – من الناحية النظرية – تقتسم فيه مؤسستي الرئاسة والحكومة صلاحيات السلطة التنفيذية وتخضعان معاً لمحاسبة ورقابة البرلمان الذي يتمتع بسلطات واسعة تقابل وتوازن ما تحظى به السلطة التنفيذية، فإنه لا يصعب علينا أن نجزم أن مصر لا يمكن أن نتدرج ضمن الدول التي أقامت نظاماً "رئاسياً/برلمانياً مختلطاً".
وتشي نصوص الدستور وما سجلته السنوات الأربعين منذ صدروه بحقيقة أن هذا دستور أقام نظاماً فريداً. فقد أبقى الدستور على العديد مما جاءت به دساتير الحقبة الناصرية من نصوص ومبادئ أوتوقراطية وانتقى من النماذج السياسية المختلفة ما يناسب أهواء النخبة الحاكمة ويخدم نزعاتها السلطوية. فأخذ من دساتير ثورة يوليو 1952 إضعافها للبرلمان، وافتئاتها على الحقوق والحريات العامة، وتركيزها للسلطات في يد مؤسسة الرئاسة التي منحت صلاحيات استثنائية غير محدودة. كما اقتبس دستور 1971 من النظم الرئاسية هيمنة الرئيس على السلطة التنفيذية وتوليه رسم السياسات العامة للدولة وإدارة دفتها، دون أن يأخذ ما يقابل هذه السلطات من صلاحيات واسعة تتمتع بها السلطة التشريعية. كما نقل من النظم البرلمانية فكرة وجود حكومة مسئولة سياسياً أمام السلطة التشريعية، إلا أنه جعلها حكومة مسلوبة الإرادة وخاضعة تماماً لرئاسة الجمهورية التي لم يقرر الدستور في مواجهتها أية آلية لتقرير مسئوليتها السياسية. فيما نقل الدستور من النظم "الرئاسية/البرلمانية المختلطة" فكرة ثنائية السلطة التنفيذية وتقاسمها بين رئاسة الجمهورية والحكومة، إلا أنه جعلها ثنائية غير متوازنة وغير متكافئة، جعلت – كما قلنا سابقاً – من الحكومة تابعاً مطيعاً للرئيس. والخلاصة أن هذا الدستور أخذ من نظم دستورية متعددة مبادئ ومفاهيم غير مكتملة أفرزت لنا في نهاية المطاف وثيقة معيبة وكيان سياسي يشوبه الاعوجاج والعوار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق